المهدي المنجرة – “العولمة” و”الميغا-إمبريالية”
المقصود بالعولمة هو الاستعمار الجديد الشمولي، استعمار بدون لون وبدون راية وبدون جواز، تقف وراءه الولايات المتحدة الأمريكية، التي تهدف إلى تشتيت مجتمعات العالم الثالث أكثر مما هي مشتتة، والعولمة-على عكس ما تنادي به من انفتاح- هي الانكماش الحقيقي.
لأنها تسعى إلى تطويق حركة الآخر بتوجيه كيان واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم فإن العولمة في واقع الأمر هي الأمركة، وما دون هذا المفهوم يعد تزيبفا وخِداعا حتى يتسنى للعولمة تحقيق مآربها المرتبطة في الحقيقة بالأخلاق وليس بالاقتصاد كما يُدَّعَى.
فالحضارات اليهودية-المسيحية ترمي من وراء العولمة إلى فرض قيمها وأخلاقياتها وأسلوب حياتها على الحضارات غير اليهودية وغير المسيحية كحضارة عالمنا الإسلامي، وما الاقتصاد إلا واجهة لإخفاء المأرب الحقيقي للعولمة الكامن في النفوذ إلى حياة المجتمعات لاستمرار بسط الهيمنة والتحكم.
(())
فضلا عن أزمات العولمة ذات الطبيعة المادية هناك تأثيرات تمس الجانب النفسي أو ‘السيكولوجي’ لشعوب العالم الثالث، فالعولمة هي السبب في عدم وجود رؤية مستقبلية لدى هذه الشعوب لأنها لم تعد تستطيع أن تحلم ولا تمتلك أحلاما على أساسها تبني مستقبلها، إذ تم اقتلاع مرجعيتها وجذورها واستبدالها بأحلام لا تخصها.
وهذا ما نسميه بالاستلاب والانسلاخ الذي تعانيه شعوب العالم الثالث بما فيها عالمنا العربي والإسلامي. ولقد لعب الإعلام دورا فعالا ودقيقا في ترويج دعاية العولمة التي تُعَدُّ رؤيا لتحقيق الهيمنة باستغلال التطور التكنولوجي/الإعلامي ووسائل الاتصال والتأثير والتوجيه.
الشيء الذي جعل العالم يعيش في كنف حرب نفسية زرعتها ما روجته الولايات المتحدة الأمريكية بمعية العالم الغربي من أفكار مُغَلَّفَةٍ ومُلَغَّمَةٍ حول العولمة وحول أي أكذوبة أرادت أن تهيمن بها على العالم.
وكذا الحملات الدعائية التي تقوم بها وسائل الإعلام الموجَّهَة نحو تحقيق أهداف أيديولوجية وتوجيه الرأي العام والتأثير عليه بالمفاهيم التي تخدم مصالح العالم الغربي وتجعل من العالم لا قرية صغيرة، بل قرية تحت رحمة العملاق.
(())
العولمة لم تُوَّلِدْ أزمات اقتصادية فحسب بل هي خَرَابُ الشعوب على جميع المستويات الاقتصادية والديمقراطية والثقافية .. لأنها سياسة استعمارية تهدف إلى الحفاظ على مصالح مُبتَدِعِيها على حساب تعميق أزمات العالم الثالث من طريق الضغط العسكري والاقتصادي وفرض أساليب هذه المجتمعات.
وكذا من طريق الشركات المتعددة الجنسية التي انخفض وتقلص أمامها دور الدول والحكومات لما تملكه من مال وسلطة تَفُوقُ حتى سُلَطَ الدول المتواجدة فوق أرضها.
(())
نجحت العولمة في شيء واحد: هوتفتيت وتشتيت ‘شبه الوحدة’ بين دول العالم الثالث. فمنذ مؤتمر باندونغ سنة 1955 الذي يُعَدُّ أصل ميلاد حركة عدم الانحياز المتبلورة بمؤتمر بريوني بيوغوسلافيا في يوليو 1965، والتي هدفت إلى محاربة الاستعمار ومساندة القوى المتطلعة إلى التحرر والمحافظة على الهوية الوطنية.
سَعَتْ دول العالم الثالث إلى تحقيق الوحدة بين صفوفها، الشيء الذي أفزع الغرب ففكر في تفريق هذه الصفوف، وجاء الشتات على يد العولمة التي نحياها اليوم والتي أفرزت-كما كُنْتُ قد تَوَقَّعْتُ- الحرب الحضارية ضد العراق سواء من خلال عاصفة الصحراء أو عبر ثعلب الصحراء.
(())
نحن لم نبق في الإمبريالية والهيمنة، بل دخلنا عصر الميغا-إمبريالية، وهي شيء جديد في العلاقات الدولية وفي التطور الإنساني، لأن دولة لها إمكانيات عسكرية هائلة في الهدم والتحطيم، لا أحد يمكن أن يتحكم فيها أو يوقفها عند حدها.
فهذا لم يحصل في تاريخ الإنسانية، هذا يحدث الآن لأن عدة دول بما فيها الدول الغربية قبلت بالوضع كما هو، هذه التغييرات ستأتي وسنراها تدريجيا، والأجيال القادمة بالخصوص ستراها، ولكن يجب ألا ننسى دور الاستلاب، وأن جزءا مهما مما يسمى بالنخبة السياسية والفكرية في العالم العربي برهنت عن انتهازية لم يعرف التاريخ لها مثيلا.