منبرُنا

هل يصلح المثقف ما أفسده السياسي؟

في الغرب، كما في العالم العربي، يَجري الحديث عن المثقف على ضوء تحولات عميقة تعتمل في العالم وتحديات جمة تلوح، والحاجة إليه من أجل الاضطلاع بدور طلائعي لتفسير الوضع، ولِم لا لتغييره. في فرنسا أحدث انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رجة في المشهد السياسي جعل المثقف يأخذ على عاتقه القضايا التي تعود بالأساس للأحزاب. أضحى هو صوت المعارضة الوحيد، وهو من يملأ الفراغ الناجم عن عجز الأحزاب، وعدم وضوح مرجعياتها الإيديولوجية، مثلما يملأ فراع الهيئات الوسيطة ومنها النقابات.

تتوزع فرنسا ما بين من يريدون أن يبعثوا نموذج سارتر المثقف الكوني، الموسوعي، وبين نموذج مشيل فوكو الذي نادى عقب انتفاضة الشباب في 68، بالمثقف المختص، وبين الذين يدعون إلى المثقف الجماعي، أي من يرتبط بشبكة، ويسعى أن يؤثر من خلال بيانات ونداءات موقعة من قِبل ثلة مشهودة ومؤثرة. يعتبر الكثيرون في فرنسا الظرفية الحالية سانحة لانبعاث المثقف ودوره النقدي.

في العالم العربي، يحتدم الحديث عن دور المثقف. يُعاب غيابه، ويؤخذ عليه اصطفافه مع السلطة، أو تقوقعه في برج عاجي، أو في تخصصه المعرفي حيث لا يُحدّث إلا ضرباءه ويحدثونه في لغة مقعرة قد لا تنفذ لشرائح المجتمع وهي لذلك لا تؤثر فيه.

في العالم العربي، الطريق غير سالكة، معالمها غير واضحة، والقواعد نزقة، تتغير حسب الأهواء والظروف، والقانون ذريعة، وغطاء للقوة، وفصل السلطة مقتضى قانوني لا فعلي، والدولة أداة قسرية
سبق للأكاديمي الأردني مروان معشر أن كتب كتابا قيّما (بالإنجليزية) قبل أربع سنوات عنونه باليقظة العربية الثانية، وهو ينسج على منوال سالفه جورج أونتونيوس صاحب كتاب نفيس هو اليقظة العربية، في الأربعينات من القرن الماضي، يقول فيه مروان معشر إن اليقظة العربية الأولى كانت شأن نخبة من دون جماهير، وكانت أغلبها سادرة في الجهل والأمية، أما ما اعتمل مؤخرا من حراك فهو صنيع الجماهير من دون النخبة. ولا يعدم هذا القول من وجاهة.

ينصرف مفهوم النخبة إلى الفاعل السياسي والفكري والاقتصادي. يمكن أن تتوسع النخبة بداخل كل فئة، ذلك أن السياسي يمكن أن يكون فاعلا، أي حاكما، مثلما يمكن أن يكون معارضا. ويمكن للفاعل الفكري أن يكون عالم دين، أو خارج عن أي منظومة عقدية، فيكون صحافيا أو صاحب رأي، أو جامعيا، أو مبدعا في كل صنوف الإبداع، مثلما أن الاقتصادي يمكن أن يتوزع في حلقة واسعة، من مستثمر وبنكي ورجل أعمال.. والذي يجعل من النخبة نخبة، ليس وضعها، بل تصورها، فليس كل سياسي له تصور ما، ولا كل صاحب ثروة له منظور مجتمعي. فنحن بالأساس نقصد من له تصور مجتمعي، مثل فورد في الولايات المتحدة، أو كروب في المانيا، أو داسو في فرنسا، أو سابقة طلعت حرب في مصر.

والذي يهمنا هنا، هو النخبة الفكرية لأنها هي التي ترسم السبيل. هي التي تتجاوز وضع معضل، أو محتقن، من خلال صوغ باريديغمات جديدة. لِنقلْ بدءا إن وضع المثقف في العالم العربي غيره في الغرب. معالم الطريق في الغرب واضحة، والقواعد مرساة وليست موضع جدل، من الاحتكام للقانون، وسموه في العلاقات المجتمعية، وفصل السلطة في الحقل السياسي، والسيادة الشعبية، ودور الدولة بصفتها تعبيرا عن عقد اجتماعي، وهي حامية للحريات الفردية والجماعية. يتحرك المثقف ليس ليغير القواعد، ولكن ليصحح الاختلالات.

على المثقف أن يفكر في الإطار الجامع لمكونات شعب، وهو الدولة، باعتبارها عقدا اجتماعيا، وعليه أن يفكر في الميكانيزمات التي من شأنها إرساء العدالة الاجتماعية

في العالم العربي، الطريق غير سالكة، معالمها غير واضحة، والقواعد نزقة، تتغير حسب الأهواء والظروف، والقانون ذريعة، وغطاء للقوة، وفصل السلطة مقتضى قانوني لا فعلي، والدولة أداة قسرية، ولم تسلم من إغراء التقنقراط والمقاربة الأمنية، في غياب أي موازين مضادة. لذلك يصبح دور المثقف في العالم العربي أكثر إلحاحا، لأنه من يقع علي كاهله وضع بارديغم جديد، ومن يرسي قواعد جديدة، وهو لن يفعل دون أن يُمحّص منظومة قديمة ويَعرضها للنقد، ومن دون أن يصطدم مع مصالح قائمة. لذلك فوضع المثقف في العالم العربي شبيه بذلك الذي برز في أوربا في القرن الثامن عشر، وبخاصة في فرنسا، حين أضحت البنيات القائمة غِلاّ تصد عن أي تطور ممكن، وأقدم مفكرو فرنسا، معتمدين على النتائج العلمية التي أفرزتها مدرسة الموسوعيين على تفكيك بنية القديم.

يعتبر فولتير في فرنسا بل في الغرب نموذج المثقف الذي اصطدم ببنيتين قويتن وحليفتين هما النبلاء، من جهة، والكنيسة من جهة أخرى. واجه نبيلا وهو في شرخ الشباب وقد عيّره النبيل بالقول: مَن هذا السوقي الذي ليس له اسم. فما كان جواب فولتير إلا أن قال قولا ذهب مذهب الأمثال: اسمك تنهيه، وأنا أبدأ اسمي. أودع بعدها سجن الباستيل الرهيب. واجه فولتير افتئات الكنسية حين حكمت ظلما على البروتسنتي كلاس بالشنق، وكتب بعدها كتيبا مرجعيا عن التسامح. كانت المشاكل الكبرى آنذاك هي العدالة، وهي حرية التعبير، وهي احترام الآخر، أو التسامح، وهي إعمال العقل في مواجهة التقاليد وسدنتها. أليت هي القضايا التي تقض مضاجع العالم العربي؟

على المثقف أن يفكر في الإطار الجامع لمكونات شعب، وهو الدولة، باعتبارها عقدا اجتماعيا، وعليه أن يفكر في الميكانيزمات التي من شأنها إرساء العدالة الاجتماعية، وعليه أن يُولي التربية أهمية كبيرة لا باعتبارها منظومة نقل معارف، بل باعتبارها بوتقة للتغيير والتحول. أداته أن يكون نقديا، وأن يرتبط بمصالح مجتمعه، أي عضويا، وبيداغوجيا، يتحدث بما يفهمه الناس. نعم نحتاج أدِلاّء مصداقا لقول الشاعر القديم:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا

 

حسن أوريد

كاتب أكاديمي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط وببوردو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى