في قلب مدينة رحوفوت بفلسطين المحتلة (إسرائيل حاليا)، يقع معهد وايزمان للعلوم (Weizmann Institute of Science)، الذي يُعدّ من أبرز مؤسسات البحث العلمي في العالم، وخاصة في ميادين الفيزياء، والكيمياء، وعلوم الحياة، وعلوم الحوسبة.
يتميز المعهد بجمعه بين البحث الأكاديمي الأساسي والتطبيق العملي الموجّه نحو الابتكار التكنولوجي، ويُصنف ضمن أرقى المعاهد عالميا من حيث الجودة البحثية والاستثمار في المعرفة.
✦ النشأة والسياق التاريخي:
تأسس المعهد سنة 1934 تحت اسم “معهد دانيال زيف لأبحاث العلوم”، ثم أعيدت تسميته سنة 1949 تكريما للعالم الكيميائي الدكتور حاييم وايزمان، أول رئيس لدولة إسرائيل، وأحد مؤسسيها العلميين والسياسيين. وقد كان وايزمان يؤمن بأن العلم هو البوابة الحقيقية لبناء الأمم، وأن التقدم العلمي ينبغي أن يكون الركيزة الأساسية للنهوض بالدولة الحديثة.
✦ الرؤية العلمية والبنية المؤسسية:
يختلف معهد وايزمان عن معظم الجامعات، إذ لا يمنح شهادات بكالوريوس، بل يركز كليا على البحث العلمي والدراسات العليا. يضم:
- خمس كليات أساسية:
- الفيزياء
- الكيمياء
- الرياضيات وعلوم الحاسوب
- علوم الحياة
- التربية العلمية
- أكثر من 250 مختبرا بحثيا متطورا
- طاقم أكاديمي يضم علماء حاصلين على جوائز دولية مرموقة، بمن فيهم فائزون بجوائز نوبل.
ويتمحور نموذج عمل المعهد حول الربط بين الحرية الأكاديمية المطلقة للباحثين، وتوجيه البحث نحو تحديات علمية عالمية مثل: السرطان، الذكاء الاصطناعي، تغير المناخ، والطاقة المتجددة.
✦ الأبحاث التطبيقية والتجارية:
ما يميز معهد وايزمان أيضا هو امتلاكه ذراعا تجاريا ضخما هو “يد وايزمان للعلوم” (Yeda Research and Development Company)، وهي المسؤولة عن نقل براءات الاختراع إلى السوق، وتطوير شراكات تجارية مع كبرى شركات التكنولوجيا والأدوية.
وقد حقق المعهد إيرادات ضخمة من بيع وتطوير اكتشافات في مجالات مثل:
- علاجات السرطان (مثل دواء Copaxone لعلاج التصلب اللويحي)
- تقنيات التشفير والذكاء الاصطناعي
- البيولوجيا الجزيئية والتحليل الجيني
✦ معهد وايزمان والتربية العلمية:
من الجوانب اللافتة أن معهد وايزمان لا يقتصر على البحث فقط، بل يضم كلية التربية للعلوم، التي تُعد من أبرز الكليات العالمية في تطوير طرائق تدريس العلوم والرياضيات. وتعمل على:
- تصميم مناهج علمية حديثة للتعليم الابتدائي والثانوي.
- تدريب معلمي العلوم وفق أحدث المعايير التربوية العالمية (NGSS وغيرها).
- إنتاج موارد تعليمية رقمية ومفتوحة المصدر.
وقد تمت ترجمة وتكييف العديد من المناهج والبرامج التي طوّرها معهد وايزمان إلى لغات متعددة، ويجري تطبيقها في دول عدة، بما فيها بعض دول أوروبا وآسيا.
✦ التميز الدولي والتصنيفات:
- يُصنّف باستمرار ضمن أفضل 10 معاهد بحثية في العالم في عدد من التصنيفات المتخصصة (مثل تصنيف “نيتشر”).
- يحتل مكانة مرموقة في مؤشر الابتكار العالمي، ويُعد من أنجح المؤسسات في تحويل الأبحاث العلمية إلى منتجات عملية.
- يشارك المعهد في برامج دولية كبرى، مثل مشاريع الطاقة النووية الأوروبية، والشبكات البحثية في البيولوجيا الجزيئية.
✦ أبعاد نقدية وأخلاقية:
رغم الدور الريادي الذي يلعبه معهد وايزمان، إلا أن ارتباطه المباشر بالمشروع الاستيطاني الصهيوني، واحتلاله لأرض فلسطينية، يثير جدلا أكاديميا وأخلاقيا واسعا، خاصة بين المناصرين لحملات مقاطعة إسرائيل أكاديميا (BDS). كما أن عددا من براءات اختراعه تُستخدم في الصناعات الأمنية والعسكرية، مما يُضعف البعد الإنساني للعلم في سياق سياسي محتل.
✦ الدروس المستفادة للمنطقة العربية:
إن تجربة معهد وايزمان تقدّم نموذجا واضحا لعدة مفاتيح للنجاح في البحث العلمي:
- استقلالية القرار الأكاديمي بعيدا عن البيروقراطية.
- تمويل طويل الأمد ومستدام للبحث العلمي.
- الربط بين التعليم والبحث والتطبيق الصناعي.
- الاستثمار في معلمي العلوم وطرائق التدريس المبتكرة.
وهي دروس حيوية خاصة للدول العربية الراغبة في بناء منظومات بحثية وطنية رائدة، ومن ضمنها ليبيا والمغرب والجزائر ومصر.
✦ خلاصة:
معهد وايزمان للعلوم ليس مجرد مؤسسة أكاديمية، بل هو نموذج متقدم في إدارة البحث العلمي والاستثمار في المعرفة. ورغم إشكالاته السياسية والأخلاقية، فإن بنيته المؤسسية ومنهجيته العلمية تقدّمان أرضية خصبة للنقاش حول إصلاح التعليم العالي العربي وبناء جامعات بحثية ذات بعد دولي.
والتحدي الأكبر يكمن في توطين مثل هذه التجارب دون الارتهان لتوجهاتها السياسية أو الأيديولوجية، بل الاستفادة منها في سياق يخدم الهوية الوطنية والتنمية الشاملة.