العالَم بين مرارتيْن: هجاءُ الذات ورثاؤُها
هل آلت الحياة البشرية إلى هذا النوع من الإحساس بدونيّة العالم، وفقدان أية أهمية لهذه الحياة؟ هل من المعقول أن يُوصل العلم الإنسان إلى حقيقة أنه “لا شيء” في هذا السديم الكونيّ الهائل؟ ثمة معنى أكبر من الرثاء وصلت إليه الحياة. بعيدا عن هذا الإحساس العام الذي يمنح الإنسان قدرا من تقبل العالم كما هو، مع ما فيه من تشاؤم يؤول فيه العالم إلى العدم. إذ كل شيء سيؤول إلى لا شيء.
هذا هو المعنى الديني الأساسي للخلق “منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى”، سنعود ترابا كما كنا، إذن فلم يكن شكلنا الخارجي إلا عرَضا طارئا سينتهي. فكرة لا تدعو إلى الرثاء بقدر ما تدعو إلى الهجاء والتهوين.
من هذه الرؤيا ربما وجد المرء نفسه “حقيرا” لا يساوي شيئا، فـ “كل الذي فوق التراب تراب”، وإن ذهب فريق لرثاء الذات، فإن ثمة فريق آخر، وإن كان أقل عددا، قد ذهب إلى هجاء الذات، وتحجيمها وتوبيخها، انطلاقا من “رحم الله امرأً عرف قدر نفسه”، فليس للإنسان قدر غير أنه تراب عابر للحياة العارضة، وقد عزز الحديث الشريف ذلك بالقول: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء”. من هو الكافر في هذا الحديث؟ أظنه هو من كفر وعاند المضمون الذي جاء به الحديث نفسه، وظن أن الدنيا أكبر من جناح بعوضة. إننا كلنا كفار إذاً. يحمل الحديث تهوينا من الدنيا وهو درجة من درجات الهجاء.
ربما اختلط الرثاء بالهجاء، فانمحت الحدود الفاصلة بين المفهومين، فهل كان المعري راثيا أم هاجيا في قوله: “غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باكِ ولا ترنّم شادي”؟ إن القصيدة لا تخلو من هجاء وتبكيت للبشرية بشكل عام، فليس هناك من سخرية سوداء أعظم من قوله[1]:
وقبيـح بنا وإن قـــدُمَ العهــ (م) ــد هـوان الآباء والأجدادِ
رب لحد قد صار لحدا مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفيــنٍ علـــى بقايا دفـــينٍ في طـــويل الأزمــان والآبادِ
لقد التبس الهجاء بالرثاء، واختلطت مشاعر الشفقة مع مشاعر البؤس والشفقة في هذه الأبيات الصادمة في حال تأملها، وتأمل مآلاتها الواقعية.
عند البحث أكثر في مسألة هجاء الذات بعيدا عن هجاء الدنيا ورثائها وتعرية حقيقتها، وجدت أن الشاعر الذي هجا نفسه أيضا كان يرثيها، ولكن على طريقة التبكيت والحطّ من قدر الذات، وتعريته للآخرين من خلال ذاته، فالحطيأة عندما رثى نفسه كان في واقع الأمر يرثي حالته الدميمة، ويواجه نفسه بحقيقتها، وكأنه يريد أن يقول: قبل أن تهجوني وتذكّروني بشكلي ها أنا أقول لكم عني وأبلغكم بالذي قد يثير شهيتكم لهجائي. إن الحطيأة بفعله هذا كان يتبرأ من عيوبه الخَلقية كونه لا دخل له فيها، فهو
لم يخلق نفسه ليتحمل وزر شكله. لذلك ربما حملت تلك الأبيات التي تتناقلها كتب الأدب عنه أنه هجاء نفسه فيها قدرا كبيرا من رثاء الذات. لم يفهمه الرواة ولا المحيطون به، وأصبح مريضا نفسيا تحت مجاهر التحليل النفسي للأدب لأنه هجا نفسه. إنني أراه بالمقابل شجاعا شجاعة نادرة فيما فعل، وينمّ تصرفه عن ثقة بالنفس أكثر ممن يمدح ذاته أو يفتخر بها.
هل كان الحطيأة هو الوحيد الذي هجا نفسه؟ لا شك في أنه كان هناك غيره، فهذا الشاعر أبو دلامة الذي يلتقي مع الحطيأة في قباحة الشكل والمنظر يهجو نفسه كذلك، وابن حزبون وابن مكنسة، ولكل شاعر من هؤلاء ظروفه التي جعلته يهجو ذاته، ولكنه أيضا كان يرثيها من جانب آخر، ويلطم بكفه العالم الآخر ويهجوه من خلال هجاء الذات.
لقد دفعت الدمامة هؤلاء الشعراء ليهجوا أنفسهم، أو ليرثوا العالم المحيط بهم، ولكن ثمة ظروفا اجتماعية تدفع الشاعر أيضا أن يعبّر بقسوة وهجاء مرير، نتيجة ما عاشه من ظروف اجتماعية سيئة كما حدث مع الشاعر الفلسطيني الشّاب يحيى حسن الذي تعرض في طفولته إلى عنف أسري من أبيه، تحدث عنه في هذا المقطع من قصيدة له بعنوان “طفولة”[2]:
“خمسة أطفال مصطفّون وأبٌ بهراوةٍ
شتى أنواع النواح وبركة من شخيخ
نمدّ بتناوبٍ أكفّنا للأمام
محتسبين مقدما
ذلك الصوت عندما الضربات تصيب”.
إنها أجواء مرعبة عاشها الشاعر، وربما هي ما دفعته لارتكاب “42” جريمة، وهو ما زال تحت سن العشرين، فيودع في مصحة للأمراض النفسية. لقد مثلت حياته مثالا للإنسان المقموع والمهمش، فجاء شعره وتصريحاته تمردا على كل تلك الأوضاع التي عاشها، ما حدا ببعض التقارير الصحفية أن تكتب في خبر وفاته الصاعق، وهو ما زال في الرابعة والعشرين من عمره: “كان يتصدر عناوين الصحف بسبب مشكلاته مع العدالة وكلامه الجريء أكثر مما هو بفضل براعته في الكتابة”. هذه الجملة القاسية جعلتني أتذكر قول الشاعر القديم ساخرا وبمرارة من حاسديه: “إن يحسدوني على موتي فواأسفي حتى على الموت لا أخلو من الحسد”.
ينتقل هجاء الذات من الشعر إلى الرواية، ولعل رواية “المسخ” أو “التحوّل” لفرانز كافكا كافية لإعطاء فكرة عن مدى هجاء الذات، وكيف وصلت إلى هذه الحالة. لقد عانى كافكا كثيرا في حياته، معاناة اجتماعية، فلم تكن علاقته بأبيه علاقة جيدة، بل كانت سيئة للغاية، كما أنه عانى من مرض السل، فمات ولم يتجاوز عمره الأربعين سنة. ومن رسالة طويلة بعثها كافكا لأبيه أقتبس منها هذه الفقرة للدلالة على ما كان يعني كافكا من وجع، وكيف يصوّر نفسه[3]: “ومن الممكن جدا أنني حتى لو كان من شأني أن أترعرع بعيدا كل البعد عن تاثيرك، لما كان في مقدوري أن أصبح إنسانا يستجيب له قلبك، مع ذلك كنت خليقا أن أصبح على الأرجح إنسانا ضعيفا، متخوّفا، مترددا، مضطربا، لا روبرت كافكا ولا كارل هرمان، ولكن إنسانا آخر غير الإنسان الذي أنا هو فعلا، وكان خليقا من أن نتحمل بعضنا بعضا بشكل رائع، كنت خليقاً أن أكون سعيدا لو استطعت أن أتخذك صديقا، رئيسا، خالا، جدا، لا بل (وإن كان هذا بتردد أكثر) حمواً، لكنك بالذات كوالد كنت أقوى من اللازم بالنسبة لي”.
كافكا هذا بفضل ما ابتليَ به من حياة اجتماعية سيئة صار صاحب مذهب أدبي في الكتابة ينسب إليه، فوجدت الكافكاوية، تلك النزعة المليئة بالعبث والسواد. وكل هاجٍ لنفسه هو يعبر عن تلك العبثية أو ربما عبر عن تلك العبثية التي يحياها ويعاني بسببها عالم كامل، وليس فقط الذات المبتلاة. هذه العبثية نفسها التي جعلته يوصي صديقه بحرق كتبه بعد أن يموت.
ما الذي دعا كافكا ليكتب رواية المسخ؟ إنه بلا شك كان يضع نفسه في دائرة الحدث ولو من بعيد فلم يكن خاليا من التواطؤ على فكرة هجاء نفسه وهو يكتب تلك الرواية العبثية المؤلمة التي تعبر عن آلام الذات وأوجاعها، ما يعني مرة أخرى أنه يرثي حالته أو يرثي العالم الغارق في العبثية أيضا.
تعيدني رواية كافكا مرة أخرى إلى الأدب العربي، ولكن دون سوداوية العبث الكافكاوي، وهذه القصة التي يذكرها الجاحظ عن نفسه، حيث طلبت امرأة من صائغ ذهب أن ينقش لها صورة شيطان على خاتم لها، ولأنه لم يعرف صورة الشيطان أخذته لتريَه الجاحظ، وقالت للصائغ “مثل هذا”، ربما يروي الجاحظ هذه الحادثة بالكثير من الفكاهة ويغلفها بغلاف شفيف من السخرية، لكنه يتفق مع الحطيأة وأبي دلامة في أنه كان أيضا دميم الخلقة، فما سمي الجاحظ إلا لجحوظ في عينيه، كما تذكر الروايات.
فهل كان الجاحظ يسخر من نفسه أم من المجتمع؟ أم تراه بالفعل يرثي نفسه بهذه الصورة غير المباشرة ضمن مواضعات اجتماعية تقدر الجمال الخارجي ولا ترى حرجا في الاستهزاء والسخرية من عيوب الآخرين الخَلْقية قبل الخُلُقية؟ إنه يشير إلى عبثية المنطق السائد أيضا، فلم تعد المسألة أمرا شخصيا بحتاً.
إذاً ربّما حمل هجاء الذات نوعا من “التطهر” والمواجهة، وعليه فإننا عندما نصرّح بعيوبنا ونكشفها فإننا نتبرأ منها، ولم تعد مقصورة علينا، فكأننا ندعو الآخرين إلى مشاركتنا بها، لنضعهم أمام السؤال الجوهري: ماذا علينا أن نفعل حيال ذلك الأمر؟ أو لنهزّ ضمائرهم ليروا الأمر على نحو مغاير، ولعلها دعوة للتحرر من قيود الفكرة الضيقة.
كما أن هجاء الذات أيضا يمنح النفس رضاً أحياناً عن الذات، ويدعوها إلى التصالح مع النفس، وتقبل ما هي عليه، وهذا المعنى هو ما يبتغي المؤمن تحقيقه عندما يناجي ربه، فيظهر تلك العيوب وتلك الآثام، سواء أكان اعترافا كنَسياً أم اعترافا ذاتيا بين المرء وبين ربه. ماذا يفعل المعترف أكثر من أنه يذكر عيوبه، بمعنى أنه يعرضها للهجاء أو ربما يعرضها للرثاء، ما يجعله يتضرع لله لأن يعفو عنه، وكلما عرّى المؤمن نفسه في دعائه وتضرعاته واعترافاته كان ذلك أدعى ليهجو نفسه أو ليرثيها ليستحق أكثر العفو والمغفرة.
هل تبدو المسألة بهذا الشكل؟ ربما كانت أسهل وسيلة للاتزان وعدم الانزلاق في هجائية أكبر للعالم أو التمادي في إيذاء الذات والآخرين. إنها محطة للتخفف من سرعة انتشار مشاعر الإحباط الذاتية التي قد تنعكس بركانا على المجتمع.
لقد تطور مفهوم هجاء الذات وأصبح شاملا لهجاء المرء الحياة بمجملها، وهجاء الأمة التي ينتسب إليها، وأصبحت المحاكمات العامة سمة بارزة في كثير من الأعمال الأدبية والفكرية العربية، فمثلا يحمل الأدب الحزيراني نزعة تشاؤمية تحطّ من قيمة الذات الجمعية العربية القومية نتيجة هزيمة الخامس من حزيران عام 1967. لقد هزت تلك النكسة الضمير العربي بعنف وبقسوة وأدخلت كثيرين في دائرة من الوهم، فكيف لدويلة ناشئة أن تهزم أمة كاملة، لقد أعطت تلك الهزيمة شعورا بالصغار والدونية في نفوس العرب أجمعين، ربما أكثر من النكبة ذاتها، فالأمر أصبح مهزلة بكل معنى الكلمة، وتعمّق الشعور بالدونية مع استمرار الحالة وتراجعها فصار العربي يرى نفسه صغيرا حقيرا أمام الآخر المتقدم في المجالات كافة، لقد سادت حالة من الهجاء للذات العربية بكثير من الكتب والمؤلفات، وأدى إلى الانسلاخ عن الثقافة العربية ومكوناتها وتمحور الكتاب حول ذكر عيوب العرب العقلية والنفسية، وشاعت صورة هجائية محتقرة للعرب في أذهان هؤلاء الكتّاب.
إنها حالة كبرى من الهزيمة والهجاء ولكنها لم تسلم من نزعة رثاء الذات الجمعية التي ماتت أو كادت تموت. ولعل رواية عبد الرحمن منيف “حين تركنا الجسر” تقف دليلا على تلك الحالة المضطربة التي يعيشها الإنسان العربي بين الهزيمة والرثاء ومحاولة الخلاص. ولم يبتعد الكاتب أيضا عن ذلك في روايته الأخرى “مدن الملح” التي يصور فيها الحياة العربية في بعض “مدن العرب” وتحولها من حياة البداوة إلى الترف المفاجئ.
ومن المؤسف له حقيقة أن حالة هجاء الحياة آخذة في التعمّق، فهي لم تعد ذاتية، ولا قومية، وأصبحت شاملة للبشرية بأجمعها، نتيجة كثير من الظروف، فهذه الغوغائية التي تعيشها البشرية، وتحتقر فيها الأنظمة الحاكمة إنسانية الإنسان تدعو لمثل تلك النزعة الهجائية للعالم وللذات معاً، فالإنسان لم يخلق للتعذيب والاضطهاد، ولم يخلق ليأكل وينام، فهو ليس حيوانا، ولا بهلوانا راقصا، وليس رقما في دوامة تلك الخطط الجهنمية التي لا يفتأ الغول السياسي العالمي رسمها ليصبح الإنسان فقط مجرد روبوت يتحكم به “آخرون” عن بُعد. حالة أكبر من هجاء ذات وأكبر من رثائها. إنها ببساطة فقدان القيمة الذاتية في كل شيء، لأن الحياة ستصبح أكثر قذارة وعفونة مما هي عليه الآن على المستوى الذاتي وعلى المستوى الجمعي حتى تعمّ العالم أجمع.
__________________________
[1] ديوان سقط الزند، دار بيروت للطباعة والنشر ودار صادر، بيروت، 1957، ص 7.
[2] ينظر موقع عرب 48، من خلال الرابط الآتي: https://cutt.us/kyVrs
[3] فرانز كافكا، الآثار الكاملة مع تفسيراتها، ترجمة ونشر إبراهيم وطفي، ط2، 2003، الجزء الأول، ص 605.