سينما ومسرح

فيلم عن واقعنا .. أوسلُند يصدم “كان” ويقطف سعفته الثانية

صادم، لاذعٌ المخرج السويديّ روبين أوسلُند (Ruben Ostlund)، هجّاءٌ مرٌّ أيضًا، متشائمٌ ضاحكٌ، هاذٍ، فوضويٌ “أنارشيٌّ” ويطيب للبعض نعته بـ”كاره البشر”، وهذا ما ينفيه بنفسه نفيًا قاطعًا.


يجمع على نحو فذّ الجدّية إلى السخرية، على خطى كثر، من الضاحك والمصحّح الأخلاقيّ، موليير، إلى مواطنه السينمائيّ، روي أندرسون، مرورًا بلويس بونويل، وماركو فيرّيري، وجاك تاتي، وبيتر غرينواي، وفريق “مونتي بايتون”، وآخرين. تأثّراته ومنابعه وفيرة، بيد أنّه أثبت أنّه يستطيع أن يكون نسيجَ وَحْدِهِ، فريدًا حديثًا مجددًا.


عام 2017، فاز أوسلنْد بالسعفة الذهبية في مهرجان “كان” (المهرجان السينمائيّ الأهمّ والأبرز عالميًا) عن فيلمه “المربّع/ The Square”، واليوم بعد خمسة أعوام يقطف ثانيةً سعفته الذهبية الثانية في الدورة الخامسة والسبعين من المهرجان العالميّ (اختتم فعالياته الغنيّة في الثامن والعشرين من مايو/ أيار الفائت) عن فيلمه “مثلّث الحزن/ Triangle of Sadness”.

محدثًا الصدمة بفيلمه الجريء والطويل (في ساعتين ونصف ساعة)، ومثيرًا جدالًا بين الجمهور والنقّاد، ومنضمًّا بالتالي إلى نادي المخرجين حائزي السعفة لأكثر من مرّة أمثال فرانسِسْ فورد كوبولا، شوهاي إيمامورا، كِنْ لوتش، أمير كوستوريتسا، الأخوين داردينّ، بيل أوغست، ومايكل هانيكه.

“مثلث الحزن” هو الفيلم الروائيّ الطويل الثامن لأوسلند، وثالث جزء في ثلاثيّة متقاربة الثيمات بدأت مع فيلم “علاج الثلج/ Snow therapy” عام 2014، تلاه “المربّع” عام 2017 كجزء ثانٍ، أمّا “مثلث حزنه” هذا فيشكّل الجزء الثالث والأخير من الثلاثيّة التي تعالج عالم الذكور، على أنْ ينصرفْ بعد اليوم، وبحسب إعلانه، إلى معالجة عالم المرأة.

في الجزء الأوّل من ثلاثيته هذه، أي “علاج الثلج”، يتطرّق أوسلند إلى إشكاليّات العلاقات الزوجيّة وأزماتها وانعدام التواصل فيها، دافعًا زوجَي فيلمه، اللذين يعيشان تأزمًا عنيفًا في علاقتهما الزوجيّة، إلى القيام برحلة إلى مركز تزلّج، علّ وعسى…

لكنّ محاولة تلافي الانهيار التام والانفصال تنتهي بانهيار ثلجيّ (avalanche) كاستعارةٍ لانهيار الطبيعة، وبالتالي انهيار العالم الذي نحيا فيه، فانهيار العلاقات البشريّة… النظرة المتشائمة تطبع سينما أوسلند، ما سهّل على متابعي أفلامه إطلاق صفة “التشاؤم” عليه… ولم يرعوِ.

فقد أردف نظرته الثابتة هذه إلى الوجود بثاني أجزاء الثلاثية “المربّع” عام 2017، متجاوزًا حميميّة العلاقات إلى الإطار الأوسع، أي مجتمعه السويديّ، كاشفًا عوراته وآفاته وعنصريّته وخبثه وخداعه ومشقّة العيش الهانئ فيه كمجتمع يخاله كثر، من بعيد، مجتمعًا مثاليًا، سعيدًا، خاليًا من التعاسة والبؤس.

كما يعرّج في فيلمه هذا على هجاء ساخر شديد الإضحاك لأحد الفنون المعاصرة المعروف بفن “التركيب/ Installation”. أوسلند لاذع السخرية على الدوام، يغلّف خطابه السينمائيّ الجديّ بالضحكة المرّة، متمتّعًا بموهبة فريدة في ما يُعرف بـ”الدعابة السوداء”، أو black humour.

كما لا يُنسى في فيلم “المربّع” المشهد الأنطولوجيّ، الذي يخلّده سينمائيًا، للإنسان الشامبنزي (شبيه “هالك” في الشخوص المرسومة) الذي يقتحم حفلًا كبيرًا، فاخرًا فاجرًا أنيقًا، لجمهور من الأثرياء البورجوازيين، ممارسًا ضدّهم أعمالًا وحشيّة، قاسية وصادمة، مفسدًا حفلهم لدقائق طويلة (أي أنّ مدّة المشهد طويلة في إحدى عشرة دقيقة…).

المخرج السويدي روبين أوسلُند في  أثناء العمل على فيلمه “مثلث الحزن” 

هنا تبرز ثيمة إضافيّة بين ثيمات السينمائيّ السويديّ المتعدّدة، هي ثيمة هجاء البورجوازية وتهشيم أخلاقيّاتها وأنماط عيشها الأنانيّة والفاحشة تحت مظاهر الفخامة والأناقة الاجتماعية، أي أنّ الوحش كامن داخل المظهر المدنيّ والعصريّ (ألا يرمز هؤلاء إلى طبقة المستغلين والمحتكرين والمتاجرين بكل شيء وخاصة بالبشر…). ويردّنا أوسلند هنا إلى أحد ملهميه الكبار لويس بونويل، سيّد هَجَّائي البورجوازية، تحديدًا في تحفته “سحر البورجوازية الخفيّ”.
“مثلّث الحزن”.. خاتمة الثلاثيّة وثاني الانتصارات

بالانتقال إلى الفيلم الأحدث لأوسلند، الفائز بالجائزة الكبرى في مهرجان “كان”، والذي يختتم الثلاثية التي تحدّثنا عنها تحت عنوان “مثلث الحزن” (معنى مجازيّ لخطوط التجاعيد بين الحاجبين)، فإن أوسلند يستمرّ في هذا الفيلم في نهجه ساخرًا، أسود الدعابة، مرّ الهجاء، جديّ النظرة والخطاب، متشائمًا ضاحكًا، مُهشِّمًا صادمًا مستفزًّا…

وأجد نفسي مضطرًا إلى سرد هذه السمات كلّها لأنّها سمات أسلوبه البارع، المدهش والمجدِّد. يحمل أوسلند صفات الخلاّق المبدع، الكاتب الهجّاء ببراعة لا توصف، وبخاصة لناحية ابتكار الشخوص وتعدّدها، وما ترمز إليه، فضلًا عن الحوارات البديعة. هذا كلّه مجتمعًا أنتج فيلمًا محطّة في تاريخ السينما، تجاوزت حتى سائر أفلامه السابقة المميّزة.

الشخوص الأساسيّة في هذا الفيلم “الكَوْرسيّ” (يسمّونه بالفرنسيّة Film Coral) هي: قبطان أميركي ثريّ وماركسيّ في الوقت عينه، ويا للمفارقة، يدعى توماس سميث، ويؤدّيه الممثل الأميركيّ القدير، وودي هارلسون، الذي يقول: “لستُ ماركسيًّا بالتمام والكمال. أنا أنارشيّ (فوضويّ)، لكنّني أحبّ كثيرًا من الأفكار الماركسية. أغراني أداء شخصيّة ماركسيّ يملك ثروة تقدّر بمئتين وخمسين مليون دولار”.

وإزاء توماس سميث، لدينا شخصية الأوليغارشيّ الروسيّ تاجر الأسمدة، ديمتري (يؤديه الممثل الليتوانيّ زلاتكو بوريك)، إلى شخصيتيّ العارضين (models) الزوجين كارل، ويايا (البريطاني هاريس ديكنسون، والأفريقية الجنوبية شارلبي دين)، فضلًا عن الخادمة التي تتولى تنظيف الحمامات، أربيغيل (الممثلة الفيليبينية دوللي دوليون)، ورفيقات لها وشخوص أخرى متفرّقة لتجار سلاح ورجال أعمال من فاحشي الثراء.

 أوسلُند (يمين) وأبطال فيلم “مثلث الحزن”

الفيلم في فصول ثلاثة، الأوّل بين الزوجين العارضين كارل، ويايا، ينقضّ فيه كاتب الفيلم ومخرجه على عالم الموضة من خلال هذين الزوجين المأزومي العلاقة، يقومان برحلة إلى الشاطىء للتخفيف من عبوس حياتهما وفراغها، رغم أنّهما يتمتعان بالشباب والثروة، بيد أنّهما غير سعيدين كالعديد من الأزواج.

لكنّ العلاقة الزوجيّة ليست هدف أوسلند، بل كما أسلفنا عالم الموضة الزائف والقاسي الذي يعيشان فيه، مبرزًا قسوته ولفْظَه لمن تمرّ عليه بضع سنين في المهنة، أو تغزو وجهه “تجعيدة” واحدة (هنا نفقه معنى العنوان واختياره). وثمّة مشهد “أنطولوجيّ” ومعبّر يتجادل فيه الزوجان لدقائق طويلة داخل مطعم حول مَنْ يتوجّب عليه دفع الحساب… مشهد يتأرجح بين الجدّية والقهقهة التي تتصاعد من الحوار ـ المشادّة بينهما.

الفصل الثاني يدور على متن يخت فخم (استعاره المنتج من ورثة أوناسيس للمشهد الطويل المصوّر في المياه اليونانيّة) بين الأميركي “الماركسي” توماس سميث (هارلسون)، والأوليغارشي الروسيّ ديمتري (بوريك) اللذين يتباريان فكريًّا، إن صحّ التعبير، حول الرأسمالية والاشتراكية، حول واقع عالمنا الراهن الذي يزداد فيه الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا.

وإحدى المفارقات الضاحكة أن الأميركيّ مناهض للرأسمالية، ويستشهد طيلة الوقت بأقوال لينين وماركس وهو يتجرّع كؤوس الخمرة حتى الثمالة، فيما يسخر الروسيّ من الأثرياء الجدد وهو ينتقد التجربة الاشتراكية… عُصاب معاصر، جدّي المضمون، ساخر الغلاف، إلى حين يدعو الأميركيّ مجموعة من الأثرياء الجدد، وبينهم الزوجان العارضان، إلى مأدبة عامرة على متن يخته الفخم، حيث يتصرّف الجميع بأكثر أشكال الترف والفحش والتفاهة تطرّفًا، ويأكلون ويشربون بنهم يذكّرنا بفيلم ماركو فيرّيري “الوجبة الكبرى/ La grande bouffe”، الذي يعود إنتاجه إلى عام 1973).

حيث لا تكفّ مجموعة بورجوازية فاحشة عن التهام الطعام حتى الموت! وهنا ليس الموت هو نهاية النهم، بل القيء الذي صدم المشاهدين، إذ تمادى فيه أوسلند على نحو تصاعدي (كريشيندو) بلا توقف. علمًا أنّ عاصفةً بحريّة هبّت في الأثناء، وأغرقت المركب، فلم ينجُ من الغرق سوى عشرة أشخاص من ثلاثين.

أمّا الفصل الثالث والأخير في الفيلم فيدور على الشاطىء، حيث أضحى الناجون الأثرياء، أو مَنْ بقي منهم، خاضعين هذه المرّة للخادمات اللاتي كنّ مأمورات ومقموعات ومهانات، على نحو يرمز إلى إطاحة البروليتاريا بقياصرة المال وتسلّمهم السلطة. فالفيلم ينطوي على طرح طبقيّ، والمركب ليس سوى “ميتافوريّة” العالم الأكبر، وهنا يتجلّى ذكاء السينمائيّ الحادّ الذي يجمع الرمز والهجاء والجدّية والعمق والسخرية في وعاء واحد.

أوسلند ذو النشأة العائلية الاشتراكية لا يكفّ عن فضح خبث المجتمع ونفاقه، حتى وهو يعتمد الإضحاك غير المتوقِّف. وخيرُ معبِّر عن نوايا الفيلم ما يقوله منتِجُهُ إريك هيمندورف، الذي أنتج معظم أفلام صديقه أوسلند: “مهّدت الماركسية لولادة السوسيولوجيا، أي للنظر إلى العالم من دون أحكام مسبقة. إنّها طريقة لنزع القناع عن الحقيقة والواقع.

إنّه منظور يضيف شيئًا إلى حياتنا. أردنا أن نُنْجز فيلمًا معروضًا للمناقشة بعد الخروج من الصالة. فيلم روبن (أوسلند) هو نقيض سينما الـ”بوب كورن”. إنّه عن العالم الذي نحيا فيه. عن واقعنا. إنّما لعلّه مصنوع في أسلوب مستفزّ وترفيهيّ في الوقت عينه”.

أنهى أوسلند المدهش ما أراد قوله عن عالم الرجال. فلننتظر ما سيأتينا به مستقبلًا عن عالم النساء. ربّما ينتظرنا ما هو أكثر إدهاشًا… وإمتاعًا.


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى