رقمنة ومعلوميات

الوحدة العربية الرقمية

منذ سنة 2017 صار الحضور العربي، أي الذي يتحقق بواسطة اللغة العربية في الفضاء الشبكي يحتل المرتبة السابعة عالميا قبل اللغة الفرنسية. ليس لذلك من معنى سوى أن هذا الحضور يتزايد باطراد، وأن انخراط العرب في هذا الفضاء بات واقعا ملموسا.


ما يجمع بين العرب في استخدام الوسائط الاجتماعية ليس فقط اللغة العربية، ولكن أيضا الهموم العربية المشتركة. إن أساس هذه الهموم ذاتي الصنع، كما أن جزءا مهما من تلك الصناعة برّاني الوضع. تتجلى الهموم العربية الذاتية في التشتت والتجزئة، وكأنها قدر تاريخي.

فمنذ سقوط الأمويين ابتدأ تشظي الدولة العربية الإسلامية. ورغم كل محاولات التوحيد ظلت التفرقة أساسا قائما. ومع عصر النهضة تمت استعادة أحلام بناء الدولة العربية وصارت الشغل الشاغل للجميع. لكن الصناعة الغربية ظلت تعمل على تقزيم هذا الحلم والعمل على إعدامه.

ولم يكن للتدخل الغربي من هدف سوى تحقيق التبعية. لم ينجم عن التجزئة والتبعية إلا التخلف على المستويات كافة، رغم المقدرات الهائلة التي يتمتع بها العالم العربي، والتي كان من الممكن لو كان النجاح حليف تجاوزهما أن يكون له موقع مهم بين الأمم والشعوب، لكن وحدة أخرى ظلت تجمع العرب جميعا هي الوحدة الثقافية، التي لم تفلح لا الدسائس الداخلية المتواصلة، ولا التدخلات الخارجية المتواترة في تفكيك أوصالها لتتلاءم مع واقع التجزئة والتبعية.

ولا يمكن لهذا الواقع إلا أن يثير الاهتمام ويدفع إلى السؤال. وها هي الإحصاءات الرسمية الأجنبية نفسها تبين أن الحضور العربي في الفضاء الشبكي يتزايد باطراد، وأن للعربية موقعا مهما على الصعيد العالمي، رغم كل محاولات القضاء عليها، وكل ادعاءات عدم صلاحيتها لتكون لغة العلم والعصر.فهل الهموم العربية هي التي تجمع العرب على لغتهم، أم أن العربية هي التي تجمع بينهم على همومهم، إلى حد أن صارت هي أيضا واحدة من بين تلك الهموم؟ في الحالتين معا تظل التجزئة والتبعية أساس كل الهموم.

بات حلم الوحدة السياسية العربية بعيد المنال، وقد كانوا يرونه في أواسط القرن الماضي قاب قوسين أو أدنى من التحقق في اليقظة. كما أن حلم الوحدة الاقتصادية تبخر مع التبعيات المختلفة، والصراعات الذاتية. وكان للتدخل السياسي والاقتصادي كما يمارسهما رجالات السياسة والأعمال العرب أثره البالغ في جعل الحلم مستحيل التحقق.

لكن الوحدة الثقافية التي اشتغل بها رجالات الأدب والفكر والثقافة ظلت توحد العرب جميعا، لأنهم يستعملون اللغة العربية بكيفية مختلفة عن اللغة نفسها لدى رجال السياسة والاقتصاد. ظل النص العربي المطبوع، سواء كان قديما أو حديثا، ينتج في أي قطر عربي، فيتفاعل معه العربي في أي قطر آخر. لقد لعبت الطباعة دورا كبيرا في توحيد العرب على لغتهم وتوطيد ثقافتهم.

كما لعبت الكتابة في العصور القديمة دورا في تثمينها حتى كان الكتاب ينسخ في بغداد، ويطلع عليه الأندلسيون قبل البغداديين. مع الألفية الجديدة صارت الوسائط الرقمية الجديدة تلعب الدور نفسه، وبصورة مختلفة تماما، بل ومتطورة أيضا. فهل يمكننا الحديث عن الوحدة العربية الرقمية؟

سؤال لا يطرحه السياسي ولا رجل الأعمال، فالسياسي لا يستعمل الوسائط الجديدة إلا لكسب الإعجاب، أو الفوز في الانتخاب. أما رجل الأعمال فلا يهمه منها سوى الربح. أما السؤال الثقافي الذي تفرضه الوسائط نفسها فهو: كيف يمكننا توحيد الجهود الرقمية للارتقاء بالإنسان العربي إلى مستوى تحقيق إنسانيته في العصر الرقمي؟ وكيف يمكن تحقيق التواصل باستخدام هذه الوسائط،

وقد صارت ملكا مشاعا، للتعبير عن هواجس العربي، وهمومه، بشكل راق يجعله ينتقل من الحضور السلبي، الذي يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: الاستهلاك بكل أنواعه، إلى الفعل الإيجابي المتمثل في الإنتاج في مختلف جوانبه؟ تتولد عن سؤال الوحدة العربية الرقمية أسئلة أخرى يطرحها إلى جانب المثقف والمفكر المنشغلين بالقضايا الكبرى المعنية، بالإنسانيات والاجتماع،

رجالات في اختصاصات محددة تتصل بالتربية والدين والأدب والفكر الأدبي واللسانيات والإعلام والمعلوميات، من منظورات تهتم بالمستقبل، وليس بتقديم إجابات للسياسي ورجل الاقتصاد حول أسئلة ظرفية وعابرة.

إن توطيد علاقتنا بالثقافة الرقمية، وتعميق معرفتنا بها، وتطوير إنتاجنا في نطاقها هو رهان المستقبل العربي. إن كل ما يتصل بالرقميات والرقامة والترقيم يؤدي إلى خلق مجالات خصبة للاجتهاد والإبداع والتفكير في مختلف جوانب الحياة. كما أن خوض النقاشات حولها في الفضاءات المختلفة، والمنصات المتعددة، بروح جديدة تتعدى إثبات الذات، وكسب الاعتراف،

كما هو سائد حاليا في علاقتنا بالعصر الرقمي، هو الكفيل بتثبيت الهوية الرقمية العربية، وتشكيل المواطن الرقمي العربي، وتأكيد أن الحضور العالمي العربي في الفضاء الشبكي ليس حضورا كميا يتحدد من خلال عدد المستعملين للشبكة العنكبوتية من العرب،

ولكنه علاوة على ذلك حضور كيفي قائم على التفاعل الإيجابي مع العصر، ومع القيم العربية الإسلامية الأصيلة التي لا تتنافى مع القيم الإنسانية الخالدة. إن توحيد الجهود الرقمية العربية مدخل لتجاوز التجزئة والتبعية والتخلف.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى