فكرة “المنتخب الوطني”
أدى تطور الرأسمالية في القرن التاسع عشر إلى ولادة “المجتمع المأجور”، حيث كانت مكوناته تجتمع على أساس “انتماءات وطنية” ذات روابط مباشرة وقريبة طبقيا و ايديولوجيا، وذلك من خلال تأسيس النقابات و الأحزاب و فروعها على صعيد الوطن الواحد.
بعد ذلك أدى ارتفاع مستوى المعيشة إلى الانتشار التدريجي “للمجتمع الترفيهي”، مما وفر إمكانات جديدة لانتماءات الهوية للأشخاص العاديين، و في هذا السياق بدأت تظهر تكوينات أخرى تجمع أفرادًا توحدهم روابط غير مباشرة و بعيدة، و يمكن تعريف هذه الانتماءات ب “المجتمعات المتخيلة”، و من هنا نفهم كيف أن كرة القدم، في بدايتها، عززت هذا النوع من المجتمعات المتخيلة المحلية، و ظلت كذلك خلال القرن التاسع عشر، أي مجرد نشاط محلي تحركه أندية صغيرة ذات روابط مباشرة بين اللاعبين و المتفرجين، يعرفون بعضهم البعض بشكل شخصي، إذ كانوا يأتون من نفس الأحياء.
هذا الأمر سهل نقل الذاكرة الجماعية من جيل إلى جيل، و أدى بالتالي إلى تعبئة “الشعور بالانتماء” القوي إلى الفريق المحلي، و مع مرور الزمن أصبحت المنافسات بين هذه الأندية المحلية في الأحياء تأخذ “طابعا أسطوريا” محليا ضداً على أية انتماءات أخرى “ما بعد محلية”.( حصل ذلك طبعا قبل ملحمة التدويل واسع النطاق لهذه الرياضة اليوم، و الذي عزز الانتماءات ال “فوق وطنية”، كما هو الشأن اليوم بالنسبة للأندية الاحترافية العالمية الكبرى).
سيطرة هذا “البعد المحلي” الواضح لكرة القدم هو الذي كان وراء تأخر الاهتمام الجدي بفكرة “المنتخب الوطني”، وهو الأمر الذي سيحصل عندما بدأ جمهور أندية كرة القدم يتغير بالتدريج ويصبح أقل تجانسًا، و أقل جذورًا في المحليات، و يمكن استحضار هنا تجربة الأندية الفرنسية ذات الجمهور المختلط والمتعدد مقارنة مع نظيرتها الإنجليزية التي حافظت، خلال بدياتها الأولى، على انسجام جمهورها (= “فريق تشيلسي” للأحياء البرجوازية و” فريق توتنهام” لأحياء الطبقة العاملة).
يفسر هذا الافتقار إلى الجذور المحلية السهولة التي استطاع بها قادة كرة القدم الفرنسية تطوير استراتيجية “تدويل كرة القدم”، إذ لا عجب إن كان الفرنسيون في صدارة تأسيس الهياكل الدولية التي تحكم كرة القدم العالمية اليوم، لقد كان اهتمامهم عالميًا لا محليًا، و لا يجب في هذا الصدد إغفال أن “الفيفا” ولدت على يد المدرب والحكم و الصحفي الرياضي الفرنسي “روبرت غيران” سنة 1904، وكأس العالم بواسطة المحامي الفرنسي أيضا “جول ريميه” في عام 1930.
خلال مسار عملية “تدويل كرة القدم” بدأ ينمو تدريجيا “خيال” يربط النجاح الرياضي بالنموذج السياسي والاجتماعي “للأمة”، حيث أصبح يُنظر إلى أي “فريق وطني” باعتباره رمزا للتكامل بين كل مكونات الأمة الواحدة، و مع موجة التسييس المستمر و المفرط للكرة تبلورت شحنة رمزية جديدة “للأمة” مرتبطة بمنتخب وطني مُجسّد من خلال “11 لاعبًا في الملعب”، بعدها تنبهت الحكومات إلى ضرورة استثمار هذه الرياضة لتعزيز ال “نحن” الوطنية، و تعبئة الشعور بالانتماء للأمة، وبالتالي تم العثور في “المنتخب الوطني” وليس “النادي المحلي” على عناصر نموذجية مميزة “للأمة”.
هنا تظهر، من جديد، كرة القدم بوصفها قدرةً هائلةً على الحشد و إثبات الانتماءات و محو الفوارق المحلية، ليظهر “الانتماء الوطني” ملموسا من خلال فكرة “منتخب وطني” معبر عن شخصية جماعية حية لمجتمع متخيل. فاللعبة هنا بدت وكأنها اللحظة التي يدرك فيها المجتمع نفسه، لكنه إدراك متخيل قائم على شرط النجاح الرياضي!