قال قولته الشهيرة “وأنا جندي من جنود هذه العربية، لو عرفت أني سأحمل سيفا أو سلاحا أمضى من هذا القلم، لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين”.
في الساعة الخامسة من عصر يوم الخميس السابع من أغسطس/آب 1997 ترجل الفارس الباسل، وسكت الصوت المجلجل، واستراح الجندي المحارب، وتوقف الشلال الهادر، وتهدم البنيان الشامخ، وانكسر القلم السيال انكسارة الأبد؛ بوفاة أستاذ المحققين، وشيخ العربية، العلامة الجليل أبي فهر محمود محمد شاكر، فانعقدت الألسنة، وهمعت العبرات، وحزنت المجالس والمؤانس، وكاد يسمع للمخطوطات العربية نشيجٌ حزينٌ باك على رحيل جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
وقد أفضى محمود شاكر إلى ربه؛ وهو الشاعر الماهر الذي أجاد فنه، والفارس الجسور المنافح عن أمته بالقلم، والمحقق الخاطف للتراث من يد الفناء إلى حومة البقاء، والناقد الفريد المستولي من صنعته على الأمد، والكاتب الأديب الذي حرس العربية، وذاد عن حماها، وخبر تاريخها، ودرس رجالها، ولم يصدر فيما صنع إلا عن هم واحد لا يخالطه شيءٌ، هو الهم بأمة الإسلام في ديارها المتنائية، وبلادها المتباعدة.
ولا يذهبن بك الظن ساعة إلى أننا نغلو في وصف العلامة أبي فهر، ونفرط في الرفع من قدره، ونتجاوز الحق في الإعلاء من أمره؛ فقد شهد له بأكثر مما أسلفنا في الدلالة رجالٌ لا مغمز في غزارة علمهم، ولا مطعن في علو كعبهم؛ فهذا الناقد الشهير، والمحقق الكبير إحسان عباس،
يقول “لقد تعلمت من محمود، وعرفت من علمه الغزير أضعاف ما قرأته وسمعته قبل لقائه، وكان لقائي به فاتحة عهد جديد في حياتي العلمية، والميزة الكبرى فيه أنه ذو رأي عميق، واطلاع واسع، وليس هناك من هو أقدر منه على فضح التفسيرات التي تزيف التاريخ والحقائق”.
ويقول أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية، وهو المفكر الجزائري مالك بن نبي “لو وجد الجاحظ الآن، لترك مكانه عن طيب خاطر لمحمود محمد شاكر”.
ويذهب شيخ النقاد الإسلاميين محمد مصطفى هدارة إلى أن “قدرة محمود شاكر على الوصول إلى ضوال الشعر أعلى من كل قدرة عرفناها في جيله وجيلنا، ومن تلانا”.
ويرى الكاتب المفكر الوزير جابر عصفور أن “محمود محمد شاكر هو أعظم المحققين في القرن العشرين، وأعماله هي الأكثر حجة في مجال تحقيق التراث”.
وينص ناصر الدين الأسد، في مقدمة أطروحته في الدكتوراه “مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية”، التي طبعتْ كتابا في ما بعد؛ “أمّا أخي الصديق الأستاذ محمود محمد شاكر، فإن فضله لا يقتصر على هذا البحث وحده؛ فلطالما اغترفت من علمه، وأفدت من مكتبته، وانتفعت بنصحه وتوجيهه؛ وما أكثر ما كان ينفق من وقت يناقش معي فيه بعض وجوه الرأي، ويبصرني بما لم أكن لأصل إليه لولا غزير علمه، وسديد نصحه”.
أما تلميذه العلامة محمود الطناحي، الذي خبر بياض أبي فهر وسواده، فهو يقول، بعد أن ذكر وجوها من عبقرية عقله، وبيان قلمه، وجلده على القراءة والبحث؛ “بل إني رأيت أنه ليس بينه وبين الجاحظ أحدٌ في الكتابة والبيان”.
ولا بد هنا من لمحة خاطفة، عن مجلس أبي فهر الحاشد الذي كان يدوي فيه بالشعر الجاهلي، ويلقي دروسه على جمع غفير من تلامذته وأحبابه، فنرى الأديب السياسي فتحي رضوان يقول إنه كان يلم به أحيانا، فيرى “من العالم العربي كله، ومن العالم الإسلامي على تراميه، شخصيات لا حصر لها، تتباين بعضها عن بعض في الزي والمظهر، والثقافة واللهجة، والشواغل والمطامح، ولكنها تلتقي كلها عند محمود شاكر، تسمع له، وتأخذ عنه، وتقرأ عليه، وتتأثر به”.
ولولا حزن الفقد المتجدد، لاستكثرنا من نظائر هذه الشهادات الجليلة التي تقطع السبيل أمام ظن الغلو والإفراط في تقدير أبي فهر، والإشادة بمكانته، فرحمه الله، وجزاه عما قدم لأمته ودينه الجزاء الأوفى.