منبرُنا

صوت الشاورما

 

دعتني زميلتي* الأستاذة “برناديت صايغ” لمرافقتها إلى حفل للسفارة الكويتية في فندق المريديان بحلب، كان ذلك بعد تحرير الكويت من الإحتلال العراقي (يؤسفني قول ذلك) في أواخر صيف عام ١٩٩١ ، كنت حينها حديث العهد في مهنة المحاماة، محامٍ متدرب في مكتب الأستاذ النقيب “أحمد عيدو” (رحمه الله حياً أو ميتاً) و كانت زميلتي برناديت “أم يعقوب” قد حصلت على أربع بطاقات دعوة لحضور الحفل الدسم للسفارة الكويتية عن طريق زوجها المرحوم الأستاذ “موسى الخوري” القاضي المشهور بنزاهته ، فقد اعتذر هو عن حضور الحفل، و طلب إلى زوجته زميلتي أن تحضره بالنيابة عنه و تدعو إليه من تشاء، قبلت دعوة الزميلة الكريمة بكل ترحيب و رحابة صدر، و اصطحبت معي ابنة أخي الكبير “خلود”.

في الفندق المذكور، و في ساحة مكشوفة ضمن الحديقة، نصبت السفارة الكويتية أجهزة عرض أفلام على شاشة كبيرة مع أجهزة الصوت و باقي المعدات، و أمام الشاشة توضعت بضع طاولات تليها صفوف مقاعد وثيرة ملفحة بأغطية بيضاء، و على يمينها “بوفيه” طعام و حلويات و شرابات تنتظر المدعوين، كان الخطيب يشرح لنا عن عملية “درع الصحراء” التي أدت إلى تحرير دولة الكويت بقيادة التحالف الأمريكي – الدولي، ويعرض فيلماً وثائقياً عن العملية الحربية مرافقاً لخطابه الحماسي ، و عيون الحضور تتحمس إلى تذوق ملذات الطعام الشهي قرب المقاعد، و كلما سكت الخطيب لبرهة، تجهز الحاضرون للقيام عن المقاعد، و الهجوم على صنوف الطعام بلا رحمة، كان معظم الحضور من سادة القوم و “أبناء ذوات” كما يقال، يرتدون أفخر الثياب وربطات العنق و الياقات البيضاء، و النساء في أحلى حلة و بهاء ، فساتين طويلة و قصيرة و سلاسل فضة وذهب، و بما أنني لست من ذوي الحسب و النسب، فقد اِلتزمت الهدوء و تمسكت بالأدب، لم أتحرك عن مقعدي إلا بعد انتهاء العرض تماماً، و بعد هجوم الناس على موائد الجنان، كان صوت الشاورما و اللحوم و الكباب يطغى على صوت الخطيب طوال العرض، و عند ساعة الهجوم خرجت نفوس جشعة غريبة من تلك البذلات الفاخرة و الفساتين الساحرة… رعاع جائع هجم كقطيع الماعز على الشجر و الثمر، لم يكونوا قطعاً من البشر!

رأت أم يعقوب صحني خالٍ من الطعام، فيه بضعة قطع حلوى فقط، و بيدي كأس عصير فواكه، سألتني مستغربة :

• ما بك لا تأكل من الطبخ، إنه لذيذ و غني باللحم؟

ابتسمت و قلت لها :

• ألا ترين هذا الزحام و كأننا في حمام مقطوعة المي!.. للأسف لا يمكنني التدفيش و التنكيش مثل هؤلاء المفجوعين، سأنتظر حتى تزول الهجمة عن اللحوم، و آخذ نصيبي مما قد يتبقى.
ضحكت أم يعقوب، و سكبت لي من صحنها قليلاً من الشاورما، و قالت لي :

• يا مسكين أطعم بنت أخيك على الأقل، لن تنتهي المعركة (معركة الطعام و ليس درع الصحراء) حتى تقتلهم التخمة، و سينفد الكباب قبل القضاء على الإرهاب.


بعد عدة سنوات و بعد انتهاء تدريبي، و افتراقنا أنا و زميلتي أم يعقوب كلٍ إلى مكتبه الخاص؛ ترشح أحد أثرياء حلب من الزملاء المحامين لانتخابات مجلس فرع النقابة، و قيل بأنه فتح بوفيه شاورما مفتوح في منتدى الفرع مجاناً للناخبين ، دعاني زميلي صديقي الأستاذ “سمير” لحضور إحدى أمسيات الدعاية الانتخابية في نادي النقابة بحي “السبيل”، أغراني برائحة الكباب و الكبب و لفافات الشاورما المجانية ، و قال لي :

• دعنا نسهر في النادي و نأكل ما لذ و طاب قرب المسبح على أنغام الطرب الحلبي الأصيل، اسمع مني و جرب الشاورما اللذيذة قبل بدء عملية التصويت.
اعتذرت من صديقي سمير، و قلت له :

• اذهب أنت بالسلامة و العافية و التيسير ، تعرف بأنني لا أحب الزحام من زمان، بالتأكيد صوت الشاورما المجانية سيعلو و يُطرب الآذان، و سيسبب ازدحاماً فظيعاً في صفوف الزملاء.
ضحك سمير، و قال :

• هذا صحيح، البارحة كنت هناك و شاهدت عجب العجاب، كان الزحام على أشده طيلة الوقت على سيخ الشاورما، و لم أصل إليه إلا بشق الأنفس بعد شق ياقة قميصي و الكم، و عندما وصلت للنادل الذي يوزع اللفافات الشهيات، أكلت “كم” (خيبة غير متوقعة يعني) : ضحك النادل في وجهي و قال لي للأسف لم يبقَ و لا فرمة لحم. لذلك سأذهب مبكراً مساء اليوم، و أسبق كل الزملاء إلى سيخ الشاورما، و آكل منها عن اليوم والأمس.


في اليوم التالي رأيت صديقي سمير في “ندوة” المحامين في قصر العدل ، دعوته لشرب القهوة معي، و سألته بفضول :

• ماذا جرى معك أمس؟ هل استمتعت بأكل الشاورما قبل نفادها؟ أم لم يتركوا لك منها لقمة واحدة كأول أمس؟
ضحك سمير بزهو و فخار، و قال :

• إخس ، أنا أبو عبدو شيخ الشباب و لا أصل إلى سيخ الكباب؟!. أنت تعرفني حربوق، كم سبقت الجميع إلى باص “الهوب هوب” المتجه إلى حلب عندما نأخذ إجازة من “مدرسة الشرطة العسكرية” في دمشق؟ كنت أسبق الجميع و أحجز مقعدين لي و لك يا مدلل.
ابتسمت لأبي عبدو “الزكرت” ، و قلت :

• نعم هذا صحيح يا قبضاي ، لولاك لما صحّ لي مقعد في الباص، و للأسف لا أحب الزحام لليوم، و لا أجيد التعامل معه مثلك بقوة و حزم..
اِحكِ لي كم صندويشة شاورما أكلتْ؟

سكت سمير قليلاً و حدق في السقف كأنه يعد نجوم الظهر، زفر من صدره كل ذرات الهواء، و قال بهدوء و رواق :

• لا أعرف بالضبط ، ربما ثلاث أو أربع لفافات، الحمد لله أكلت حتى شبعت، لكن يا صديقي معك حق، صوت الشاورما استدعى اهتمام كل الحضور، الجائع منهم و الشبعان، لم يتركوا النادل حتى اختفت الشاورما عن السيخ، و كاد رئيس الفرع أن يطلب الإسعاف لأحد الزملاء المفجوعين الطماعين، انظر إلى تلك الطاولة على يمينك في أقصى الركن، هل ترى ذلك الزميل السمين ذا الطقم البني و القميص الأصفر و ربطة العنق الحمراء؟ إنه هو من أحدثك عنه.

حركت رأسي بهدوء و حذر ناحية الزميل المعني، و رأيت وجهه المنير و كرشه الكبير، و قلت لسمير :

• نعم رأيته و عرفته، ماذا به؟
تابع سمير :

• في الأمس شاهدنا بطنه منتفخة، ينزّ سائل أحمر من قميصه الأبيض أسفل بطنه، فحسبنا النادل قد حزّ له بطنه بسيخ تقطيع الشاورما الحاد، و خرجت أمعاؤه دون أن يحسّ.

أخبرنا رئيس الفرع ليتدارك الموقف قبل خروج أحشاء الزميل من القميص الأبيض المصبوغ بلون الدم، فهرع “الرئيس” لطلب الإسعاف السريع قبل معرفة حقيقية الأمر، و سارع الزميل المجروح إليه قبل إتمام المكالمة مع الإسعاف، و أخرج من داخل قميصه بضعة لفافات شاورما حيث مكان النزف الخارجي ، و قال للأستاذ الرئيس : (على مهلك يا سيدي الرئيس، لست مجروحاً و لا أنزف دماً، إنه زيت و دهون و مرق الفلفل الأحمر في الشاورما، نزّت من الصندويش خارج القميص و سببت هذا اللغط ، اعذرني فقد خبأت بضعة لفافات لزوجتي و الأولاد داخل قميصي ليأكلوها في البيت ، و أعتذر لكم عما سببته من فوضى وسوء فهم ) .
ضحك سمير و هو ينهي روايته، و ضحكت معه كثيراً، و قلت :

• لله در الشاورما ماذا فعلت بالناس، كم يعلو صوتها في المعركة الانتخابية فوق جميع الأصوات، و غداً يفوز الزميل الثري بمقعد مشرف في مجلس النقابة بفضل أصوات الشاورما الترويجية، فلا صوت يعلو على صوت الشاورما في المعركة بالتأكيد …

و للحقيقة أضيف : ذلك ما صار كما توقعت ، فقد نجح الزميل الثري، و فاز بمقعد في المجلس الموقر، و تربع على قلوب الزملاء الجياع، و إلى يومي هذا مازلت أسمع صوت الشاورما يجعجع في معاركنا الانتخابية الديمقراطية، و يفوز بغالبية الأصوات.


جهاد الدين رمضان
فيينا ٨ تموز ٢٠١٩
*النص من وحي مذكراتي ، أهديه لذكرى الزميلة الأستاذة برناديت صايغ أم يعقوب، بأمل أن يمن الله على أخي “يعقوب” بالفرج و السلامة.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى