دون فيسبوك
امتطى “دون فيسبوك” صهوة شاشة موبايله، و امتشق سبابته و إبهامه و كاميرا الموبايل، استعان بمعاونه المطيع “كيبورد” و جال في الفضاء الأزرق الفسيح، فهناك الكثير من “طواحين الهراء” ما زالت تنتظره.
أول ما صادف في جولة اليوم “عملاقاً من هواء” منتفخاً بشكل مثير للشفقة والتقزز، من الواضح أنه بحاجةٍ للتنفيس، صرخ في معاونه كيبورد و أمره قائلاً:
قل لهذا الطبل الأجوف بأن ساعته اقتربت، وأن نهايته ستكون على بوز قلمي!
طبع معاونه كيبورد حروف الحرب بأمانة، و أضاف:
بلّغته بما قلت للتو يا سيدي الدون، هل تأمر بشيء آخر؟
لا، لكن ابقَ متأهباً على طول، ربما نصادف طبلاً آخر.
وخزَ الدون زر “البوك Pok ” و هجم على العملاق المنفوخ، طعنه بأظفر إبهامه و قضى عليه ببضعة حروف خطّها على جداره الزمني.
صفق له الأصدقاء و المُتابِعون و الغرباء ، نال الكثير من الإعجاب “اللايكات” و معظم الوسوم، حتى حبيبته السرية المتعجرفة “نجمة السلام” وضعت له الوسم الأحمر ذا القلب النابض الحنون ” أعجبني جداً ” ، و شاركت “منشاره” في مجموعتها “الشوك و السكاكين و الصحون” مع ملعقة ذهبية برّاقة في ذيل التعليق.
برز له فجأة شاعر مشهور، كتبَ الشاعر معلّقته و علّقها على جدار الزمن، قرأ الدون قصيدته التي يقول في مطلعها:
الواتس اب و السكايب يعرفني و الفيسبوك
و الانستقرام كذلك و التيك توك
أنا الذي نظر إلى الملوك و الدجاج و الديوك
ما كل ما تتناوله يدي يبقى حقيراً فستوك*
بل يصبح لامعاً كضفائر الذهب المحبوك
أنا رب القوافي و سر البحور إذا عني سألوك!..
ابتسم الدون النبيل و أجاب الشاعر الصعلوك:
اطمئن يا أخي، لا أحد يسأل عنك و لا عن شعورك و أشعارك، لو كنتَ مثل الشاعرة فلانة ذات الحسن و الجمال و الكلام الذي لا يقال (من تحت الخصر و فوق النهدين) لسألوا عنك وانهالوا عليك بالإعجاب و عشقوك.
مضى الدون في جولته يبغي واحة يستريح فيها قليلاً قبل متابعة قتال طواحين الهراء التي تصادفه بكثرة في صحف الأخبار و قصص السمار و تغريدات الأشرار، لاحَ له من بعيد سراب جراد، اقترب منه بحذر و ترقب، أمعن النظر في الحروف المخطوطة على صفحة الماء، فوجد عروسة بحر بلا ثياب تستحم أمام المشاهدين بلا حياة، استذكر كلمات معلمه الكبير و علق ثيابه على مشجب الاستنكار و التنديد و الشجب، استلّ سبابته و خرمش بظفره على شاشة الجوال الذكي، أمرَ معاونه كيبورد أن يكتب:
(لا حياة في هذا القطر!..)
لله در معلمه الكبير الرأس المرحوم، كم كان حكيماً مهيباً و أصبح ملعوناً على كل لسان .
بين الحلم و الخيال يبحر الدون بلا مركب و لا قوافل، تنهره زوجته الحسناء و توقظه حالما وقع من يده الموبايل نتيجة غفوته في كبوة قصيرة على الكنبة (الصوفا) الرمادية، ينتفض الدون مذعوراً و يبحلق بعينيه الحمراوين، يفتح فمه و يقول:
مم مما ما ماذا جرى، هل أكلني الغول ؟ هل سقطت الطاحونة على رأسي؟ هل حظرني الوغد أم نكزني شوك الورد؟!.
تضحك زوجته و ترفع الموبايل الساقط على الأرض إلى الطاولة الصغيرة قرب الأريكة، تمسح رأس زوجها الدون فيسبوك بيدها اليمنى و هي تقرأ بعض الآيات و الأدعية، تعطيه كأس الماء البارد و تقول:
اشرب باسم الله و بالشفا، قم اغسل وجهك.
هذه عاشر مرة تغفو فيها و تسقِط موبايلك على الأرض، أخاف عليك في المرة القادمة أن تسقط أنت!.
فرك الدون عينيه و استغفر الله، شرب جرعة ماء على مهل، نهض واقفاً و توقف قبل أن يذهب لغسل يديه و وجهه في الحمام، توجه برأسه ناحية زوجته و قال بأسى شديد واضح من نبرة صوته المنكسر الحزين:
أنا ساقط من زمان يا زوجتي العزيزة، من يوم ما سرقوا منا الحياة الواقعية و أعطونا هذا الفيس بوك!
نحارب و نتحزب، نستقوي و نترجل، نصالح و نسامح، نحب و نكره، نصنع أوطاناً و نهدم أوطاناً ، نصنع ثورات على الورق و وسائل التواصل الاجتماعي، ننتصر و نوزع النعوات، نتقنّع بألف وجه و لا نقتنع، نشتري و نبيع الأحلام و الأوهام.
أوقعونا في شرك الخيال، و خرطونا غصباً في حزب الكنبة** الكبير، لست وحدي “دون فيسبوك” كما تلقبينني، كلنا فرسان زائفون على طول الوطن العربي، كل واحد منا يستلقي على الكنبة في بيته لا يكشّ و لا ينشّ و لا يعرف لماذا أو ل ايش.
جهاد الدين رمضان
في فيينا ٥ تموز/ يوليو ٢٠٢٠
*الفستوك: الضئيل القليل الشأن، مصطلح شعبي سوري دارج يطلق على كل صغير من باب التحقير أو لتقليل قيمته و مقداره.
**حزب الكنبة: مصطلح شعبي مصري حديث يعني الشعب الذي لا حول له و لا قوة، و لا يشارك في الحياة السياسية العامة في البلد على أرض الواقع بل من أريكته المريحة.