منبرُنا

ما لم يصرح به النص؛ نجدُه في “القراءة”

 

– نجد في الآونة الأخيرة العديد من اللقاءات الأدبية وفي مدن عدة بالمغرب، فإلى أي مدى يمكن لهذه اللقاءات أن تخدم الشعر؟ كيف ذلك؟

_هي اللقاءات الأدبية تخدم الشِّعر والشاعر معاً..تفتح أمامه آفاق التعارف على أدباء آخرين لخلق المنافسة الأدبية الشريفة وتبادل القراءات والاستماع إلى النقد المباشر الذي به يستقيم عود الشاعر ويستقي منه الرحيق الذي يلزم شعره لليناع.. إذن فمثل هذه التظاهرات الشعرية تضخ في رئة الشعر نَفَسَ التجديد بالبحث والتمحيص بتعدد الرؤى المكتسبَة..وصقل الموهبة بذلك..

2- من خلال التطورات التي تعرفها الأجناس الأدبية ووصولا حتى الى تشعبها وتنوعها والى مرحلة اللا تجنيس أحيانا فهل يمكن أن يتطور الشعر إلى جنس آخر؟

_مهما حدث من تغيير في بنية النص الشعري حسب الاستحداث الذي عرفته الثورة التجريبية فلن يخرج الشعر عن مسماه، و لا يمكن أن يفقد خصائصه وأهمها الشاعرية والرنة الموسيقية التي ترافق صوره وجمله الشعرية.. كالرواية مثلا التي لا تستطيع ان تفقد أهم ميزاتها “الوصف”. أيضا الكتابات النقدية إن تفتقر إلى التحليل المقنع والتمحيص في الشكل و الدلالة تضعفْ.

ولا ننفي أن الأدب قد عرف الأدب (شعرا ونثرا) ثورةً قلبتْ موازين مرجعيتة الضيقة من الالتزام بقوالب معينة تحدد هويته وشكله إلى خلخلة تلك القيود والتَّفلُّت (المعقول) ليكتسب سميائية مختلفة تجرده من اجترار “التقليدية” إلى “عصرنة” تواكب الإرهاصات الحياتية..وخلق لغة شعرية قادرة على الاختراق وتأسيس واقعٍ مغاير..وهذا ما يسمى بالتجريب الذي سلكه شعراء كثيرونٍ أبدعوا فيه وأسهموا في ترصيص أرضيته بفنية تعتمد اللغة في البناء وتكثيف حذاقة الشاعر في توظيفها دلاليا لتفجير وخرق الآفاق المحدودة إلى ما وراء التخييل والترميز..ربما من هنا طَفَتْ بعض التخوفات من منتقدي المدرسة الحداثية أوالتجريبية في الأدب المعاصر بادعاء أنه قد تتشوَّه صورته بهذه النقلة غير المحسوبة(حسب زعمهم).. لكنْ أثبتت الرهانات صمود هذه القفزات “التجديدية” والحرص على إثبات ذواتها بتحدٍّ سريع الوتيرة..ولا يمكن إغفال هذه الضجة التي أُحدِثتْ في الساحة الثقافية في الشعر والسرد.. التي تعَد ثورة أدبية كبيرة جدا وواسعة النطاق اكتسحت الغربَ فالشرقَ، حيث وجدتْ مرتعها الخِصبَ في بلاد المغرب.. التجريب مستمرٌّ..لكن أن يفقد الشعر سمة الشاعرية ويدخل مرحلة التجرد من جنسه تماما فلا أظن أن يقامر الأدباء بهذه الخاصية التي تميز الشعر عن باقي الأجناس.. بل ما يشهده الظرف الراهن إبان هذا التطور الكبير يبشر بإحياء اللغة المنسية (باستعمال مصطلحات كادت تفقد انتسابها إلى قواميس اللغة، لتوظيفها فنيا وجماليا ودلاليا توظيفا عميقا جدا..بحِرفية لا تخلو من تقنية وإبداعٍ..) أعادتنا إلى زمن اللغة الجميل..الذي كنا نستنبطه من الشعر الجاهلي ومن فطاحلة اللغة.. وهذا لا يعني أن كل الأقلام التي تخوض في هذا الجانب..تملك أدواتها لتحقيق هذه السِّمَة الجمالية.. فقصيدة النثر “المولود الجديد” الذي برز كمسمَّى مستحدَث للشعر(الحر) الذي ظهر مع غادة السمان في بداية القرن الماضي وبدر شاكر السياب مثلا وغيرهما.. تبنتْ كتابتها الكثير من الأقلام إلَّم أقل كلها ولو مرْحليا.. فظهر الغث والسمين..حيث استسهلها الكثير من الكتاب فاندحرَ “الغثُّ”.. وانطلقَ “السمين” يعانق الانبهار والتميز..

3- هناك العديد من المسابقات الشعرية في القنوات التلفزية أو في المجلات والصحف، هل يجدها الشاعر ضرورية، وما يمكن أن تضيفه لرصيده ؟

_المسابقات قد تكون معيارا نسبيا لتقييم نص أدبي..وليس مقياسا لنجاحه أو فشله..لأن ذلك يتوقف على نزاهة المسابقة وتمكن اللجنة التحكيمية من آليات النقد..والنص الأدبي الذي قد لا يحرز نجاحا في مكان ما..قد يحالفه الحظ مع لجنة أخرى تكتشف ماهيته الحقيقة وفنيةً غابت عن غيرها..أو العكس.. وأعتبرُ المسابقات الأدبيةَ تجربة جميلة تحفز للتقويم إذا لازمتِ النصوص قراءات نقدية تبرز ما خفيَ عن الكاتب نفسه أحيانا..على ألا تكون وجهة الكاتب وبُغيتَه.. فالجري خلفها مضيعةٌ للوقت..وإحباط للإبداع والتطوير..
سعدية بلكارح

4- هل الشاعر مجبر على التصريح بمواقفه السياسية والفكرية أم يكفي التعبير عنها بإبداعه حتى لا يتحول إلى داعية أو بوق لجهة معينة؟

_يا سيدي الكريم الكتابة خلْقٌ وإبداعٌ وإفراغ شحنات نفسية متراكمة في الذات.. مستقاة من المحيط والمجتمع عامة..فالإكراهات السياسية التي تبعثر نفسية الكاتب وتشعِره بالتمرد والاندفاع والرغبة في التغيير لا يجد أمامه إلا قلمه يبثه لواعجه ليترجمها إلى الشارع(المتلقي) المتعطش للتنفيس هو الآخر عن مكنونه بتلك الطفرة المشتركة بينه وبين الكاتب.. فلا مناص إذاً من الكتابة بطريقة أو بأخرى لتفريغ تلك الشحنات في قالبٍ فنيٍّ جميل ينقل تلك المشاعر الثائرة إلى أيقوناتٍ أدبية تمتص جام الغضبِ بحرفية فائقة الإبداع..هذا بصفة عامة أما ما يتعلق بالاقتناعات الشخصية سياسيا أو مذهبيا أو أي شيء..فإذا ضمَّنها الأديب كتاباته ستفقد نكهتها الأدبية وتسقط في “نمطيةٍ” تُرْكِنُها بالتدريج في زاوية معينة..

5- تتنوع الساحة الشعرية في المغرب الى ما بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر والشعر العمودي إضافة إلى الزجل، فإلى أي مدى يمكن لهذا التنوع أن يخدم الكلمة الشعرية ؟

الشعر في بلادنا ثري جدا بهذا التنويع الجميل..القصيدة الأم: قصيدة الشعر العمودي أو التفعيلي..والقصيدة الوليدة في الشعر العربي: ق.”النثر”..التي جاءت لتكسِّر كما سبق الذِّكْر، ذلك التقنين الصارم التي تحدده “العَروض”..لتتدثر بيان اللغة وتحلق بعيدا خلف الكلمات.. قد عشتُ تجربة قراءات نصوص شعرية في مسابقة للزجل، فكانت التجربة جميلة جدا حيث اضطرني ذلك إلى التوغل في عمق هذا الفن المشاكس بحيث استفز اهتمامي كمتلقية كنت أستسهله، بدايةًً، لكونه باللسان الدارج..لكن حين اقتربتُ منه، أدركتُ متانته وقوة حبكه باختيار الكلمات القريبة من الفصحى وملازمة الشاعرية الجميلة ذات الإيقاع المموسق..وهذا يوازي الشعر النبطي في المشرق..والذي يكتسح الساحات الأدبية بقوة هناك..تكاد تغيب معه قصيدة الفصحى(في الشعر العمودي أو شعر التفعيلة)..أما في بلاد المغرب فالشعر يحتفظ بمدرستيْه الكلاسيكية والحداثية..لكلٍّ بوابته التي يطل منها وتظل روح الشعر القاسم المشترَك بين المدرستين.. قد أجزم أنه بعد هذه الثورة التي أحدثتها المدرسة التجريبية في الشعر.. استرجعت القصيدة العمودية حضورها بقوة تحديا لهذا الغريم الذي يكتسح الواجهة الأدبية في السرد والشعر..

6- الشدرة بنفحتها الفلسفية وتناسقها هل يمكن أن نعتبرها تطورا للكلمة الشعرية؟

_ إلى حدٍّ ما، فالنص الشذري، حسب تعريف الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي ليس هو النص الذي يتجرأ إلى وحداتٍ منغلقةٍ،وإنما هو النص المنفتح الذي يقطن التعدد كلَّ وحدة من وحداته.إنه نص لا نهائيٌّ، ورمزيته لا حدود لها، إنه نسيجٌ من الإحالات اللامتناهية ومن الأصداء المتوالدة…انتهى كلام الباحث… إذن بعد هذا التعريف الفلسفي، فالشذرة التقاطة انفعالية بتصوير شاعري..تتميز بالتكنيز الشديد..والترميز الواسع بأسلوبٍ بلاغي..وقد تتعدد صورها في النص الواحد بشكلٍ متصدِّعٍ..
فما لم يصرحْ به النص..
نجدْه في “القراءة”:
يقول الفيلسوف الألماني نيتشه:
“إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب…..”

وقد دعت الإكراهات الراهنة في عصر “أسرع واختزل” إلى ضرورة اعتماد كل ما هو مكثف، مقتضب،شديد التركيز مع ترميز وإيحاء دون إفراط في الوصف ولا تفريط في المعنى.. لخلق خلخلة لدى المتلقي، يعني بعيدا عن الترهل في الكم والكيف..واختزال المبنى للوصول إلى المعنى المضمر.. بمحسنات جميلة ترغّب في المقروء ولا تنفّر منه.. داعية إلى التأمل والتنقيب عن سيميائية النص .. وقد تتعدد القراءات والرؤى مع تحكم في الفكرة الرئيسية بعد الإمساك بها.. مما يثري النص ويكسبه تفرعات اخرى كقيمة مضافة، بعيدا عن التقريرية المباشرة والصارمة..
ورب لمحة أو قطعة من كلمات قليلة أدلقت المداد.. أغنت فأثرت وأسبغت فأشبعت..

7- ما الذي تضيفه الأسماء العربية إلى الملتقيات الأدبية الوطنية؟

_الأدب يوحدنا..هذا شعارٌ أتخذه منهجا سليما يكسر الفوارق والحواجز والمسافات.. فالأسماء العربية تحمل ثقافاتٍ مختلفة قد تتباين مع ثقافتنا في بعض النقاط..وقد تلتقي في معظمها..فالاطلاع عليها يُضفي الكثير لكِليْنا.. فالمحافل الأدبية تلهج بهذا التلاؤم الجميل بين الثقافات العربية..وخير دليل هذه المهرجانات الدولية العربية التي تفخر بأسماء من المغرب والمشرق تسعى إلى تذويب تلك الحواجز الوهمية التي تفصل بيننا.. وتؤثث لوحدة أدبية واسعة النطاق تخدم المدارك برقي حضاراتنا العريقة..

8- الدراسات النقدية كانت ولا زالت الرفيق الأمثل والموجه لأي إبداع فإلى أي مدى ينجح الناقد المغربي في تقييم التجربة الشعرية وما مدى تأثيره فيها؟

_ تعدد الميزات بتعدد القراءات..
فالإبداع مسؤولية الكاتب والقارئ معا..
والإشباع يتم بمساهمة المتلقي في التأثيث والبناء الدلالي للمقروء..النقد هو الدعامة الأساسية لنجاح أي عمل أدبي كان.. فالناقد الممنهج السليم الذي يمتلك أدواته بحنكة وتمكنٍ لغوي بلاغي محيط بمكونات النقد البناء الذي يساعد الكاتب على التقويم ومده بجسور الترابط بينه وبين المتلقي، هو الناقد المؤهَّل لقراءة نص أدبي..لإخراجه بالشكل الذي يخدمه وليس بالذي يهدمه..كما نرى من بعض المتطفلين على النقد..من أسماء ظهرت من فراغٍ..لا شأن لها إلا التحطيم والحكم على النصوص حسب الأهواء و”المزاج”..مما يحبط الكتّاب ويضرب بجهودهم عرض الجدران..أو يرفعون أخرى لا تستحق الذكرَ..لتحل مكانة يخجل القارئ من متابعة قراءتها لما يشوبها من خلل..

 

سعدية بلكارح

سعدية بلكارح: شاعرة ورِوائية مغربية، أستاذة اللغة العربية، صدرت لها مجموعة من الأعمال الأدبية؛ رواية "الجرعة الأخيرة" 2018، ديوان "حبات مطر" 2015. مجاميع قصصية "جنان القناديل"، "سرابيل من الضي" 2012. كما ساهمت في الإصدارات المشتركة التالية: "حصاد غاليري" 2014، "شعر الهايكو" 2015، "أنطولوجيا غاليري القصة القصيرة جدا" 2014، ديوان "على ضفاف الصالون" 2018. ولها تحت الطبع رواية "رقصة الأناكوندا". حصلَت على عدد من الجوائز أهمها "الدرع الذهبي للقصة القصيرة جدا" 2012؛ ممنوح من طرف النادي الأدبي في الرياض، إضافة إلى عدة شواهد تقديرية محلية وعربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى