صواتة وصوتيات

“الضجيج الدلالي” في الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغة الطبيعية

(Semantic Noise)

في عالم التواصل البشري، ليست كل المشكلات ناتجة عن خلل في الصوت أو القناة، بل قد يكون التشويش داخل المعنى ذاته. يُعرف هذا الخلل بـ”الضجيج الدلالي“، وهو أحد أكثر أنواع التشويش خفاء وتأثيرا.

لا يتصل الأمر هنا بمجرّد كلمات لا تُسمع أو تُلتقط، بل بألفاظ تُسمع وتُفهم… ولكن على نحو مختلف. في هذا الجزء الأول من الدراسة، نُقارب الضجيج الدلالي من زاوية لسانية واتصالية خالصة، مع تفكيك نظرياته وتحليل تجلياته في الخطاب اليومي.

  • 1. مفهوم الضجيج الدلالي

الضجيج الدلالي (Semantic Noise) هو نوع من التشويش في العملية الاتصالية ينشأ عندما يفسر المتلقي الرسالة بمعنى يختلف عن المعنى المقصود من قبل المرسل، نتيجة فروقات في الخلفية الثقافية، الاصطلاح، أو التجربة اللغوية.

“إنه الفشل في مطابقة المرجع الدلالي بين المرسل والمتلقي، رغم سلامة الرموز اللغوية.” — تحليل لساني

هذا المفهوم يُعد مكونا أساسيا في نظرية الاتصال، وقد صاغه باحثو مدرسة الاتصال الحديثة، خصوصا ضمن نماذج “شانون وويفر” و”بيرلو”.

  • 2. أصول المفهوم في نظريات الاتصال

2.1 نموذج شانون وويفر (Shannon-Weaver Model)

رغم أن النموذج ركّز بالأساس على الجوانب التقنية للصوت والإشارة، إلا أنه أتاح لاحقا تصور طبقات “الضجيج” في مستويات متعددة، منها ما يتعلق بالرموز والمعاني.

2.2 نموذج ديفيد بيرلو (Berlo’s SMCR Model)

في هذا النموذج (Source – Message – Channel – Receiver)، يظهر الضجيج الدلالي بوضوح في مرحلة “الرسالة”، إذ تؤثر خلفية المرسل والمتلقي على تفسير المحتوى.

“الضجيج هنا ليس فقط ما يضعف الإشارة، بل ما يُضعف المطابقة بين المعنى المقصود والمعنى المفهوم.”

  • 3. مصادر الضجيج الدلالي

3.1 الفجوة المعجمية

عندما يستخدم المرسل مفردات غير مألوفة للمتلقي، أو اصطلاحات تخص تخصصا معينا.

مثال:
كلمة “نظرية” قد تعني في العلم شيئا مثبتا، بينما قد يُفهمها البعض كـ”رأي غير مثبت”.

3.2 التراكيب الغامضة

عند استخدام جمل تحتمل أكثر من تأويل دون قرائن سياقية حاسمة.

مثال:
“أعجبتُ بمحاضر الفلسفة” — هل المتكلم طالب أم محاضر آخر؟

3.3 الخلفية الثقافية المتباينة

تلعب الثقافة دورا جوهريا في تفسير المعاني، فبعض الرموز والمجازات لا تُفهم إلا ضمن إطار ثقافي خاص.

3.4 تعدد الدلالات

عندما تكون الكلمة أو العبارة متعددة المعاني، دون توجيه دلالي واضح.

مثال:
كلمة “عميل” قد تُفهم في سياق أمني أو تجاري أو مصرفي.

  • 4. مستويات الضجيج الدلالي

4.1 على مستوى الكلمة (Lexical Level)

تشويش ناتج عن سوء اختيار المفردات أو الجهل بدلالاتها في السياقات المختلفة.

4.2 على مستوى الجملة (Syntactic Level)

ينشأ عن الترتيب الغامض أو المربك للعناصر النحوية، ما يؤدي لتأويلات مختلفة.

4.3 على مستوى النص والخطاب (Discursive Level)

يتصل بغياب الوضوح في البناء الكلي للرسالة أو غموض المقصد البلاغي.

5. آثار الضجيج الدلالي في التواصل البشري

  • سوء الفهم بين الثقافات: عامل مركزي في الإشكالات الدبلوماسية والسياسية.
  • فشل الحملات الإعلامية: خصوصا إذا لم تُكيَّف لغويا وجغرافيا.
  • عثرات في التعليم الإلكتروني: بسبب غموض المصطلحات أو اختلاف المرجعيات.
  • عقبات في الخطاب الأكاديمي: حيث تتداخل الاصطلاحات بحسب الحقل.

استنتاج

يُعتبر الضجيج الدلالي عاملا خفيا لكن فعّالا في إرباك الرسائل الاتصالية، وغالبا ما يُهمَل رغم شدّة تأثيره في الحياة اليومية والتعليم والسياسة. وفي حين أن الضجيج الفيزيائي أو التقني قابل للكشف المباشر، فإن الضجيج الدلالي يتطلب تحليلا عميقا للبنية اللغوية والسياقات الاجتماعية.

في الجزء الثاني من هذه الدراسة، سننتقل إلى بُعد أكثر تقنية حيث نُقارب الضجيج الدلالي في ضوء الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغة الطبيعية.

 

  • 6- الضجيج الدلالي ومعالجة اللغة الطبيعية

في زمن تحوّل فيه الذكاء الاصطناعي إلى وسيط معرفي رئيس، لم تعد المشكلات الاتصالية مقصورة على البشر فقط، بل أصبح على الآلات أيضا أن تفهم وتُفهَم. وهنا يُطرح سؤال عميق: كيف يُترجم الضجيج الدلالي في سياق تفاعل الآلة مع الإنسان؟

  • 7. الضجيج الدلالي في نماذج NLP

نموذج معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing) يسعى إلى تمكين الآلة من فهم النصوص كما يفهمها البشر، ولكن الضجيج الدلالي يُضعف هذه القدرة، خاصة في:

  • تصنيف المشاعر (Sentiment Analysis): قد تُفسر جملة ساخرة بشكل إيجابي خاطئ.
  • استخراج الكيانات (NER): عند الخلط بين أسماء الأعلام والكلمات العامة.
  • الترجمة الآلية: حيث تفقد المعاني المجازية أو الاصطلاحية دقتها.

أمثلة حية على ذلك يمكن مراجعتها عبر مشروع WMT Translation Task:
https://www.statmt.org/wmt23/

  • 8. الخوارزميات ومشكلة السياق

تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على النماذج الإحصائية التي لا “تفهم” السياق بشكل عميق كما يفعل الإنسان، ما يؤدي إلى:

  • تحيزات دلالية: يتم تعزيز معان معينة بناء على بيانات تدريبية غير متوازنة.
  • غموض في النمذجة: بعض المفاهيم تُعامل كمرادفات رغم اختلافها دلاليا.

المرجع: Bender & Friedman (2021), “Data Statements for NLP”
https://aclanthology.org/Q19-1042.pdf

  • 9. الضجيج الدلالي في واجهات المستخدم

عند تصميم واجهات تفاعل لغوية (مثل الشات بوتات والمساعدين الصوتيين)، قد يظهر الضجيج في:

  • عدم تمييز الأوامر المجازية أو العبارات المحلية.
  • سوء فهم الضمائر والإشارات المرجعية.

مثال:
“شغّل الأغنية التي كنت أستمع لها أمس” — صعوبة الربط الزمني والدلالي.

  • 10. نحو تقليل الضجيج الدلالي: الحلول التقنية

10.1 النماذج القائمة على السياق (Contextual Models)

مثل BERT وGPT-4، التي تحاول فهم المعنى في ضوء ما يسبقه ويتبعه من نصوص.

10.2 تعزيز المعرفة الخلفية (Knowledge Injection)

ربط أنظمة الذكاء الاصطناعي بقواعد معرفية (Knowledge Graphs) لتفسير المعاني.

10.3 التدريب متعدد اللغات والثقافات

لتقليل التحيزات وتحسين إدراك الفروق الدلالية بين اللغات.

انظر مشروع Google’s T5:
https://arxiv.org/abs/1910.10683

  • خلاصة

يتخذ الضجيج الدلالي طابعا خفيا ودقيقا سواء في التفاعل البشري أو التفاعل مع الآلة. وإذا كان البشر قادرين على التفاوض التأويلي لفهم بعضهم بعضا رغم الضباب الدلالي، فإن الآلات لا تزال تكافح لتقليد هذا الحس التواصلي المعقد.

ولهذا، فإن فهم الضجيج الدلالي لا يخدم فقط التواصل البشري، بل يُعد أساسا لتحسين الذكاء الاصطناعي نفسه.

مراجع علمية للاستزادة:

Shannon & Weaver Model of Communication: https://plato.stanford.edu/entries/information-entropy/

Berlo, D. K. (1960). The Process of Communication.

Jurafsky & Martin (2023). Speech and Language Processing: https://web.stanford.edu/~jurafsky/slp3/

Bender & Friedman (2021). https://aclanthology.org/Q19-1042/

WMT Translation Shared Task: https://www.statmt.org/wmt23/

Google T5: https://arxiv.org/abs/1910.10683

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى