مسلسل “العرّاف”.. قراءة واصفة
نادراً ما تُتحفنا السينما العربية بِعمل سينمائي راقٍ؛ له أبعادٌ فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية، تمُسّ في الصميم الواقعَ العربي، وتعالجُ قضايا المواطن ومشاكلِه، وتعري الواقع تعرية احترافية بأسلوب سينمائي نقدي من المستوى العالي، وبأدوات تأويلية سيميائية وعلاماتية مختلفة ومتنوعة.
ربما سيبدو هذا التوصيف للبعض بأنه مبالغ فيه، وأن هذه المادة السينمائية بسيطة من حيث الموضوع والسيناريو والإخراج، وربما يقول البعض إنها؛ عمل مستهلك مسروق أو مقتبس من مادة أجنبية نالت قصب السبق في الفكرة والموضوع.
لكن في المقابل؛ قد تذوب كل هذه الملاحظات وأحكام القيمة هاته؛ عندما ينفذ المشاهد لهذه المادة السينمائية بحب اكتشاف واستمتاع، وبكل تجرد من أية خلفيات أو مفاهيم أو تأويلات جاهزة.
إن مسلسل (العـرّاف) الذي انفردتْ به السينما المصرية، واختارتْ لبطولتِه شخصيةً لا يُماري أحدٌ في كفاءتِها المهنية، وقدرتِها العجيبة على إتقان الأدوار؛ بل والتفننَ في تمثيلها إلى حدود التماهي والذويان والدهشة والانبهار.
نجاح عادل إمام في سلسلة العرّاف؛ لم يكن ضربة حظ، ولكنه جاء تتويجا لأرشيفٍ مليء وزاخر بالأعمال التي قدَّمَها عادل إمام للسينما المصرية خاصة؛ والعربية على وجه العموم.
صحيح أن عادل إمام كممثل في الميزان المالي الفني قد حقق ثروة كبيرة، ومستوى عيشٍ يُصنَّف على أنه عيش النخبة، فإن الموهبة الفنية لهذا الممثل البارع؛ ظلتْ مرتبطة بالأدوار القريبة من المواطن العربي المحاط بأسوار القهر وأسلاك البطش وحبال العذاب.
وهذا ملحوظ في غالبية أعمال عادل إمام السينمائية والمسرحية كذلك (مع بعض التحفظ في بعض الرسائل السياسية المُضمَّنة فيها)، إذ هي في غالبيَّتِها تُصوَّر وتمثّل في أحياءٍ فقيرة وسط القاهرة أو في هوامش المدن والمحافظات المصرية وفي الصعيد والجيزة والأقصر.
إذ إن الأدوار التي كان عادل إمام يُكلَّف بتأديتها، لها طابَعان لا ثالث لهما، فإما أن يكون عادل إمام ذلك المواطن المنحرف قانونيا المتزن فكريا والمحبوب في محيطه المنبوذ من طرف المؤسسة الرسمية، الحامل لقضية عادلة، المبتكرِ لوسائلَ غريبة لتحقيقها، المُكسِّرِ لكل الأعراف السائدة، والكارهِ للتملق.
أو نجدُه ذلك العفويّ الأنانيّ الذي يَعيش وِفق هواه، الكارِهِ للرسميات والبروتوكولات وللسطلة والنظام، والمحلل للأمور بنقيضها، الحكيم والفيلسوف والمجنون والعبقري والداهية و…،
إن عفوية عادل إمام وسخريتَه الوقحة (كما يُحب البعض أن يصفَها)، لا يمكن أن تصلح إلا لأدوار كهذه، ونحن هنا لسنا بصدد التعريف بشخصية معروفة وذائعة الصيت، بقدر ما يهمنا الوقوف على مجمل الأفكار والحيثيات التي جاء بها مسلسل العراف.
يأتي عنوان مسلسل (العرّاف) بحمولة استفزازية وبتأويلات نقدية غزيرة الدلالة، عميقة المعنى وبعيدة التوقع، وسنحاول هنا أن نقوم بإدماج بسيط للأدب السردي المكتوب بالأدب السينمائي المصور للخروج بنقطة التقاء، علما أن السينما والأدب، ينبعان من مشكاة واحدة.
هذه المفاهيم حاضرة دائما في السينما، لأن السينما قبل أن تكون أدبا مصورا، كانت سيناريو مكتوبا بلغة أدبية مشكولة ومصححة ومنقحة، تراعي البعد الدلالي المنسجم مع الصورة المراد تمثيلها.
– تُحيل لفظة العرّاف التي جاءت معرفة بـ “الـ” التي تفيد التعيِين والتقييد مع التخصيص، وتعني في المعجم الوسيط: المُنجّم ، والطبيب ، والكاهن. في حين وردت في معجم المصطلحات الفقهية بمعنى: المنجّم والطبيب.
وجاء معنى العرّافِ في بقية المعاجم العربية العامة، بمفهوم الدجال، والكذاب والمحتال والمخادع؛ المبالغ في الكذب والتمويه.
كل هذه المعاني؛ حاضرة في شخصية بطل مسلسل العرّاف، فهو النصّاب، الدجال، الكذاب، المحتال الطبيب، المنجم، والكاهن، والفقيه، والزاهد والتقيّ…، فهو شخص حرباء متلون.
ظهرت شخصية العرّاف منذ الحلقة الأولى بكاريزما خاصة؛ تتمثل في الوثوق التام بالنفس، والتجول بكل حرية وجرأة في محيط واسع جدا، يمتد على رقعة مصر الكبيرة، حيث تدور أحداث المسلسل، وتتعداه إلى دول أوروبا كما ذُكر في سياقات حوارية مختلفة خلال حلقات المسلسل (إيطاليا ـ اليونان) وسنأتي على ذكر البُعد الدلالي لهذه الدول الأوروبية فيما سيأتي.
استطاعت كما قلنا شخصية البطل أن تكسر المألوف وتتحدى الممنوع، وتكسر حاجز الخوف بطريقة فيها من الرعونة ما فيها، رغم كونِها شخصية لا تتوفر على هوية أو إثباتٍ يَسمح لها بتحقيق هذا القدر من الثقة والأمان.
تحتمل شخصية البطل عددا لا مُتناهيا من الألقاب والمُسمَّيات، بحسب المحيط الذي تحرّك فيه البطل وعددِ الأماكن التي مارس فيها نشاطا من نشاطاته المشروعة وغير المشروعة، لكن المسلسل، رصد لنا أربعة أسماء للبطل وهي: (أبو الحجاج المصري ـ عبد الحميد البكري ـ مصطفى شوقي زهران ـ صبحي أبو الفضل …).
هذه الأسماء امتدت على طول حلقات المسلسل، كونَها تمثل القاسم المشترك بين البطل وأبنائه من جهة، وبين البطل والنظام من جهة ثانية، والمتمثَّلِ في القضاء والقانون الذي يلاحقُه بتهم كثيرة .
شخص واحد بأسماء مستعارة كثيرة، وبِقضايا نصْبٍ واحتيال وخروقات جمة، شخص متشنج العلاقة مع كل ما له علاقة بالمؤسسة الرسمية، وبالخصوص مع وزارة الداخلية !!
شخصٌ مجرم وخطير يجب سجنه في نظر القانون الصوري؛ الذي لا تلتزم به حتى الدولة نفسها، والتي تُطبِّقُه على ضعاف المواطنين (من خلال بعض المشاهد والأحداث في المسلسل التي أشارت لذلك)!!
رغم أن المسلسل؛ حاول أن يظهر وجها شريفا ومشرقا للنظام.
والمتمثل في اللواء المتقاعد المدعو “سامح سيف الدين”. الذي جسّد طيلة حلقات المسلسل، صورة رجل الأمن المخلص والمتفاني والساعي بكل الوسائل لإحقاق القانون، واعتقال المجرم النصّاب، رغم كونِه شخصا متقاعدا من الجهاز الأمني.
تتميز شخصية البطل النصّاب، بكونها شخصية جذّابة ومثيرة للاهتمام، قريبة من القلوب وصعبٌ كُرهُها، فالبطل المُحتال شخص محبوب لدى جميع البسطاء، ومقبول لدى جميع أطياف المجتمع (المصري نموذجا)، ومؤثر في الجميع كذلك، مساعدٌ للمحتاج، شخص كريم فاعل للخير، ومنفق بسخاء، شخص يسرق مليونا وينفق منه ثمانمائة ألفٍ على المحتاجين والمحرومين والفقراء،
الشيء الذي ساعدُه في خلق تابعين ومقربين وحلفاء مخلصين، يرون أن هذا الشخص يستحق الخدمة والتضحية والحماية، ولا يُسْلِمونهُ أبداً.
شخصيةُ البطل كذلك، تَبرر أفعالَها غير القانونية من نصبٍ واحتيال وانتحال؛ على أنها الطريقة المثلى للتعامل مع مافيا المال وكبار لصوص الدولة، الذين يسرقون هم كذلك بطريقة راقية و(قانونية).
جاء في إحدى حلقات المسلسل؛ ما يُمكِن أن نُسميه بالدوافع الواقعية لانحراف الشخصية البطلة.
صحيح أن النَّصبَ والاحتيال مهما كانت الأسباب وراء اقترافه؛ يبقى عملا لا أخلاقيا ولا قانونيا، إلا أن تحليل الظاهرة وتشريح المعطيات والوقوف على لُبّ المشكل، يُفيدُنا من ناحيتيْن اثنتيْن.
الإفادة الأولــى: تمكننا من معرفة بنية المجتمع، معرفة علمية يصح معها الإسقاط، أي إسقاط الواقع المعيش؛ سواء أكان مقبولا أو سيئا أو شديد الرداءة أو حتى ميؤوسا منه، باعتبار أن البنية الفوقية؛ هي نتاجٌ مباشر لحالة البنية التحتية.
ونحن هنا؛ نقصد بالبنية التحتية كلا من النمو الديمغرافي والاقتصادي؛ ومدى مساهمتهما في التنمية وانعكاسِهما إيجابا أو سلبا على الحالة العامة للمواطن.
الإفادة الثانية: تتمثل في كون هذا السلوكَ المُنحرف؛ أصبح محورا دائريا مقررا ومعمولا به، ومتعارفا عليه كذلك، يُبتدأ منه ويُنتهى إليه، ليُبتدأَ منه من جديد، وهكذا دواليك …!
حالة من الضياع والتيه، وجد البطل نفسَه فيها؛ بمجرد أن وعى ذاتَه ومحيطه، لم يعرف له أبا أو أُمّاَ أو عائلة، كان مقطوعا من أي نسب، وكان منبوذا من الكل، إلا من أولئك الذين تُشابِه حالتُهم حالتَه، كان حَجم الفراغ الذي يعانيه كبيرا جدا.
وكذا حجم الحرمان الذي ينتابُه كان كبيراً أيضا، كلما رأى طفلا أو يافعا يُمسك بيد والده، أو أُمًّا تَربتُ على كتف ابنها، هذه الحالة العاطفية المشحونة والكثيفة والصعبة والمشبعة بالحرمان، جعلتْ البطل يسعى لأي شيء يقرّب ود الناس إليه، وفِعل أي شيء يجعل الناس يَعِيرُونه ولو قليلا من اهتمام، ويُحيطُونه بالدفء ولو تملُّقا أو نفاقاً.
من هنا، بدأت قصة البطل مع انتحال الصفات، وتزوير الشهادات وأوراق الهوية.
يصور لنا المسلسل في مُجمل حلقاتِه، نجاح البطل في عمليات النصب والاحتيال، نجاحاً يُفسَّر على أنه الطريقة الوحيدة والمثلى، التي يُمكن من خلالها؛ إثبات الذات وتحقيق قدر كبير من التوازن المادي والعاطفي، والاستقرار الأسري.
هذا التفسير مردُّه إلى أن العالَم العربي مازال يعيش حالة من الانبهار بالمظاهر، مجتمع أدمن الكذب ولا يستطيع أن يعيش أو يتعايش إلا في بوتقة كبيرة من الكذب، وأن الصدق والصراحة والمواجهة والاعتراف والحقيقة، ما زالت تُفسَّر في وطننا الكبير على أنها نوع من الضعف والانهزام والسذاجة، ومجلبة للاستعطاف والرحمة والشفقة.
يُثير المسلسل مسألة (عقلية الفقير والمحتاج)، وهي عقلية التقدير والإعجاب باللص الثري والتقرب منه وخدمتِه؛ طالما يعطي بكرم وسخاء.
لقد لامس المسلسل هذه القضية ملامسة وافية، وكانت الفكرة جلية وواضحة في إبراز هذه الظاهرة، ولا يُماري أحد في صدقيتها، فطبيعة البشر طبيعة منافقة تغريها المظاهر، وتستهويها المنافع والمكاسب.
الطبيب والسفير ومدير الأمن والمحامي والأستاذ و…، وكل الوظائف الرسمية الأخرى وغير الرسمية تقريبا، يمكن لمزاولِيها؛ إذا لم يكن لهم وازع إيماني وضمير مهني أخلاقي، أن يجعلوها مطية لهم وسترة وحجابا للنصب على الناس، وابتزاز البسطاء وخداع السذّج، واستجلاب منافع كثيرة غير مشروعة.
إن مزاولة هذه الوظائف من طرف البطل، لم تكن بفضل كفاءته العلمية، وإنما تسللَ إليها عن طريق الجاه (الموهوم) والمال الذي جمعَه من مهنة النصب، النصب بتزوير الوثائق، وكذا بالمظهر الذي كان مُغرٍ وخادعٍ بشكل كبير، مع كثير من الأبهة والبذخ؛ التي أوقعت كثيرا من الطماعين في شرك النصب، تجسيدا للمثل القائل؛ “الطمّاع يستغلُّه الكذاب”.
من خلال هذه التيمات الدالة نستشف التالي:
بخلاف الدول المتقدمة، التي يتمتع شعبُها بقدر معقول من الوعي؛ تُعتبر وظيفة “سفير” أو منصب “مدير أمن” أو “محامي” أو أي مهنة أو مسؤولية، هي التزام وميثاق يخوِّلُ لصاحبه أداء واجبٍ مقابل أجر متفق عليها، وتبقى يد العدالة طويلة وممتدة إلى كل من سوَّلت له نفسُه تعدي الحدود، واستغلال النفوذ.
في المقابل؛ نجد في الدول النامية والمتخلفة، أن السُّلم الوظيفي كلما علا؛ إلا وأصبحَ صاحبُه مَحميا بالقانون من القانون نفسِه، وأنه ممكن أن ينصِبَ على الناس ويبتزَّهم كيف شاء دون أن تطاله يد العدالة.
ما زالت هذه النزعة التملُّكية والسلطوية الثأرية، هي المقياس المهيمن والعقلية السائدة في عالمنا العربي للأسف الشديد، حيث يُعتبر الوصول إلى رُتبة أو مكانة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية في عالمنا الثالث، بمثابة شهادة براءة وإعفاء من المساطر القانونية،
وأنَّ أي تصرف مُشين بعدها؛ مقبولٌ ومسموح به، بل ويُعتبر حقا مشروعا. وهذه باختصار شديد بعض دلالات الوظائف والمناصب التي عرضَها المسلسل بحسٍّ سينمائيّ نقديّ احترافيّ وراقٍ جداً.
تُصور لنا سلسلة (العراف) أبناء البطل على أنهم نسيجٌ مختلف تماما، لقد استطاع كاتبُ السيناريو أن يُبدع إلى درجة كبيرة في ابتكار هذه الحالة الفريدة، أبٌ له أربعة أبناءٍ أشقّاء وأخت، ولهم انتماءات ومرجعيات إيديولوجية ليست فقط مختلفة؛ وإنما متناقضة تماماً، هي انعكاس صريح لحالة المجتمع العربي عموما، والمصري بشكل خاص باعتباره العينة والموضوع الذي تُعالجُه السلسة.
هذه الأفكار والمرجعيات؛ تحيل في مدلولِها العميق على الأيديولوجية والمعتقدات والأفكار النمطية السائدة في مجتمعنا العربي، فالابن البار الملتحي “الحاج عبد الله أبو الحجاج المصري”، يجسد رجل الدين الملتزم شكلا وتصَوُّرا وتصرفا كذلك.
والمفارقة العجيبة والغريبة؛ تكمن في كون علاقة البطل هذه المرة بالإسلاميين قد طغت بشكل كبير، بدءً بابنه الملزم، وصولا إلى علاقته بالمعتقلين الإسلاميين في السجن، وتأثرُه بهم، والتزامُه بالتردد على مسجد السجن؛ انتهاءً بتقمصه لهيئة الملتزم (اللحية والقميص القصيرة والسُبحة والمسواك)،
وإن كانت هي الأخرى؛ مجرد طريقة من طُرق البطل الكثيرة في النصب والاحتيال والنهب، إلا أن مدلولها العميق يوحي بنوع من المهادنة وتقبل الآخر…
هذه الحالة؛ ويبدو أن الدلالة الضمنية لهذه الرسائل؛ أنها انعكاس وتجلٍّ للحالة التي آلت إليها مصر بعد الثورة مباشرة، والمتمثلة في وصول المعارضة الإسلامية إلى السلطة. موازاةً مع الحالة المحتقنة آنذاك من جهة، في جُرأتِها وتناغُمها الكبير مع هامش الحرية مَوْفور، والذي سرعان ما استحالَ إلى ما يشبه الفوضى.
قبل أن يكتُمَه ويُلغيه نهائيا الانقلاب العسكري الذي أعقب هذه الفترة الفارقة من تاريخ مصر الحديث. ويُمكن أن نقول إن المخرج؛ تقصَّد الإشارة إلى فصيل الإسلاميين في مصر؛ إشارة فيها قدراً من التوازن، على اعتبارِ أن هذا الفصيل مكوِّنٌ أساسي في البلاد.
كما أن الظرفية استدعت ذلك، من خلال هامش الحرية الذي سمحت به الثورة، وأيضا من خلال كون الفصيل الإسلامي عنصرا أساسيا في حكم مصر ما بعد الثورة.
الابن، “السيد العربي الكحكي”، صورة طبق الأصل للأب البطل (النصاب)، “محمد مصطفى زهران”، يحيل على الواقع المفارق والمتناقض لحالة المجتمع العربي، الذي يعرف هوةً شاسعة بين طبقات المجتمع بين فقير معدَم وغني فاش الثراء.
ونقصد هنا الرفاهية التامة والبذخ الفاحش الذي يعيشُه الإبن المترف المسرف والمبدّر “السيد العربي الكحكي” في بفضاءات الفخامة، في انعزالٍ كامل وقطيعة شاملة مع العناصر والطبقات الدنيا والمستحقرة والمسحوقة في المجتمع المصري،
والتي ينضوي تحتها المعطَّلين والفقراء والمعوزين ومتوسطي الدخل والفئات الهشة…، ولا يوجد بين هاتيْن الطبقتيْن طبقة متوسطة معتبرة تُعادل أو تقارب الطبقتين السُفلى وعليا.
الابن “حسام”؛ شخصية صلبة ظاهريا، تتسم بالصرامة المعهودة في رجال الأمن والجيش، شخص يخاف على سمعته، ويبدل المستحيل لطمس كل ما له علاقة بوالده (البطل النصاب) بسبب ماضيه السيئ، ومحكومياتِه العديدة وفراره الدائم والمستمر من القضاء وعدالة.
البنت “قمر”، تِيمتُها الدالة واضحة جدا في المسلسل، وهي رمز الضعف والانهزام والحنان والأحلام، تمثل “قمــر” تلك الإنسانة المغلوبة على أمرها، الإنسانة التي لا تملك قرارَها، الجناح الأضعف المدعوم دائما من أبيها.
إذ إن هذه الصورة عموماً تعكس واقعا حقيقيا إلى حد ما حول المرأة في المجتمعات العربية، إلا أن المسلسل عرض أيضا نموذجا مقابلا لشخصية قمــر، وهي الصحفية “حنان”، التي ظهرت خلال المسلسل كلِّه بشخصية قوية جدا؛ فذّة وصارمة، ومستعدة للمواصلة والصمود والتحدي إلى أبعد الحدود.
ــ لم يأتِ المسلسل على ذكر دول أوروبية بعينها إلا في سياقات خاصة نذكر منها:
لـنـدن: كانت وجهة أحد كبار رجال الأعمال، بعد أن كُشفت ملفات فساده ونصبه على الدولة والمواطن على حد سواء.
اليونان : الدولة التي اشترى أو شيَّدَ فيها بطل المسلسل قصرا مَنيفا بالثروة التي جمعها خلال حياته بالنهب والسلب والنصب حينا، وبالعمل الشريف بهويات مزورة أحيانا أخرى، هذا القصر الذي أراد أن يكون عُشَّ العائلة ومجمعَ شملها بعد توبتِه المُفترضة.
إضافة إلى كون هذا البلد “اليونان”؛ مُقترح الأب (بطل المسلسل) كوجهة يقضي فيها ابنه حسام شهر العسل، وبالضبط في القصر الذي بناه أو اشتراه هناك في اليونان.
وهنا؛ تبرز مرة أخرى مسألة الفردوس والنعيم المفقود، الموجود دائما وأبدا خلف البحر، والراحة والرفاهية التي لا ينشدها المواطن العربي قبل وبعد الربيع العربي؛ إلا خارج بيئته، وبعيدا عن بلده. لأسباب كثيرة موضوعية وغير موضوعية.
إيطاليا: ذُكرت في المسلسل باعتبارِها الدولة التي سُجن فيها البطل، وقد اعترف أنه تعرض فيها للتعذيب، لكن اعترافه كان ساخرا جدا، حيث قصدَ أنه عومِل معاملة حسنة ولم يتعرض للتعذيب كما حصل ويحصل في السجون ومخافر الشرطة العربية.
تُركز صورة المخرج على باب السجن، وعلى لافتته المكتوب عليها (سجن ليمان)، واسمه سجن ليمان أبو زعبل، يقع في منطقة سجون أبي زعبل، وهو من السجون المغلقة الممنوع فيها الزيارات، ومعظم نزلائه من المنتمين للجماعات الإسلامية المتشددة.
كما يُعتبر سجنا سياسيا للصحفيين والمعارضين السياسيين، وهو الثاني من حيث التصنيف والسمعة السيئة بعد سجن طرّة.
ننتهي في ختام هذه القراءة الواصفة؛ إلى أبرز فكرة تضمنها المسلسل؛ هي قضية ترشح البطل لرئاسة مصر، وقد وردتْ هذه الفكرة نصا في الحوار القصير الذي دار بين البطل (عبد الحميد البكري) ومسؤول كبير في الدولة،
هذا الحوار؛ تضمن الحلول الممكنة لتنازل البطل عن خوض غمار الانتخابات الرئاسية، وتمثلت الفكرة الأساس فيما قاله المسؤول الكبير والنافذ، في كون رئيس البلاد جاهزٌ ومُعدٌّ سلفا لاستلام القصر الجمهوري، وأن الفائز معروف حتى قبل إجراء الانتخابات الرئاسية.
هذا التلميح الصريح، يحيلنا مباشرة إلى إشكالية الحُكم في البلاد العربية، والواقع السياسي والديمقراطي البئيس والمتردي الذي تعيشه الجمهوريات العربية.
في غياب أي أمل لحياة ديمقراطية حقيقية، يتحول فيها المواطن العربي إلى إنسان حر له كرامة وله رأي وله خيار. ويتنازل فيها الحاكم عن صفة الكمال والخلود إلى مسؤول له صلاحيات وعليه رقابة ومعرض للمساءلة والمحاسبة.
لقطة النهاية في المسلسل؛ كانت؛ (سرقة البنك المركزي، وامتهان النصب والاحتيال من جديد)، وهي لقطة تندرج في مضمونِها ضمن السرد دائري، حيث يتم تصدير كل الأحداث والمشاهد إلى نقطة البداية لتُعاود التناسل والتطور بنفس الكيفية وبنفس الأحداث وبنفس النتائج كذلك.
ما يعني في مضمون الفيلم استمرار البطل في ممارسة النصب، وعدم اقتناعِه بجدوى الاقلاع عنه. ما يعني في الفكرة العامة للمسلسل؛ استمرارُ الواقع العربي على هذه الشاكلة إلى ما شاء الله أن يستمر.