فكر وفلسفة

المفكرون الأربعة الذين أعادوا اختراع الفلسفة

ترجمة: سارة حبيب - كاتبة ومترجمة سورية

بين الحربين العالميتين، سعى أربعة مفكرين (لودفيغ فيتغنشتاين، ومارتن هايدغر، وإرنست كاسيرر، وفالتر بنيامين) إلى تغيير العالم بإعطائه كامل انتباههم؛ وهو درسٌ لا يزال صداه يتردّد بعد نحو مئة سنة.

في عام 1936م، ألقى الكاتب الألماني اليهودي فالتر بنيامين، وهو يكتب من المنفى في باريس، نظرة على عواصف الماضي القريب بيأس بصير.

لقد حدث كل شيء بسرعة كبيرة حدّ أنه كان من الصعب تسجيلُ ما حدث فعلًا. نوعٌ جديد من التقنية الحربية الوحشية إلى درجة شنيعة، كارثةٌ اقتصادية، ومستوياتٌ صادمة من الإفلات من العقاب السياسي، خرّبت كلّها العالم إلى حدٍّ كبير.

«الجيل الذي كان يذهب إلى المدرسة بعرباتٍ تجرّها الخيول يقفُ الآن تحت السماء المفتوحة في ريفٍ تغيّر فيه كل شيء ما عدا الغيوم، وتحت هذه الغيوم، في حقلٍ من قوة الانهمارات والانفجارات المدمِّرة، كان الجسد البشري ضئيلًا هشًّا»، كتب بنيامين.

واليوم، تحت السماء المفتوحة ذاتها، يحدّق جيلٌ آخر في الغيوم بقلق، ضئيلًا، هشًّا، وسريع العطب للغاية، كما أكدت المدة الأخيرة. ولذلك، يمكننا القول: إننا ربما لم نحتج قط إلى مفكري بدايات القرن العشرين بأكثر مما احتجناهم بعد انتهائه.

فقبل أقل من عشرين سنة، بدا كما لو أننا أتقنّا الحداثة. وبانَ ظاهريًّا أننا تعلمنا كيف نتمتّع بعالمِ ما بعد الحداثة والسوق الحرة، ونفيد منه؛ لم تعد رمال اللايقين المتحركة- الأخلاقية، السياسية، أو الفلسفية– مصدر خوف. أما الآن، فلم يعد أحد واثقًا تمام الثقة.

ولذلك، لا عجب أن يكون كتاب فولفرام أيلِنبيرغِر «زمن السَّحَرة» الذي نُشر أولًا بالألمانية عام 2018م وتُرجِم إلى الإنجليزية عام 2020م، قد استُقبل بمثل هذه الحماسة. إنه بمنزلة عوامةِ إنقاذٍ فكرية أُلقِيَت من الماضي إلى الحاضر.

ويمكن أن ندعو الكتاب حَدَثًا، لولا أن أيلِنبيرغِر لا يريدنا أن نتعلم من الفلسفة الحديثة وحسب، بل كذلك، وبالقدر نفسه من الأهمية، أن نكون يقظين إزاء بعض المزاعم الكبرى لأولئك الفلاسفة الذين يتباهون بأنهم وقفوا على شفا الهاوية.

  • لكي يومض العالم مرة أخرى

يُرجعنا «زمن السَّحَرة» إلى المدة بين عامي 1919م و1929م؛ وهو عقدٌ بدأ بالسلام وانتهى بعواقب كارثية، منها انهيار سوق الأسهم المالية، وتأرجح أوربا الأخير نحو الفاشية.

في تلك السنوات العشر، فكّر أربعة رجال أوربيين: لودفيغ فيتغنشتاين، ومارتن هايدغر، وإرنست كاسيرر، وفالتر بنيامين- بتركيزٍ، بهوسٍ، وأحيانًا على نحو محفوف بالمخاطر، بكيفية الإجابة عن أقدم أسئلة الفلسفة؛ ما الإنسان؟ كيف ينبغي أن أعيش؟ إضافة إلى السؤال الذي هو ربما أكثر هذه الأسئلة أهمية: كيف يسعني في مثل هذه الظروف أن أطرح مثل هذه الأسئلة؟

يتناول «زمن السَّحَرة» أربعة مفكرين: فتى مُعذّب اجتماعيًّا، غنيّ، زاهد، مزقته الحرب (فيتغنشتاين)، نرجسيٌّ يجعل بذلاته تُخاط على نحو خاص لكي يقارب هيئة حلمه: رجل الجبل الجلف (هايدغر)، شهوانيٌّ أخرق من الطبقة الوسطى، ميؤوس منه في الحب وفي الحياة على السواء (بنيامين).

ورجلٌ أكبر سنًّا، ابيضَّ شعره بالفعل، يهودي، ملتزمٌ التزامًا عميقًا بالماضي، خائفٌ مسبقًا من المستقبل (كاسيرر). إن أيًّا من أولئك الرجال متقدي الذهن لم يتوافق تمامًا مع المدارس والمؤسسات الفلسفية الموجودة آنذاك. وما من أحد منهم رغب في ذلك، على الرغم من أباطيلهم العديدة.

لقد أراد الأربعة أن يُحدِثوا تغييرًا جذريًّا، وليس لمجرد التباهي. واعتقد كل واحدٍ منهم أن إعادةَ تفكيرٍ جسورة باليقينيات، اختراقٌ للعرف والأشياء السطحية، وخرقٌ للأكاذيب والزيف، هي وحدها ما يمكن أن يدفع الفلسفة، والبشرية، إلى موقعٍ ترى منه العالم على حقيقته.

السِّحر الذي حقّقه أولئك المفكرون المشهورون بصعوبتهم بسيطٌ على نحو خادع. فكلّ واحد منهم، بطريقته الخاصة، عرّى الفلسفة وصولًا إلى هيكلها الأساسي من أجل جعل العالم يومض مرة أخرى. لقد رأوا أنه ما مِن أسسٍ مطلقة للوجود، للمعرفة، أو للعيش، يمكن أن يُلقَى الضوء عليها بأدوات الفلسفة القديمة: السحرُ الحقيقي، حسب زعمهم، موجودٌ أمام أعيننا.

بالنسبة إلى فيتغنشتاين (المولود في فيينا عام 1889م) يكمن السحر في المنطق الأوليّ لما تُظهره اللغة، وليس فيما نفترض أنها تخبرنا إياه. في حين أن كاسيرر (المولود عام 1874م، فيما كان يُدعى حينها سيليزيا) أعاد، على نحو مماثل، اكتشافَ ألغاز الحياة البشرية عبر التفاعل التاريخي الغني بين الرموز والكلام.

أما هايدغر (المولود في جنوب غرب ألمانيا عام 1889م) فكان نوعًا أكثر قتامة من السَّحَرة، وحثّنا على أن نقفز إلى العدم الذي يُحدّق فينا وجهًا لوجه؛ إذ يجب علينا، وفق قوله، أن نفهم مشروع وجودنا في العالم (الدازاين: «الكينونة في العالم»)، وحدنا، ومن غير مساندة اليقينيات الغيبية القديمة، وبقلقٍ إنما بأصالة.

أما بنيامين (المولود في برلين عام 1892م) فكان أقل اقتناعًا بالأصالة. وكان مسحورًا بأعاجيب اليومي المُبرِّئَة؛ تلك اللحظات التي بوسعها أن تستعيد الحياة لأجلنا في لمح البصر، وإن يكن على نحو سريع الزوال (واجهة متجر مثلًا، أو كلمة).

حنة أرندت
حنة أرندت

لقد عرف أولئك المفكرون واحدهم الآخر، على الرغم من أنهم (باستثناء كاسيرر وهايدغر لمدة قصيرة) لم يكونوا أصدقاء. ولذلك، واحدة من هدايا أيلِنبيرغِر لنا هو إدخالُ مفكريه في المحادثات الخيالية التي نتمنى لو أنهم خاضوها فعلًا. يكتب أيلِنبيرغِر: «تخيلوا، على سبيل التجربة، شابين يتجولان عبر المدينة، وفجأة يقول أحدهما للآخر:

كم هو غريبٌ أن يوجد أيّ شيء! كم هو مُعجزٌ: هناك! وهناك! ألا تراه أنت أيضًا؟

فيهزّ الرجل الآخر رأسه ويجيب: نعم، أراه. إنه يُظهِر نفسه لي أيضًا. أتعرف، أفكّر دومًا: ليس المُلغِز شكلُ وجود العالم، بل أنه موجود أصلًا».

الشاب الأول هو هايدغر، والثاني هو فيتغنشتاين الذي كان يكتفي بأن الاثنين متفقان ويبقى هادئًا؛ في حين أن الأول، الذي لم يحب شيئًا بقدر ما أحب المشي والكلام، كان ليغتنمَ الفرصة لكي يقول المزيد.

إن أولئك المفكرين الأربعة يصرخون بنا من عمقِ أيامهم الحالكة: انظروا فحسب، انظروا جيدًا، إلى ما هو أمام أعينكم. اقرؤوا، لاحظوا، صِفوا، اتبعوا عقولكم، كونوا شجعانًا، نقديين، خلّاقين، مدهشين، وقبل كل شيء، لا تنخدعوا بالعادات السهلة، الكليشهات المبتذلة، العقائد المتزمتة، الأيديولوجيات، المِلَل، أو الهراء التعموي.

لا بد أن يكون غاب عن بالنا كم في هذه الرؤى من التمكين. لكنْ، بحلول الجزء الأخير من القرن العشرين، وجدت أعمال فيتغنشتاين، وهايدغر، وبنيامين مكانها على الرفوف الصنوبرية للمكتبات المستقلة. وعرف طلاب الفلسفة، التفكيكية، والنظرية النقدية، كلٌّ بما يخصّه، أين عليهم أن يبحثوا لكي يجدوا رجالهم.

  • دور الفلسفة الحقيقي

مِلَلٌ جديدة نشأت؛ وتبع ذلك في بعض الأحيان عقائدُ متزمتة، وحشو وإطناب. وما كان لي أن أكون المُنظّرة النقدية المبتدئة الوحيدة في هذه المدة التي اتضح لها «دازاين» هايدغر باطّراد في حانةٍ مليئة بالدخان. أما كاسيرر فوحده بقي في الغرفة الخلفية للفكر المعاصر.

لقد كان هؤلاء المفكرون مثيرين للاهتمام، غير أن عرضَ فكرهم ومدى إلحاحية إبداعهم ظلّا مستغلقين حتى مع تحوّل أفكارهم إلى اتجاه سائد.

كذلك، أُغفِلَت الظروف التاريخية والسياسية التي كان عملهم استجابة لها. وعلى هذا، ثمة ابتذالٌ في صلب سردية «زمن السَّحَرة»، ابتذالٌ كامنٌ في كوننا نعلم ما حدث بعد ذلك؛ وما حدث كان كارثيًّا.

فكما يخبرنا أيلِنبيرغِر في خاتمة الكتاب الموجزة، طُرِد كاسيرر من وظيفته التدريسية في (مايو) أيار 1933م بموجب قانون معاداة السامية الهتلريّ المعروف بِــ«قانون استعادة الخدمة المدنية المهنية» وذهب إلى المنفى.

وفي الشهر ذاته، ألقى هايدغر، الذي كان حينها عضوًا مسجلًا في الحزب القومي الاشتراكي (النازي)، خُطبته الشائنة بوصفه رئيس جامعة فرايبورغ، مُعلنًا دعمه هتلر ولـِ«تأكيد الذات» العنيف للجامعة الألمانية بحق.

وبعد سبع سنوات، قتل فالتر بنيامين نفسه في بورتبو، بعد أن كان قد جرّ جسده الضئيل الهشّ على جبال البيرينيه ليُقال له: إن قوانين الحدود تغيرت، وإن عليه أن يعود إلى فرنسا المحتلة. وحده فيتغنشتاين نجا ليطرح السؤال: «الفلسفة: ماذا بعد؟».

فولفرام أيلِنبيرغِر
فولفرام أيلِنبيرغِر

مع هذا، معرفتنا ما حدث لاحقًا هو ما يجعل شروحات أيلِنبيرغِر الفلسفية المتأنية والخبيرة قيّمة وفي حينها. يبدأ الكتاب وينتهي بلقاء بين هايدغر وكاسيرر في المؤتمر الفلسفي في دافوس، سويسرا، في (مارس) آذار عام 1929م. في هذا اللقاء، كان جدالهما بعيدًا من الأكاديمية المباشرة.

وكان كاسيرر، الذي بدا متعبًا ومنزعجًا، يتعافى من الزكام. وشرح أنه يتحدّى أسس الفكر الفلسفي لكي يُظهر ما يهم حقًّا: النظم الرمزية التي نعطي بوساطتها المعنى لأنفسنا بوصفنا بشرًا، جماعيًّا ومعًا. أما هايدغر -قادمًا

للتو من المنحدرات، نافخًا الثلج عن شاربه- فردّ بأن هذه البشرية الجماعية، الثقافة الجماعية، والحضارة الجماعية، كانت شركًا آخر، إلهاءً غير أصيل عن دور الفلسفة الحقيقي.

في حين أن وظيفة الفلسفة الملائمة هي أن تضعنا في مواجهة مع الهاوية: عندها فقط يمكن أن ينبثق إنسان جديد أصيل. كان جمهور هايدغر مسحورين بكلامه. لقد حُسِم الأمر، لا سبيل للتراجع، وليس فيما يخص الفلسفة الحديثة وحسب.

«إن أيًّا من هؤلاء المفكرين لم يكتب يومًا في الأخلاقيات بالمعنى التقليدي، أو حتى حاول فعل ذلك»، يكتب أيلِنبيرغِر في واحد من تصريحاته اللاذعة الكثيرة. و«قد كانت لديهم أسبابهم». وهذا حقيقي.

وأحد هذه الأسباب أنهم كانوا جميعًا، ما عدا كاسيرر، أنانيين بدرجة غير عادية. والسبب الآخر أنه ما من أحد منهم، على رغم أنهم حثّونا على أن نرى ما هو أمام أعيننا، كان على وجه الخصوص بارعًا في رؤية ما كان يحدث في العالم.

معظم النشاط الفلسفي في تلك المدة انطلق من جامعة فيليبس في بلدة ماربورغ الصغيرة، شمال فرانكفورت. ماربورغ هي المكان الذي درس فيه كاسيرر، وحصل هايدغر على منصبه أستاذًا جامعيًّا لأول مرة، وفيها خلب لبّ تلامذته بمحاضراته المؤسِّسة عن «السفسطائي» لأفلاطون في خريف 1924م.

وبين مستمعي غرفة المحاضرات رقم 11 في تلك الجامعة، كانت التلميذة التي سيقيم هايدغر علاقة معها قبل نهاية الفصل، وهي الفيلسوفة السياسية الشابة حنة آرنت (المفكرة الرئيسة في هذا الكتاب التي يُشار إليها أحيانًا باسمها الأول).

كما تجدر الإشارة إلى أنه في شهر مايو من ذلك العام، حاز حزب فولكيش النازي في ماربورغ ثلاثةَ أضعاف أصوات المتوسط الوطني في انتخابات الرايخستاغ.

وكانت تلك إشارة تحذيرٍ مبكّرة، إنما متماشية إلى حدٍّ ما مع تاريخ البلدة الأخير. ففي عام 1920م، ذبح أعضاء من الميليشيا الطلابية، «Studenkorps» خمسةَ عشرَ يساريًّا بريئًا في الريف. وكان يكفي أن تحدّق عبر النوافذ العالية لقاعة المحاضرات رقم 11 لترى أن شيئًا كان يحدث.

امشِ اليوم إلى جامعة فيليبس عبر شارع بارفوس، اصعد الدرجات التي كان هايدغر يقفز عليها صاعدًا إلى محاضراته، ربما بمعدّل درجتين في كل قفزة، وسيكون بوسعك أن ترى المنزل الذي اختبأ فيه ضابط الغيستابو (البوليس السري النازي) كلاوس باربي، سفاح ليون، عام 1946م.

لقد دهن الناشطون المحليون أبواب ذلك المنزل ونوافذه برسوماتٍ إخبارية، كما لو أنهم تعلموا دروس كاسيرر حول الإبقاء على الإنسانية حاضرةً من خلال الإشارات والرموز. قد تميد الأرض تحت أقدامنا مرة أخرى، وتتغير الأمور كثيرًا، غير أنه في هذه الأيام بات التذرّع بالبراءة التاريخية أو السياسية أكثر صعوبة.

  • إسهام أربع فيلسوفات

عام 1951م، أخذت آرنت -التي كانت في حينها أكبر سنًّا وأكثر حكمة من ذي قبل- فكرة فالتر بنيامين حول انهمارات وانفجارات بدايات القرن العشرين وضمّنتها في عملها العظيم «أصول الشمولية».

كان الاثنان قد أصبحا صديقين في برلين وباريس. وحسبما شرحت آرنت، بدا أن ذلك الأجيج الأول «قد أطلق سلسلةَ تفاعلاتٍ علقنا فيها منذ ذلك الحين، وما من أحد كان قادرًا على إيقافها، على ما يبدو».

في ذلك الوقت، بدا كما لو أن العالم امتطى طاحونة ولم يعد يعرف كيف ينزل عنها. وتبع ذلك حربٌ شاملة، فاشية، انعدام جنسية، إبادة على مستوى صناعي، و«مصانع جثث». من الواضح إذًا أن أولئك السحرة لم يقدّروا ما هم بصدد مواجهته حقّ التقدير، وكان لذلك أثرٌ مُهلك.

من جانب آخر، آرنت موعودة بأن تبرز في كتاب أيلِنبيرغِر التالي وهو رباعية أخرى ستضم هذه المرة، إلى جانب آرنت، سيمون دو بوفوار، سيمون فايل، ومحبوبة المحافظين الليبرتاريين الأميركية آين راند؛ وهذا الأخير اختيارٌ يثير الاهتمام.

وسيكون من المغري بالطبع أن نرى ثلاثًا من أولئك النسوة يكملْن النقاط العمياء التاريخية والأخلاقية لأسلافهن. على سبيل المثال، أخذت آرنت دروس هايدغر عن الكينونة، غير أنها عوضًا عن بطوليات الأصالة المُهلكة، طورت نظرية التعدد البشري التي أكّدت الحبَّ ووعدَ السياسة.

أما بوفوار فزوّدت الوجودية بأخلاقيات الالتباس التي هي ضرورية، في رأيها، لمشروع الصيرورة في عالم معقد. في حين أن معاصرتها، الفيلسوفة الفرنسية الملغزة سيمون فايل، وجدت أن مظالم العالم الحديث غير مُحتملة، وردّت بأخلاقياتِ نعمةٍ مسيحية جديدة وحازمة. وسيكون من المشوّق أن نقرأ وجهة نظر أيلِنبيرغِر حول ما قد تضيفه راند هنا.

أما أنا، فقد كنت لأختار كاتبة أخرى في مكان راند: الشاعرة، الروائية، وكاتبة النصوص الأوبرالية، النمساوية وغير المقروءة كثيرًا للأسف، إنغيبورج باخمان، وهي ابنة نازي وحبيبة الشاعر والناجي من المحرقة بول سيلان (وحبيبة هنري كيسنجر لمدة وجيزة).

كتبت باخمان أطروحة الدكتوراه ضد هايدغر. وبتشكّكها بما لديه من تعمية مقصودة كامنة، كانت باخمان واحدة من جيل كتّابِ بعد الحرب الذين استخدموا اللغة الألمانية التجريبية وأخذوا على عاتقهم اجتثاث الفاشية من الأدب، والثقافة، ومن اللغة ذاتها.

كذلك، كانت باخمان من دارسي فيتغنشتاين واعتقدت، مثله، أننا لا نستطيع أن نواجه «افتتان عقلنا باللغة»، إلا من خلال انتباه متأنٍّ ومُدققٍ إلى اللغة ذاتها.

عند قراءة «زمن السَّحَرة»، أجد نفسي أفكر كثيرًا بكتابة باخمان، وليس بسبب ربطها المبتكر بين اثنين من أبطال الكتاب وحسب. إن كل رواية في سلسلتها غير المكتملة «Todesarten» (طرق الموت)، تصوّر موت امرأة مرتبط على نحو ما، وبطريقة غامضة، برجل آسر؛ كاتب، مفكر، أب، أو حبيب.

كما تبيّن القصص صراحةً الحقيقة المضمرة في وصف أيلِنبيرغِر لرجال لامعين يحاولون بجسارة أن يصفّوا حسابهم مع العالم الحديث. ثمة عمى ونرجسية، وهما ليسا محض زلّات فلسفية أو انعطافات نظرية خاطئة، بل ينتميان إلى عنف البطرياركية التاريخي.

وربما يكون هذا هو الأمر الأشدّ وضوحًا أمام أعيننا، الذي لم يتناوله بعدُ بالشكل الصحيح أي قدرٍ من التفكير النقدي الواضح.

ففي آخر الأمر، وعبر التاريخ، قلّما تعود الأجساد البشرية الضئيلة الهشّة لرجال أوربيين بيض. لكنْ، صادف أن عالمهم خرج عن مساره أيضًا في بدايات القرن العشرين. وقد يقول بعضٌ: إننا ندفع ثمن هذا منذ ذلك الحين.

النص الأصلي

مجلة الفيصل

مجلة الفيصل

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى