عن الدراما التلفزيونية والخوف من الجسد
- البحث عن المرأة في مرآة الدراما
يتجاهل صناع الدراما المرئية، وبالأخص الكُتّاب، جُلّ إنجازات العلم والمعرفة، بخصوص الجسد البشري، هذا بالإضافة إلى تجاهلهم للفرص الدرامية والجمالية لفعالياته، بمعناه الشخصي، أو الاجتماعي، ولا يدخلونها في اعتبارات الكتابة والصنع تحت عناوين أخلاقوية متضخمة حول الإنجازات الدرامية.
بناء على الخوف من “الافتضاح”، الذي قد يصل إلى الصانع، أو الكاتب نفسه، بصيغة سؤال تقليدي سخيف (هل ترضى هذا لنفسك؟)، فيلجأ إلى العكس الذي يقابله؛ أي إلى الاحتشام بالمعنى الصوري، وكذلك بالمعنى المقاصدي للحوارات، وهذا ما يسابق الرقابة ولوائحها، إلى القناعة الفكرية الراسخة لدى صنّاع العمل الدرامي.
وتصوراتهم للمعلومات والمعارف العالمية التي أنجزت حول الجسد البشري المعاصر للكاميرا المستخدمة في تصوير العمل التلفزيوني، حيث يتم النأي بالنفس عن تهمة “التحريض على الفاحشة”، باستخدام مسافات أمان مُبالغ فيها بشدة، تقود إلى الأفكار والطروحات، غير العلمية أو المعرفية، ونسبتها إلى “واقع مشتهى”، الذي تعتمد عليه الرؤية التحشيمية للبواطن البشرية، وذلك عبر تأثيم المصالح الحياتية للجسد البشري.
وعلى الرغم من بدائية هذه النظرة، إلا إنها قادرة على تسميم جذور العملية الفنية، من خلال إخصاء مقدرتها على مقاربة الحقائق كما هي من جهة، وصنع تراكم ثقافي “محتشم” لدى السكانيات من جهة أخرى، وبالتالي انعدام أفق الارتقاء، بسبب الاستقرار والرضا عن النفس، الذي تؤكد عليه هذه الدعايات المشغولة، كمسلسلات درامية.
وبالنظر إلى صورة المرأة/ الجسد، في مرآة الدراما التلفزيونية، فإننا نلحظ عليها حيادًا جنسيًا واضحًا يجعلها بلا مصالح جسدية (صورة أم كلثوم، فيروز، فاتن حمامة، أمثلة)، وهذا ما يلغي من الصورة المصالح الجسدية الذكورية أيضًا، ليصبح “العفاف” و”التعفف”، قانونًا اجتماعيًا متداولًا لا يحتاج معه السكان إلى تنظيم حقوقي للمصالح الجسدية،
لتحل محلها تصفية حسابات الخروج عن هذه “القوانين” التقاليدية بالعنف اللفظي والفيزيائي، وحتى الاقتصادي، ليتحول “الجسد/ الفرج” إلى قوة تثير الهلع، بسبب مقدرته على تهديد الأمان “العفافي”، وكذلك مقدرته على تجليل ممارسي هذا العنف بالعار الكبير والنهائي، إلا إذا كان استباقيًا، هذا العار الذي لا حلّ له ولا افتداء، لذلك يتمظهر العنف،
وبطريقة استباقية، في ملابس المرأة ومكياجها وحركتها وتصرفاتها ومأكلها ومشربها، العلنية، وكذلك يتمدّد هذا العنف إلى مشاهدها الدرامية التي لا تحتاج إلى سترة، أو احتشام (كالمشاهد المنزلية، مثلًا)، بما يفيد بتوسع دائرة التعنيف، كحرب استباقية على الجسد ومصالحه.
وهكذا يتحول الجسد، خصوصًا الأنثوي، بمقدرته على جلب “العار”، إلى صندوق من الفزع، يجب دائمًا التأكد من إحكام إغلاقه وإظلامه، لذلك تبدو ممارساته السرية غير ذات بال، أمام ممارساته العلنية، حتى لو كانت بريئة من مسببات هذا العار. وعلى هذا، يتم تقييد التصوير بإظهار الجانب الآمن الذي يمكن إعلانه، مع مراقبته مراقبة شديدة خلال مراحل التصنيع والمشاهدة أيضًا.
في المقابل الموازي، للرؤية إلى المرأة، نرى القوة الخارقة للمرأة/ الجسد، أو صندوق الذعر، عبر تجسيد أنماط لا خلاف عرفيًا عليها، مثل الأم، وكذلك المرأة الماكرة، والمرأة المعشوقة، وكلهن محصنات داخل دائرة العفة الجسدية المستلبة داخل أنماط الثقافة السائدة،
وهذا ما يبعد مقصًا رقابيًا من جهة، ويعمق قناعات معاكسة للطبيعة البشرية من جهة أخرى، وهما أمران متعاكسان مع الكتابة الدرامية، فالجسد هو رأسمال المرأة في المصالح الجسدية، داخل هكذا سكانيات مكبوتة، والتي ينقصها التشكل المجتمعي،
ووضوح النظر تجاه المسائل الإنسانية الميسرة للوجود في العصر، خصوصًا المسألة الحقوقية، وتحديدًا بما يخص المساواة التي تؤسس للوجود المتسالم داخل البيئة.
ولعل جرائم الشرف الموجودة دائمًا في هذه السكانيات (طبعًا ازداد العلم بها مع حضور وسائل التواصل) أحد تعبيرات الهلع من هذا الجسد/ الفرج الخطير، والذي ينعكس في الدراما التلفزيونية، كعقاب للجسد على الخروج من صندوق الذعر، وما يستتبع هذا الخروج، من خروج عن السرانية الاجتماعية المتواطأ عليها،
إذ لا يكفي هنا الطرد من الجماعة السكانية، لأنها في الأساس لا توفّر أية حماية لهذا الجسد، بل العقوبة، بما يوازي الذعر، وهو الذي لا يمكن محوه إلا بواسطة أداء طقوسي رمزي، يلخص الأخلاق العامة ويفعلها، على شكل عنف استباقي تحت مسمى الاحتشام الدارىء للعار المتوقع، أو القتل كحالة طقوسية تدّعي التطهر منه.
وعليه، فإن الدراما التلفزيونية العربية عدت أنها منتصرة في الحرب الاستباقية على الجسد، من خلال إخضاعه صوريًا وحكائيًا للأعراف، وبالتالي إخفاء الذعر من الجسد، تحت غطاء عدم توفر أسباب جريمة الشرف، لأن الجسد شريف بالمعنى الإجتماعي المعلن.
هذا الإقصاء “الدرامي” للجسد لا يمكن حصره بحالة “ذكورية” مبتسرة، وتفسيره على هذا الأساس، فالأزمات الاجتماعية تلقي بظلها الثقيل على الثقافة السكانية ذكورًا وإناثًا، وتنعكس في منتجاتها الدرامية بشكل تهويلي، مشتّق من تقنيات الكتابة الدرامية، ولا ننسى هنا مثالًا معروفًا تسرب إلى المواضيع الدرامية، بوصفه جوابًا على سؤال علمي، حول موضوع تعدّد الزوجات، كحل لمشكلة العنوسة!!، التي تشكل في عمقها ومظهرها مشكلة جنسية، لا تقاربها الدراما التلفزيونية، بوصفها الجنسي، بل تسعى إلى حلول تشريفية، يمكنها أن تجيز حتى الاغتصاب من باب فعل الخير العام، أو حتى التقوى،
كما يحصل في حالات الزواج العرفي غير المسجلة قانونيًا، هذه الأزمات تلاقي في الدراما التلفزيونية من يذكيها عبر تشريف مقترفيها، بسبب خضوعهم لمتلازمة الرعب والجسد، وانضوائهم في الحرب الاستباقية عليه.
لا يمكن اختصار العنف بعملية فيزيائية، كالضرب، أو القتل، خصوصًا أننا أمام اختصار شديد للمسافة بين حضور الجسد على الشاشة، وبين البورنوغراف الممنوع قانونيًا، حيث يضيع معنى الجسد بين التلصص المرضي، وعار الفضيحة، وعليه يبدو أن إخفاء الجسد عملية عنفية تحول الشخصية الدرامية إلى أنموذج تربوي سيء، ولكنه من لحم ودم يستطيع تعليم الناس على سوء الخلق، والتأثير في أخلاقهم لتصبح دنيوية بحتة.
وعليه، فإن أية شبهة، أو ادعاء، وجود البورنوغرافية (صوتًا أو صورة) يستدعي الاتهام بالتحريض على الرذيلة، وهذا ما نلحظه بشكل مستمر بمنع التقبيل بين العشاق، أو الأزواج، حتى لو كانوا في كامل احتشامهم، ما يعني استخدام عنف ما، لمنع التعبير عن الإنساني في الشخصية الدرامية،
فالقبلة ممنوعة في المسلسل الدرامي على الرغم من معرفة الجميع بها، وبمعناها كحالة جمالية، في مقابل السماح بإظهار العنف والتنكيل، ولو قمنا بمفاضلة بين هذين الفعلين الإنسانيين، فمن البداهة منطقيًا أن تكون النتيجة لصالح القبلة،
ولكن هذا النوع غير المرصود للعنف يهيمن على الرؤية إلى المرأة كجسد، وكذلك ككيان كامل الأهلية قادر على اختيار ما يحتاجه، كما أن هذا العنف يهيمن أيضًا على المناحي التفسيرية اللاحقة (للممثلة/ الشخصية، وكذلك للمرأة المشاهدة)،
وهو ما يعتبر تعبيرًا عشوائيًا عن الرهاب من الجسد، باعتباره تهديدًا وجوديًا قادرًا على نسف الأخلاقويات السكانية، وتغيير مجرى التربية إلى ما يتعاكس مع رأي أكثرية مفترضة لا تبدو متصالحة مع زمنها، أي زمن التلفزة والفضاءات المفتوحة.
هذا التعاكس هو نفسه الغطاء المستخدم في إخفاء الممارسات السرانية للجسد، والتي تحقق شرط عدم الدراية، ومن ثم المفاجأة، التي تحقق شرط العنف الأقصى، المبرر تقاليديًا وقانونيًا، وهكذا يسقط من يد الدراميين إمكانية استخدام المصالح الجسدية في الدراما، وهي من المصالح المؤسسة لها، ناهيك عن توفرها الشديد سرانيًا، في أوساط الجماعة السكانية.
لقد وصلت الدراما التلفزيونية إلى طريق مسدود، من ناحية الرؤية إلى الجسد، والأنثوي خصوصًا، عبر التركيز الشديد على ترذيله وتأثيمه، بواسطة إخفائه، وهذا الانسداد لا يضير التسويق بقدر ما يضير الدراما نفسها، وينزل من قيمتها الفنية، لتصبح بضاعة غير ثمينة، لأنها لا تشكل فارقًا،
ولا تقدّم إضافة معرفية تغيّر من واقع الحال، وهذا ما يطرح مشكلة تسويق الأعمال الدرامية، التي يفترض أن تكون قائمة على المنافسة، التي دخل إلى دائرتها مؤخرًا البث الإنترنيتي، بما يعنيه ذلك من تخلص من الرقابتين الاجتماعية والحكومية، وبطريقة مذلّة لهما، وبالإذلال نفسه تحاول شركات الإنتاج العربية الدخول إلى السوق الإنترنيتي، محاولةً تسويق جهالاتها في الدراما (النص، والتمثيل، والإخراج)،
حيث لا يمكن للمنصة الإنترنيتية مهما كانت شهيرة، تحسين القيمة الفنية للبضاعة، ولا يمكنها أيضًا درء المنافسة عنها، حيث يصبح من الهبل متابعة الأعمال المصنوعة بشروط عربية، أو تفضيلها، مقابل أعمال مشغولة باحترافية عالية، حتى لو كانت في الحد الأدنى من الذكاء الإبداعي، والفارق هنا هو الجسد غير المفزوع، لا من نفسه، ولا من الآخرين،
والذي يحظى بإمكانيات تعبير غير مؤثمة استباقيًا، قادرة على تجسيد الأدوار وإعطائها معنًى حقيقيًا، من خلال متطلبات الدور والشخصية،
وبذلك يفلت الدور الذي تعول عليه الجهات الرقابية “الاجتماعية” ، ليصير إلى مقاومة هذه الدراما المنفلتة والمتفلتة، كموضوع يشغل ساحة الثقافة الجمعية، بمعارك وهمية جديدة، كمكابرة على الهزيمة المجلجلة التي أنزلتها بها منصات البث الإنترنيتي العالمية.
- “نحن ندخل البيوت!”
لا يمكننا إرجاع استمرار مشاهدة أفلام مثل “الفهد”، أو “راقصة على الجراح”، وغيرهما، لعشرات السنين، إلى المحتوى الفكري لهذه الأفلام، بل إلى الجسد في حالاته التعبيرية الخاصة، كما يمكننا نسبه إلى تقنية العرض في الصالة، حيث يتوجه الجمهور إليها اختياريًا، وحتى سرّانيًا، حيث تمّ تصنيف هذه الأعمال تشفيًا وشماتةً، تحت بند البورنوغرافية، وفرصتها الوحيدة أنها تعرض خارج البيت، بعيدًا عن الحريم.
وهذا ما استحضر إجابة دائمة، وحجّة دامغة، من قبل صناع الأعمال الدرامية التلفزيونية، بأنهم بعيدون جدًا عن “البورنو”، لأنهم يدخلون البيوت، وعليهم مسؤولية المحافظة على الحد الأعلى من الفضيلة بواسطة الاحتشام، حيث يبدون كمن يتبرأ من مهنة الفن كمهنة كاشفة، وكذلك يدّعون ارتقاءً نخبويًا يجعلهم في مصاف المؤتمنين على الجمهور.
هذه الإجابة المتكررة والمفحمة التي يطلقها مهنيو صناعة الأعمال التلفزيونية تجعل للبيوت معنًى مختلفًا عن وظيفته المعلنة. فهذا المعنى يحمل في طياته معنى الحريم، حيث تتمدد الخصوصية لتصبح مجالًا لمنع العلم بالأشياء، بينما الدراما في الأساس هي معرفة تبغي نشر العلم بالأشياء إلى أوسع مدى، ليتحول المعنى المكاني للبيت، وبحجة الخصوصية، إلى ساحة ترويض تمنع العلم الزائد عن حاجة الذين يتم ترويضهم.
وهنا لا بد من تذكر حكايا رجل تركيب الدش، أو الصحون اللاقطة، حول طلبات تشفير محطات البورنو، وكذلك إحصائيات الإنترنت التي تظهر بياناتها حجم الطلب العربي على مواقع البورنو. وعلى هذا ينضوي مهنيو صناعة الدراما في الحرب الاستباقية على الجسد، من باب تشريفي، وهو حرصهم على عدم خدش الحياء العام، والغيرة على أجساد الآخرين وكأنها حريمهم الشخصي!
ثنائية الذكر والأنثى في الكرة الأرضية تحاصر التعبير الجسدي للذكر والأنثى معًا، نظرًا لتكامل الأدوار الجسدية والنفسية والعصبية. فما هو مشتهى في جسد الأنثى بالنسبة للرجل هو مشتهى للأنثى في جسد الرجل.
هذا الاشتهاء البدهي، والأمي على الغالب، هو نقطة البداية للحرب الاستباقية على الأنثى، ولو في دراما تخيلية، حيث يرى الجمهور أن عليه إلغاء شهوة الأنثى، عبر تقنينها، أو إلغاء كل المسارب التي يمكن لها أن تنفذ منها، استباقًا لحدوث العار، ولكن هل يستطيع أي من الجمهور إيقاف هذا الاشتهاء بواسطة أي نوع من المنع؟ إذًا، لا يبقى إلا منع العلم والخيال أيضًا، عبر منع الإتيان على سيرة الاشتهاء، أو استعراض أي شيء يمتّ لها بصلة، مع أنها من تأسيسيات الدراما، ومن تأسيسيات الدوافع الإنسانية للشخصية، لذلك يفضل تهديم الدراما نفسها، إذا لم تكن منضوية في الحرب الاستباقية على الجسد.
هنالك مسألة جانبية وموازية تتعلق بالنقاش حول حرمة البيوت من الأذى، فعلى الرغم من إمكانيات التحوّل من محطة إلى أخرى، إلا أن الشك موجود بإمكانية حصول العار، من باب عدم ضمانة أصحاب الأمر من مغافلتهم ومشاهدة ما لا يجب أن يشاهدوه. وهذا ما يدعو إلى استئصال الجسد من أية صيغة تلفزية، أكانت دراما، أم برنامجًا علميًا، أو مباراة كرة قدم، وعليه ومن باب تبخيس الجسد، الذي لا يملك الإنسان غيره كبوابة للمتعة والألم… إلخ،
يقولون لن تخرب الدنيا إذا ما استغنينا عن المشاهد التي يدخل فيها الجسد في تعبير يمكن استبداله، أو ترميزه بطريقة محتشمة! نعم، لن تخرب الدنيا، ولكن الدراما سوف تخرب ويتراكم خرابها، لينفجر في وجوهنا تخلفًا وهوانًا وجرائم.
إنه الهلع من الجسد/ الفرج، الذي لم يستطع أحد في المعمورة ضبطه، أو إقالته، أو سد المنافذ عليه، أو إليه، وهو بمصالحه أحد مؤسسي الإنسانية، والخوف منه، أو ادعاء الخوف عليه، ما هو إلا مظهر من المظاهر التي تقمع العقل وتعدم الإبداع.. إنه جريمة شرف كاملة الأركان.