منبرُنا

إبراهيم عبد المجيد: النص الذي أكتبه هو وطني الحقيقي؛ بينما الحياة حولي هي المنفى

 

يبدو لفظًا مثل “السايكلوب” غريبًا على الأدب العربي، لكن الروائي إبراهيم عبد المجيد، الذي اختاره عنوانًا لأحدث أعماله، يرى أن العنوان الغامض يثُير القارئ، شرط أن يكون مرتبطًا بمفهوم النص.

في روايته الجديدة الصادرة عن دار “مسكيلياني” للنشر بتونس، يستعيد صاحب لا أحد ينام في الإسكندرية، شخصيات من روايته السابقة، وكأنه يعيد الصلة ما بين القارئ ونصوصه، أو أنه يخلق بينهما صلة جديدة.
عن “السايكلوب” وأعماله الأدبية، كان لـ”بوابة الأهرام”، مع إبراهيم عبد المجيد، هذا الحوار:

  • • ماذا يعني “السايكلوب”، ولماذا اخترته عنوانًا للرواية؟

– أنا مغرم بالأساطير اليونانية وبطلة الرواية مغرمة بروايات الرعب ومن قراء أحمد خالد توفيق، السايكلوب، هو الكائن الخرافي ذو العين الواحدة الذي يأكل البشر، الذي خدعه يوليسيس وفقأ عينه الوحيدة وهرب من الجزيرة إلي السفينة مع بحارته، هي علي قدر فهمها، تمتلك صفحةً علي الفيسبوك عليها صورة السايكلوب وتتمني أن يكون لديها لتتخلص ممن لا تحب، والراوي الضمني سعيد صابر يقول لها ضاحكاً لسنا في حاجة إليه فهو موجود، كيف حقا هو موجود؟ لا يشرح، والأمر متروك للنقاد، هناك من رأي إنها عجائبية إبراهيم عبد المجيد السارية معه في كل رواياته منذ رواية المسافات عام 1981، وهناك من رأى أن “السايكلوب” هم الذين أربكونا ولايرون الأمور بعينين اثنتين ومن ثم يأتي الصراع غير الموضوعي، وهناك من رأى غير ذلك ممن كتبوا عن الرواية وأنا سعيد باختلاف الآراء، لكني بصراحة أحببت السايكلوب الذي لا يأتي رغم أن يوليسيس استطاع خداعه وفقأ عينه، لقد صنع له يوليسيس النبيذ فانبسط وشكره وسأله عن اسمه فقال “لا أحد” حتى إذا سكر السايكلوب وفقد وعيه فقأ يوليسيس عينه وهرب ومعه بحارته، وحين خرج وراءهم السايكلوب يصرخ وتجمع حوله زملاؤه من السايكلوب الذين يملأون الجزيرة وسألوه من فعل بك ذلك قال “لا أحد”، وكانت هذه فرصة يوليسيس وبحارته أن يهربوا، لكل سايكلوب من يخدعه مهما كانت قوته، ربما والله أعلم،أنا أحب الأساطير ولا شيء غيرها في رواياتي دائماً، ولا أبحث عن معني بل يسعدني تعدد المعاني والتفاسير، هذا هو الأدب.

  • • ولكنك تعمد بشكل ما في بعض رواياتك لاختيار عناوين غامضة؟

– مسألة العنوان عندي ترتبط بما أراه مناسبا للرواية وموضوعها وشكلها، تأتي المرحلة الثانية وهي إشارة سريعة علي الغلاف الخلفي للرواية بإيجاز بمقتطف منها، كما أنه جرت العادة قبل أن تُعرض الرواية في المكتبات أن أنشر منها فصولاً في الصحف وأختار عادة الفصول الأقرب إلي المعنى، الآن يمكن أن تضيفي الميديا وكل ذلك يقرب العنوان من القارئ، علي الإجمال قد يكون المعني الغامض مثيرًا لبعض القراء لكن يظل الأهم هو ارتباط المعني بجوهر النص، والنص عادة يحمل أكثر من معني فما الذي يمنع العنوان أن يكون كذلك؟

• في روايتك تطُلق سراح إحدى شخصياتك الورقية التى كتبها فى السبعينيات لتعيش مرة أخرى فى الواقع اليوم، فلماذا استعنت بشخصية سبق لك الكتابة عنها منذ أكثر من ثلاثة عقود؟

أعيش مع شخصياتي وعوالمهم إلي الدرجة التي تجعل النص الذي أكتبه هو وطني الحقيقي، بينما الحياة حولي هى المنفي، ومن ثم كثيراً ما أبحث عنهم في الطرقات ناسيا أنهم شخصيات وهمية، لا يخرجني من هذا الإحساس إلا الدخول في رواية جديدة، وطن جديد أنتهي منه فأبحث عن سكانه الضائعين، الأحباء الذين ملئوا حياتي بالشجن والفرح، لقد وصل الأمر يوما إلي درجة كادت تصبح مرضاً نفسياً فتعاطيت مهدئات بسبب إحدى الشخصيات – مختار كحيل في رواية في كل أسبوع يوم جمعة – الذي أسكنته في الرواية في شارع قريب من مقهي التكعيبة التي كنت كثيرا ما أمر أو أجلس بها في وسط البلد، كنت أقف أمام البيت الذي أسكنته فيه وأكاد أدخل اسأل عنه لأجلس معه، كانت أياما صعبة لن يصدقها أحد، بالمهدئات ابتعدت عنه وبعدم المرور من هذا المكان لأكثر من سنة وبانشغالي برواية جديدة.

الآن حين أمر علي المكان أضحك مما جرى، شغلتني هذه المسألة، ولمعرفتي أن الكتابة تقوم بإزاحة الآلام عن النفس كتبت عن هذا الموضوع كثيرا وتحدثت عنه في حواراتي لكنه يتجدد بعد كل رواية، في كتابي “ماوراء الكتابة – تجربتي في الإبداع – حديث طويل عن ذلك، الأهم لمعرفتي أن الكتابة تساهم في إزاحة الألم عن الروح كتبت في ذلك لكن كان لابد من كتابة قصة قصيرة للتعايش مع الأمر، كتبت عام 2011 ثلاثين حكاية بعنوان “حكايات ساعة الإفطار”، كانت تنُشر يوماً بيوم في رمضان وقتها في صحيفة اليوم السابع، عند الحكاية الثلاثين ثقلت علىّ الشخصيات التي كتبت عنها فجعلت الحكاية الثلاثين عن عودة الكاتب إلي شقته وما إن يفتح الباب حتي يجد التسعة والعشرين شخصية جالسين في انتظاره، دهشة وارتباك طبعاً ثم تقبل الأمر وطلب منهم في النهاية أن يأخذوه معهم إلي حيث هم في الجنة أو في الوهم، لم تكن هذه هي القصة القصيرة الوحيدة.

كتبت بعدها قصة أخري عن كاتب اشتاق لشخصياته النسائية فحملنه جميعاً إلي جزيرة معزولة وعشن معه، هذه قصة نشرتها بعد 2011 في مجلة نصف الدنيا، موضوع له تاريخ نفسي عندي، في الرواية الأخيرة “السايكلوب”، كما رأيتي يشتاق الكاتب سامح عبد الخالق إلي سعيد صابر أحد شخصياته فيجده أمامه، بعد الدهشة والفزع يقتنع بوجوده ويحكي له كيف كتب قصتين قصيرتين من قبل بتاريخ نشرهما وأنه آن أوان كتابة رواية عن ذلك، وليس كل من في الرواية من الوهم بل البطلة “سعدية “من الواقع الحقيقي وغيرها والأهم هو أنه بينهما شخصية زين عباد الشمس الذي ظهر لسعيد صابر الذي قرر أن يكتب هو الرواية لا المؤلف سامح عبد الخالق الذي استدعاه، لأنه في الأصل كان مخرجا وكاتبا للمسرح التجريبي في الرواية السابقة، فكتابة رواية لايشكل له صعوبة كما أن سامح عبد الخالق مكتئب لايريد الكتابة، أقول إن شخصية زين عباد الشمس كما لاحظتِ لم تكن شخصية روائية سابقة ولا هو شخصية حية في الواقع مثل سعدية وغيرها، لكنه شخص كان كاتب الرواية الأصلي سامح عبد الخالق يشعر بالتقصير في حقه لأنه علي مستوي الواقع كان صديقه في المدرسة الإعدادية، ورآه حين صار مجرما في الستينيات وعرف بموته مقتولا في السبعينيات، كان زين يلح عليه أن يظهر في رواياته كثيرا ولا يستجيب له، هنا استجاب وأحضره من الموت الحقيقي لسعيد صابر الذي عرف من الاثنين زين وسامح حكايته فأدخله في الرواية، لقد جاء الوقت والزمن المناسب بعد أن أهمله الكاتب الروائي الأصلي سامح عبد الخالق الذي كاد يكتب عنه يوما ثم تراجع بعد عدة صفحات فصار كما قال زين معلقا بين الحياة والموت، لاهو تركه في مقبرته ولا هو أعاده إلي الحياة.

بالمناسبة كتبت أكثر من مقال في السنوات العشر السابقة عن هذه الحالة العجيبة ولم أكن أعرف أنه سيأتي يوم وأكتب رواية عجيبة تتسع لها، سعادتي بزين أثناء الكتابة كانت كبيرة لأنه قدم للرواية أفقا وعالما جميلاً، صارت الرواية كاعتذار له وأنا اعتبرها شكر له وأن تأخر لظهوره في حياتي يوما ما، بالمناسبة كان زميلي في المدرسة كما قلت وكما تدركين أن سامح عبد الخالق الروائي الأصلي هو أنا لكنه اللعب في تشكيل بناء الرواية، اللعب في الفن.

• هل يمكن اعتبار “السايكلوب” بمثابة استكمال لسلسلة الاعترافات الأدبية التي بدأتها مع “ما وراء الكتابة”؟

– لا، بالعكس هي تحتاج لاعترافات عنها وهذا الحوار هو أحد هذه الاعترافات التي يمكن أن أضيفها إلى الكتاب، هي رواية أدبية سببها الاعتراف السابق بما أعانيه وليست اعترافًا، ولقد أوضحت ذلك.

  • • هناك من استدعي شخصيات من التاريخ وجعلها أبطالا لروايته، فما الفارق في حالة “السايكلوب”؟

– فكرة العودة في الزمن أو حتي إلي الماضي ليست جديدة طبعاً، لكني لم أستدع شخصية حقيقية معروفة في التاريخ، عودة شخصية حقيقة من التاريخ تعني مقابلة أيديولوجية مبكرة في الرواية وأنا لا أحب ذلك.

  • • تثُير الرواية كثيرًا من القضايا النقدية مثل ولع المصريين بتحويل بعض عتاة المجرمين مثل أدهم الشرقاوى وريا وسكينة وغيرهم إلى أبطال وطنيين؟

– ببساطة البطل سعيد صابر مخرج مسرح تجريبي، ومثقف والروائي سامح عبد الخالق مثقف وروائي ومن ثم يمكن أن يكون للحوار بينهما أحيانا آفاق فكرية، المهم الصدق الفني، ويأتي بظهور زين عباد الشمس المجرم العتيد الذي أحبه الناس في المنطقة يوما ما حتى قتله البوليس بالخيانة من مساعده، خيانة مساعده بدران تذكرنا بخيانة بدران لأدهم الشرقاوي وسبب إثارة القضية بين الراوي الأصلي والراوي المتخيل، المهم أن يكون النقاش ابنا للصدق الفني وليس مُفتعلا أو مقحماً، بل وهناك قضايا أخري مثل قضية انتحار الكُتاب التي تأتي من رغبة المؤلف الأصلي أحيانا في الانتحار حين يتوقف عن الكتابة وينظر حوله إلي الحياة، الكتابة هي الوطن كما قلت والحياة، هي المنفي، ومن ثم يمكن أن يتناقشا لماذا ينتحر الأدباء، وفنيا يخفف هذا الحوار علي الروائي الأصلي كما أنه يضيف إلي القارئ مادمت أعرف أين يكون وكيف وإلي أي حد، الفن وحدوده.

  • • في الرواية انتقاد لظاهرة الالتزام الديني الشكلي، وكذلك لبعض الظواهر السياسية، فإلي أي مدى يحتمل الفن “رسائل” الكاتب؟

– ليست رسائل، لا أحب هذه الكلمة، من يريد أن يرسل رسائل عليه أن يكتب مقالاً، الرواية ترسل حالاتً ومواقفً وتترك الشعور بها للقارئ، البطل الراوي المخدوع الذي يتحكم المؤلف الأصلي فيما يرويه قادم من زمن آخر، فطبيعي أن يري مساوئ وجمال هذا الزمن معاً، إنه ينبهر بالميديا أحد علامات هذا الزمن لكنه حين يدخل عليها يجد معارك غريبة وثورات قامت وضاعت وعالم آخر فلا يجد إلا الدهشة والحيرة، لكن وهو يرى الواقع حوله أيضًا يري التغير في أشياء كثيرة فلم تكن المباني بهذه التشوهات ولم تكن أزياء النساء قادمة من الصحراء فطبيعي جدا أن يندهش، هذا له علاقة بالصدق الفني، وجوارها كثير جدًا من الدهشة كدهشته من الإرهابيين ونجاح بعض عملياتهم أمامه، لم يكن ذلك في زمنه، أو دهشته من تغير ملامح ميدان التحرير والإسكندرية حين يزورها أو الأحياء التي امتلأت بالسوريين في مدينة السادس من أكتوبر فيعرف الكثير عن الأحوال في سوريا والثورة وما جرى والأمر نفسه لما يسمعه عما جري في العراق واليمن وغيرها، طبيعي جدا له هو الذي كان في السبعينات غير راضٍ عن بداية سياسات الخراب أن يشعر بالهزيمة ويقرر الخروج من الواقع والعودة إلي الوهم فهو أفضل، أن يعود شخصية وهمية دون أن يقول إنه كاره أو محب.


جاورَه : سماح عبد السلام

 

إبراهيم عبد المجيد

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى