فريدريك فيلهيلم نيتشه (بالألمانية: Friedrich Nietzsche) فيلسوف وشاعر ألماني، كان من أبرز الممهدين لـ علم النفس، وكان عالم لغويات متميزاً. كتب نصوصاً وكتباً نقدية حول المبادئ الأخلاقية، والنفعية، والفلسفة المعاصرة، المادية، المثالية الألمانية، الرومانسية الألمانية، والحداثة عُموماً بلغة ألمانية بارعة.
يعد من بين الفلاسفة الأكثر شيوعا وتداولا بين القراء. كثيرا ما تفهم أعماله خطأ على أنها حامل أساسي لأفكار الرومانسية الفلسفية والعدمية ومعاداة السامية وحتى النازية لكنه يرفض هذه المقولات بشدة ويقول بأنه ضد هذه الإتجاهات كلها. في مجال الفلسفة والأدب، يعد نيتشه في أغلب الأحيان إلهاماً للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة.
روج لافكار توهم كثيرون أنها مع التيار اللاعقلاني والعدمية، استخدمت بعض آرائه فيما بعد من قبل أيديولوجيي الفاشية. رفض نيتشه الأفلاطونية والمسيحية والميتافيزيقيا بشكل عام، ودعا إلى تبني قيم جديدة بعيداً عن الكانتية والهيغيلية والفكر الديني والنهلستية.
سعى نيتشه إلى تبيان أخطار القيم السائدة عبر الكشف عن آليات عملها عبر التأريخ، كالأخلاق السائدة، والضمير. يعد نيتشه أول من درس الأخلاق دراسة تأريخية مفصلة. قدم نيتشه تصوراً مهماً عن تشكل الوعي والضمير، فضلا عن إشكالية الموت.
كان نيتشه رافضا للتمييز العنصري ومعاداة السامية والديانات ولاسيما المسيحية لكنه رفض أيضا المساواة بشكلها الاشتراكي أو الليبرالي بصورة عامة.
ولد نيتشه عام 1844 لقس بروتستانتي وكان العديد من أجداده من جهتي الأب والأم ينتمون للكنيسة. سماه والده فريدريك لأنه ولد في نفس اليوم الذي ولد فيه فريدريك الكبير ملك بروسيا، حيث كان والده مربياً للعديد من أبناء الأسرة الملكية وعاش حياة مدرسية عادية ومنضبطة، وسماه أصدقاؤه القسيس الصغير لقدرته على تلاوة الإنجيل بصوت مؤثر .
تأثر في شبابه بوحدة ألمانيا وزعيمها بسمارك ورأى فيه كمالاً للشخصية الألمانية. توفى والده وهو في الخامسة عشرة من عمره فعرف انقلاباً وجهه إلى التشاؤم واكتشف في نفس الوقت الفيلسوف الألماني شوبنهاور وانغمس في قراءة أعماله، كما عشق الموسيقى الكلاسيكية وقام بمحاولات لتأليفها.
في الجامعة، درس نيتشه الفيلولوجيا وتعلم اللغات القديمة واهتم في سنة التخرج بالمسرح والفلسفة الإغريقية القديمة حيث فضل الفلاسفة الذريين على الذين ظهروا فيما بعد كسقراط وأرسطو وتأثر بالفلسفة الأبيقورية بشكل خاص.
على الرغم من ضعف بصره وكونه الأبن الوحيد لأمه الأرملة، إلا أنه طُلب للخدمة العسكرية في الجيش الألماني المتصف بالصرامة وهناك وقع عن صهوة حصانه مما دفع بقائد فرقته أن يعفيه من الخدمة بعد إصابته ولكن نيتشه ظل طول عمره متأثراً بالحياة العسكرية والأخلاق الإسبارطية التي عرفها في الجيش.
بدأ نيتشه كتاباته بكتاب مولد المأساة الذي يتحدث فيه عن الأساطير الإغريقية وارتباط الحضارة بالموسيقى حيث كان نيتشه قد تعرف على الموسيقار الألماني الشهير ريشارد فاغنر ورأى فيه تجسيداً للعبقرية وعاش معه فترة رافقه فيها في رحلاته ولكن سرعان ما انقلب نيتشه ضده وكانت القطيعة بينهما هي الشرارة التي أطلقت فكر نيتشه مثل العاصفة على القيم الأوروبية.
إذ رأى في المسيحية انحطاطاً وأن النمط الأخلاقي الصائب هو النمط الاغريقي الذي كان يمجد القوة والفن ويستخف بالرقة والنعومة وطيبة القلب التي رآها من صفات المسيحية.
لام نيتشه الجامعات والمعاهد الألمانية على نبذها لشوبنهاور وغيره من الفلاسفة مما حدا بهم إلى نبذه هو الآخر حيث رأوا فيه عالماً لغوياً لا غير، وإن كان كتابه المأساة لاقى بعض المديح ثم أصيب نيتشه بمرض شديد وشارف على الموت حيث أوصى أخته “أن لا تدعو قسيساً ليقول الترهات على قبري أريد أن أموت وثنياً شريفاً”.
ولكنه بعد ذلك شفي وذهب إلى جبال الألب ليتعافى وهنالك كتب كتابه الأشهر “هكذا تكلم زرادشت” الذي مزج شعراً قوياً وحساساً مع مبادئ فلسفية مبتكرة وواقعية ونداء إلى نظرة فلسفية جديدة حيث أعاد النظر بالمبادئ الأخلاقية الفلسفية ولم تعد بعده الفلسفة الأخلاقية كما كانت .
كتب نيتشه بعدها العديد من الكتب ولكنها كانت تقريباً تعليقاً على هذا الكتاب الذي كان يعتبره أنجيله الشخصي ولكنه واجه صعوبات كبيرة في نشره ولم يلقى الكتاب ترحيباً كبيراً في أوساط الجامعات الألمانية المتمسكة بالمثالية الهيغيلية.
كانت علاقة نيتشه بأخته قوية وكان يحبها حباً كبيراً لذا تألم كثيراً عندما تزوجت برجل لا يحبه وسافرت لتقيم في مستعمرة اشتراكية في أوروجواي، كما أنه وقع في الحب عدة مرات لكنه فشل بسبب عينيه الحادتين ونظراته المخيفة برأي الفتيات لذا اتسمت حياته بالكآبة حتى نهايتها.
عانى نيتشه في نهاية حياته من مرض عقلي حيث دخل المصح العقلي لكن أمه العجوز سارعت بإخراجه ليعيش معها إلى أن توفى.
يعد فريدريك نيتشه من أهم فلاسفة أوروبا على الإطلاق حيث تغذي أفكاره العديد من التيارات الفكرية.
يعتقد نيتشه أن كلمة الحب تدل بالواقع على شيئين مختلفين بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة.
برأيه أن من شروط الحب عند الجنسين ألا يفترض الواحد الشعور عينه عند الآخر, ألا يفترض نفس فكرة الحب الخاصة به, لأن طريقة التلقي والتفاعل عند المرأة تختلف عنها عند الرجل.
إن ما تعنيه المرأة بالحب أمر واضح بما فيه الكفاية. إنه ليس مجرد التفاني, إنه هبة كلية للجسد والروح من دون أي شرط, من دون أخذ أي شيء آخر بعين الاعتبار, فهي إذ تحب تسقط من اعتبارها كل الشروط, وهي تخاف وتحمر خجلاً من فكرة التخلي, إن غياب الشروط بالنسبة للمرأة هو ما يجعل من حبها الإيمان الوحيد الذي تملكه.
أما الرجل فإذا أحب المرأة, فإن هذا هو الحب الذي يريده منها, وبكلمات نيتشه نفسه:
تريد المرأة أن تؤخذ, تريد أن تذوب في فكرة الملكية لأنها تفترض أن الرجل يأخذ, إنه لا يعطي نفسه, ولكنه يريد على العكس من ذلك أن يغني أناه بالحب ويتكاثر بالقوة, إنه يفهم الحب على أساس أن المرأة تمنح نفسها وهو, بصفته رجلاً, يزداد بها.
هذا الكلام لفيلسوف القوة نيتشه لا يعجب الناشطات في الحركة النسوية بالتأكيد, لأنه يضع مفاهيمهن موضع الشك والمساءلة, لكنه يصر عليه معتبراً أن الإخلاص جزء من الحب الأنثوي, ينتج عن تعريف الحب نفسه, ويمكن أن يولد بسهولة عند الرجل على إثر الحب كنوع من الاعتراف بالجميل أو من فطرة ذوقه أو كنوع من التلاؤم الانتقائي الذي قد لا ينتمي إلى ماهية الحب.
ويمكن للشاكيات من طغيان النظرة الذكورية عند الرجل أن يجدن في الكلام التالي لنيتشه ما يروق لهن:ونادراً ما يعترف الرجل وبشكل متأخر بهذه الملكية, ذلك بأن تعطشه الدقيق والأشد شكاً في التملك هو الذي يجعل حبه مستمراً, ويمكن له أن يستمر حتى بعد تخلي المرأة المكتمل, فالرجل لا يقبل بسهولة أنه لم يبق للمرأة شيء تتخلى عنه
في مؤلفه ‘’ العلم المرح’’ الذي يعرفه نيتشه بأنه فن وضع قبعة البهلوان أو رقصة العارف الخاصة، والفن الذي يمنح الانسان أعينا وآذانا للنظر والسماع بشيء من الحبور الى ما يكونه هو في حد ذاته.
يعيد نيتشه صياغة رأيه في المرأة فنقرأ في الفقرة المعنونة بـ ‘’إخلاص’’: ‘’هناك نساء نبيلات ذوات هزالة فكرية معينة، اللواتي لا يعرفن كيف يعبرن عن اخلاصهن الاكثر عمقا إلا بعرض عفتهن وحشمتهن: اسمى ما يملكن.
وغالبا ما يكون مقبولا مثل ما تفترضه المانحات- أمر محزن جدا’’ وفي ‘’ان يتظاهر المرء بطبيعته الخاصة’’ يقول: انها تحبه من الآن فصاعدا، ومنذ ذلك الحين وهي تنظر أمامها بثقة بقرة غبية: واحسرتاه’’ .
وفي ‘’قوة الضعفاء’’ يرى ان ‘’كل النساء يظهرن أنفسهن في غاية الرقة في تعظيم نقائصهن، ويتفنن في اختراعها ليظهرن هشات مثل التزيينات التي مجرد ذرة عفر تفسدها، فوجودهن يقتضي ان يشعر الرجل بثقله الخاص، وارهاق احساسه بذلك..هكذا يدافعن ضد حق القوي ‘’الرجل’’ على الضعيف’’ المرأة’’.
ودون استطراد مطول وقطف متوغل في اعماله التي تعددت وتشابهت، علينا ان نتساءل: ماهي الاسباب التي دعت هذا المفكر الجبار- كما يصفه دارسوه- الى اتخاذ هذا الموقف العدائي تجاه المرأة؟ .
تقول حمدة خميس :
في نصوص قصائده النثرية نقرأ هذا الحقد والعدائية تجاه المرأة :
‘’إن نحن قارنا بين الرجل والمرأة امكننا القول أن ما كان للمرأة ان تبدع الزينة لو لم تكن لها غريزة الدور الثاني’’.
‘’من قصص فلورنسا القديمة، ومن الحياة ايضا:المرأة جيدة كانت أم رديئة تحب الهراوة’’ ستؤكد هذه المرجعية قبول نيتشه بالقيم البالية حول المرأة، بل انه كرس هذه القيم في مسار فلسفته ومؤلفاته:
فهو يعيد ما كان شائعا: ‘’عندما يكون للمرأة ميل الى العلوم، فغالبا ما يكون ذلك علامة على أن جنسيتها قد اختلت…’’ وفي قصيدته ‘’سبعة أمثال عن النساء’’ نقرأ: ‘’الشيخوخة والعلم القاتم، يهبان الفضيلة حتى لأكثر النساء طيشاً’’.
‘’بالجوخ مزينة في صمت وفي لباسها الاسود..المرأة ممزقة..’’. ‘’شابة، هي كهف مزهر، عجوز، تنين من داخله يطلع’’ وفي هذا المقطع يتبدى الحرمان من المرأة في هذه الشهقة: ‘’اسم كريم، ساق جميلة..أه كم رغبت حيازتها’’!
وحتى في قصائد المرحلة الاخيرة من حياته’’خريف ‘’1888 نراه ثابتا على مفاهيمه العدائية تجاه النساء. ففي قصيدة ‘’ الساحرة’’ نقرأ هذا المقطع: ‘’الحقيقة انها أمرأة، ولا شيء أفضل.في حياتها ماكرة، ما تحبه أفضل-لا تريد معرفته-بأصابعها تخفيه-الى ماذا تخضع؟ فقط للقوة-اعتمدوا القوة، كونوا أشداء.
أنتم يا أكثر الناس حكمة، وجب عليكم إرغامها – الحقيقة المحتشمة- لسعادتها لا بد من إرغامها- إنها امرأة – لا شيء أفضل…’’
ومن نصوصه القصيرة «امثال ولذعات» نقرأ:
‘’خلق الرجل المرأة- وبماذا فعل ذلك؟ بضلع من إله- من مثاله..’’
هنا يبدو التناقض في هذا الاستطراد، فاذا خلق الرجل المرأة بضلع إله ومن مثاله، أفليست تشبه الرجل في قدراته؟ فلماذا تصبح طائشة وحمقاء ولا عمق لها، بل أنها حتى ليست منبسطة:
‘’نقول ان المرأة عميقة- لماذا؟ لأننا لا ندرك عمقها-المرأة ليست حتى منبسطة’’ هكذا ففي فلسفة نيتشه وفي موقفه من المرأة بل وفي ما يعتقد انه يعرفها، المرأة مجرد كائن خاوٍ لا عمق له ولا سطح، لأنها كائن ملتوٍ، مخادعة ولا ترى سعادتها إلا في خضوعها للرجل، بل من أجل سعادتها على الرجل أن يخضعا بالقوة، بالسوط والهراوة.
وحين تكون للمراة فضائل ذكورية فلا بد للرجل ان يهرب منها، اما اذا لم تكن لها تلك الفضائل فانها هي التي تهرب من الرجل خوفا واحساسا بالدونية: ‘’عندما يكون للمرأة فضائل ذكورية، فلا بد عندها من الهروب، وعندما لا يكون لها شيء من ذلك فهي التي تهرب’’.
يبلغ نيتشه اقصى تحقيره للمرأة في نص’’الصديق’’ من كتابه هكذا تكلم ‘’زرادشت’’: ‘’ لقد مرت احقاب طويلة على المرأة كانت فيها مستبدة أو مستعبدة فهي لم تزل غير أهل للصداقة..’’ ‘’ان حب المرأة ينطوي على تعسف وعماية تجاه من لاتحب….’’ ‘’لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفورا، واذا هي ما ارتقت اصبحت بقرة…!’’
يقول الباحثون ان سر كراهية نيتشه للمرأة سببه امرأة تدعى لو سالومي التي حطمت العديد من القلوب
ما السر الذي جعل ثلاثة عباقرة ( فرويد ، ريلكه، نيتشه) يهيمون حبا بلو اندرياس سالومي، هل جمالها ام ثقافتها او ماذا؟ هل كانت مصدر الهام للعبقرية او سبب جنون؟
لو اندرياس سالومي التي صدرت مجموعة كتب تتناول شخصيتها، كانت «أمثولة» للمرأة الملهمة للعباقرة، «المرأة البركانية» التي صعقت محبيها، عدا عن كونها شغلت الأوساط الأدبية والثقافية في بداية القرن الماضي، ما زال الكثير من الكتاب يسألون عن سر تعلُّق العباقرة بها بالذات.
لو سالومي، المرأة الروسية اليهودية التي ولدت عام 1861 وتوفيت عام 1937، كانت تخفي وراء نقاب جمالها ثقافة مبهرة، او عبقرية «سحرت» العباقرة، ربما تشبه الى حد ما مواطنتها غالا التي أحبت الشاعر بول ايلوار قبل أن تتزوج الرسام سلفادور دالي.
من يصدّق أن نيتشه، الذي أوصى بعدم الذهاب إلى المرأة من دون سوط، والذي كتب وقال كل ما من شأنه الحطّ من قيمتها وإنسانيتها، انتهى في مستشفى للأمراض العقلية بسبب غيرته على فتاة أحبها، ورفضت الزواج منه:
لو اندرياس سالومي، هي التي أفقدت نيتشه عقله، ثمة من قال أنها أوصلته إلى عيادة مدينة إيّنا (قسم الطب النفسي)، كما صرّحت بذلك أمه، ورعته حتى وفاتها العام 1897، وثمة من اعتبر أن نيتشه لم يكن محظوظا مع النساء.
حتى الآن لا يعرف أي مرض أصابه في الحقيقة، تبين أن أفرادًا من عائلته كانوا يعانون من أمراض نفسية، والنافل أنه عندما تعرفت لو سالومي الى فيلسوف الألمان كان عمرها لا يزيد على واحد وعشرين عاما، وكان نيتشه بلغ الثامنة والثلاثين من العمر وأنجز قسما كبيرا من أعماله، وتهيأ إلى الانعطاف الكبير الذي سيقوده الى «هكذا تكلم زرادشت». تعرف الى سالومي وأحبها فكتب لها قصائد عدة منها:
«إجعلي شعلتك، يا روحي، تتقد
دعيني في لهيب الصراع أجد جواباً لجوهرك اللغزي
دعيني أفكر وأحيا ألفاً من السنوات
وأرمي فيها كل ما لديك… كلّه.
وإن لم يكن لديك من سعادة باقية تقدمينها لي
فلن يكون في وسعك أن تزيدي من آلامي».
بعد هذه الخيبات التي تركت في أعماقه جروحاً عميقة، صب نيتشه جام غضبه على النساء في كثير من مؤلفاته. قال: «النساء يتآمرن دائماً على نفوس أزواجهن الأكثر رفعة، يردن سلب مستقبلهم منهم لحاضر مريح بعيد عن الألم». في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» قال: «يجب أن يهيأ الرجال للحرب، وأن تهيأ النساء للترفيه عن المحارب».
- ريلكه
عندما تعرَّف الشاعر النمساوي ريلكه إلى لو سالومي، كان في الثانية والعشرين من العمر وهي في السادسة والثلاثين. أُغرِمَ بها حتى الاحتراق، على الرغم من فارق السن بينهما، مع ذلك، كانت علاقته معها قصيرة الأمد، ومثلها كلُّ قصصه العاطفية، بما فيها زواجه من النحاتة كلارا وستهوف.
التقت لو سالومي ريلكه في ميونيخ في 12 مايو (أيار) 1897 بواسطة الروائي جاكوب واسرمان، فاشتعلت شرارة الحب بينهما، ولم يكن ريلكه معروفا بعد، بل لم يكن أحد يتوقع أنه سيصبح احد كبار شعراء القرن.
بعدما التقاها راح يكتب لها الرسائل التي تفوقت على الشعر: «في يوم ما، وبعد سنوات طويلة/ سوف تعرفين ماذا كنت بالنسبة إلي/ كنت نبع الجبال للعطشان/ اي عرفان بالجميل نحوك! لم أعد أتمنى رؤية الأزهار والسماء/ والشمس إلا فيك … من خلالك».
أمضى ريلكه ولو سالومي سنوات معاً مع أن هذه الاخيرة كانت متزوجة من شخص يدعى البروفسور اندرياس، سئل مرة : هل تزعجه تصرفاتها وغيابها عن البيت؟ أجاب «هناك أشخاص عاقلون جدا، خلقوا للزواج والحب الهادئ والاهتمام بالبيت ورعاية شؤون الأطفال وجلي الصحون.
باختصار خلقوا لوظيفة الزوج او حتى «الزوج الأبدي»، إنهم محظوظون وسعداء لأنهم متزوجون من سيدات لامعات ونادرات يقضين نصف حياتهن -على الاقل – خارج البيت بهدف الحب والعشق، ولو كانت سالومي من هذا النوع من النساء التاريخيات اللواتي يحتجن الى زوج يتكئن عليه فى البيت ثم الى حبيب حر او عاشق مجنون. هكذا تقام العلاقة «التوازنية في لجة الحياة».
عندما انضمّت لو سالومي إلى حلقة فرويد بهدف تعلّم التحليل النفسي، أرادت أن تحصل على المعلم، وحينما لم يتم لها ما أرادت، اختارت أحد تلاميذه الأكثر نباهة آنذاك، فيكتور توسك، بوصفه ثاني أفضل الخيارات بعد فرويد، وأسهمت في إرساله إلى التهلكة.
مع أن توسك كان واحداً من أنصار فرويد الأوائل وشخصية بارزة، حتى إن فرويد كان يخشاه، إلا أنه يذكر الآن كواحد من عشاق لو أندرياس سالومي، إذ نشأت بينهما علاقة قصيرة الأجل أثناء وجودها في فيينا (1912 ـ 1913).
حين انتحر توسك، كتب فرويد بنفسه نعيه الرسمي، قائلاً: «لم يكن بمقدور أحد أن يفلت من انطباع مفاده أن هذا الرجل ذو أهمية، وأنه قد خلّف ذكرى عطرة في تاريخ التحليل النفسي وصراعاته الباكرة».
بعكس هذا النعي الرسمي، كتب فرويد إلى لو أندرياس سالومي رسالة كان فيها أكثر صراحة، إذ عبّر عن ارتياحه لرحيل توسك: «أعترف بأنني لم أفتقده حقّاً، منذ فترة طويلة وأنا أعتبر أن لا نفع منه، بل أنه بمثابة تهديد للمستقبل».
وافقت سالومي على أن توسك كان بمثابة تهديد لمستقبل التحليل النفسي، وقبلت تملّق فرويد حين قال لها إنه تحمّل توسك كل هذا الوقت بسبب صداقتها معه، وهكذا تخلّت عنه وعن ذكراه بسهولة.
صحيح أن فرويد كان «مريضا»، لكنه استطاع تجاوز ذاته، بمعنى أنه اتخذ من ذاته وتجربته الحياتية وعقده الشخصية مادة للدراسة تفيد الآخرين والأجيال المقبلة، وهذا ما أعجب لو سالومي أيما إعجاب، وما انفكت تثني على طريقته في توظيف العقلانية للكشف عن كل ما هو جامح ولاعقلاني فينا.
طبقت منهجيته على نيتشه ومعرفتها الشخصية به، لتكشف عن لاعقلانيته. في حين أن نيتشه اخترق كل حدود العقلانية في فكره ووصل الى التخوم الأخرى وقلب في ناحية الجنون، ولم يهتم ريلكه بالحدود الفاصلة بين العقل والجنون إلا لإنكارها، بقي فرويد في نظر لو سالومي، عقلانيا متزناً.
هناك صورة مشهورة تعود إلى سنة 1882، تظهر فيها لو سالومي فوق عربة وبيدها سوط، تضرب به مفكرين بارزين في أواخر القرن التاسع عشر وهما نيتشه وبول ري. لم تقتصر ضحايا هذه المرأة على هذين الإسمين، بل طال سحرها أو لعنتها بالأحرى مفكرين آخرين مثل ريلكه وفرويد أيضا، الذي قال عنها إنها تتميز بـ(ذكاء خارق).
رفضت سالومي الزواج من كل هؤلاء مؤكدة مقتها العميق للمؤسسة، لكنها تزوجت من فردريك أندرياس… من دون أن يتمكن بدوره من امتلاكها، فاضطر إلى التخلي عنها لريلكه، لم يكن مصير هؤلاء الذين التقوا بلو سالومي مختلفا كثيرا.
معظمهم سقط في نوبة من الحزن والسوداوية وعانى كثيرا من هذا اللقاء الملعون، وكان محظوظا من لم يقدم منهم على الانتحار بسببها، شيء واحد فحسب كان يعني لها الكثير هو حريتها.
لم تكن سالومي ذات نزعة منفتحة على الآخر- الرجل- ولا نسوية، ولم تتخذ أي موقف لصالح أي قضية سياسية أو إيديولوجية، تركزت حول ذاتها من دون شفقة تجاه الضعفاء، وتميزت بفردانية متأصلة ونرجسية تقترب من «أنانية القط» حسب تعبير نيتشه.