مأزق العقل في العالم العربي
عقدت في بيروت، بدعوة من مركز دراسات الوحدة العربيّة، ندوة حول أعمال الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، شارك فيها عدد كبير من الباحثين والدارسين. أغتنم هذه المناسبة، لا لكي أتكلم عن أعمال الندوة، بل على العقل في العالم العربي، .
كما تعامل معه جيل من المفكرين العرب، فتحت أعمالهم آفاقاً جديدة، وشكلت نقلة نوعيّة في مسار الفكر العربي الحديث، وأعني بهم الذين اشتغلوا بنقد التراث والدين والثقافة، فضلاً عن نقد العقل نفسه.
ولكن هؤلاء لم ينجحوا في استثمار الإمكان الذي فتح مع نقد العقل. وكأني بهم قد أضاعوا خارطة الطريق بقدر ما لجأوا إلى تعريب العقول وأسلمتها، بما يشبه هدر الإمكان لا سبره أو بناءه.
لذا لم يتمكنوا من توسيع آفاق النقد، عبر الاشتغال على المجال الديني وفي الحقل الثقافي، بقدر ما اختلطت عندهم المشاغل المعرفيّة بالهواجس الأيديولوجية النضاليّة.
لقد تصرفوا كمصلحين أو منظرين تحت شعارات التحديث والتحرير، لا كفلاسفة أو علماء شاغلهم الأول فهم العالم.
ولذا لم يستطيعوا إنتاج أفكار خلاًقة تخرق السقف المحلي، لكي يجري تداولها على ساحة الفكر العالمي. لقد فكر الفلاسفة العرب بصورة معكوسة، بقدر ما عملوا بمقولة ماركس: ليست المهمّة أن نفهم العالم، بل ان نعمل على تغييره.
بذلك تراجعوا إلى ما قبل الفيلسوف كنط صاحب نقد العقل. وهكذا فقد خدعهم كلام ماركس الذي أسهم في تغيير العالم بأفكاره ومفاهيمه. فمن دون فهم المجريات، لا سبيل إلى تغيير واقع أو صنعه.
وهكذا نحن إزاء عطل متعدد، وجهه الأول أن الفلاسفة العرب تصرفوا ككائنات أيديولوجيّة، ولم يعملوا بخصوصيتهم كمنتجين للأفكار حول الواقع والعالم، مما جعل هواجس التغيير تتقدم عندهم على مشاغل الفهم والتشخيص.
أما الوجه الآخر فهو الوقوع في أفخاخ الهويّة الثقافيّة والخضوع لاعتباراتها القوميّة والدينيّة، كما تشهد مشاريعهم حول العقل العربي أو العقل الإسلامي أو العقل الغربي.
فيما الفيلسوف يخضع النتاج العقلي للدرس والتحليل، بصرف النظر عن لغته ومصدره وهوية صاحبه. ولا أنسى الوجه الثالث للخلل، وهو أن بعض نقّاد العقل العربي ظنّوا أن أزمة هذا العقل تأتي من عالم ثقافي آخر يقع خارجه، هو التراث الهرمسي والغنوصي والإشراقي والصوفي، أي ما سمّوه «العقل المستقيل».
ويا لها من سذاجة وفضيحة، أن نحسب أن عقلنا كان يشتغل بصورة صحيحة وفعّالة، ثم أتى من خرّبه من الخارج.
ذلك أن أزمة العقل، عموماً، تكمن في داخله، إذ هو لا ينفك عن إنتاج لا معقولاته وخرافاته وأوهامه وتعمياته.
هذا العطل شكل عائقاً أمام المفكر العربي، أعاقه عما ينبغي التفكير فيه، مما هو ممنوع أو ممتنع، أي كل ما يلغم عمل العقل من القوالب الضيقة والأنساق المغلقة والمسبقات الخادعة والتهويمات الأيديولوجيّة والتشبيهات النضالية.
وهكذا وقع المفكرون العرب، من نقاد العقل، في فخ ذواتهم الفكريّة، بقدر ما تعاملوا معها كقوقعة ثقافيّة خاوية أو خانقة، فكانت المحصلّة أن نفوا الواقع واسقطوا الوجود من الحسبان، بقدر ما عجزوا عن تجديد مفاهيم العقل والفكر والذات والحقيقة.
بذلك تراجعوا، ليس فقط إلى ما قبل كنط، بل إلى ما قبل ديكارت: لأن المسألة لم تعد هي معرفة شروط الإمكان، كما عند كنط، بل خرق الشروط لاجتراح ممكنات جديدة.
ولا هي شيطان يوسوس للعقل لكي يفسده، كما حسب ديكارت، لأن العقل لا ينفك عن صنع وساوسه. لذا فالمهمّة هي تفكيك بنية العقل ومنطق عمله، لإنتاج صيغ للعقلنة أكثر تركيباً ووسعاً وفعالية.
وفي هذا شاهد على أن فلاسفة الأمة قد استخدموا عقولهم بصورة غير فعالة، بقدر ما فكروا بطريقة مقلوبة، ولذا لم يستطيعوا التأثير في مجرى الأفكار والأحداث بصورة إيجابيّة ومثمرة، لا عربياً ولا عالمياً. من هنا فالممكن هو عكس الآية وكسر القوقعة، للتفكير في رحاب العالميّة.
فالفيلسوف هو، بالتعريف، عالمي في ما ينتج من النظريات والمعادلات في قراءته للمجريات وفي تحليله للوقائع، ولذا فالمهمة هي تجديد العدّة الفكريّة، بعيداً عن هواجس المدافعة والمناضلة.
قد يدافع الفيلسوف ويناضل، أو ينتفض ويثور، دفاعاً عن الهويّة والحريّة والكرامة، شأنه شأن سواه، ولكن ما يتوقع منه هو أن يجدد مفهوماتنا للهويّة والحريّة والكرامة، في ضوء الأزمات والتحديات والتحولات.
هل أقسو على أهل قبيلتي الفلسفيّة، بما يشكل جلداً للذات كما أتهم عادة؟ أقول اتهم، لأنني أنا الذي أتهم المفكرين والمنظرين وسائر حملة المشاريع المتعلقة بالنهوض والإصلاح والتحديث والتغيير، بالفشل والإخفاق، لأن العالم تغير بخلاف، بل بعكس تصوراتهم وبرامجهم وخططهم.
ولنتأمل المجريات الراهنة للثورات العربية. فالذي فجرها هو فاعل جديد لم يأت من النخب الثقافيّة ونماذجها الفاشلة، ولا من نماذج حركات التحرر الآفلة، ولا هو من مثالات النموذج الأصولي والجهادي.
لقد أتى من عصر العولمة وثوراتها التقنيّة والرقميّة، التي كان يخشى منها أكثر المثقفين والدعاة، على عقائدهم وهوياتهم. وليس عجباً أن تفعل القنوات الفضائيّة، خاصة قناة «الجزيرة»، في عدّة شهور، ما عجزت عن فعله النخب الثقافيّة والفكريّة طوال عقود مديدة.
مرّة أخرى، آن لنا أن نكسر السياج العقائدي الذي حبسنا فيه عقولنا، لكي نخرق الحدود ونتعاطى مع شأننا الفكري، على المستوى الكوكبي، بحيث يكون العالم هو المدى الأرحب والأوسع لما نفكر فيه، ونتناوله من القضايا والمشكلات.
هذا البعد العالمي، بل الكوني، هو ما تؤكده الثورات العربيّة التي أتت من عصر المعلومة والصورة والمشكلة.
والتي رفعت قيماً عالميّة متعلقة بالحرّية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان. ولا شك أنها سوف تترك، بدورها، آثارها ومفاعيلها على العالم، على الصعد الفكريّة والسياسيّة والاستراتيجية.
ولهذا، فهي تفتح حقبة فكريّة جديدة تطوى معها حقبات سابقة بشعاراتها، كالنهضة والإصلاح والعقلانيّة والعلمانيّة، إذ هي عناوين تحتاج إلى إعادة البناء من جديد، تماماً كمفهوم الثورة الذي يتجدد ويتغير عما كان عليه، مع الثورات الجديدة والراهنة.
على أن التغيير لا يطال الأفكار وحدها، وإنما يطال أيضاً مؤسسات تداولها ومصانع إنتاجها، الأمر الذي يغير مفهومنا لطبيعة الندوات الفكرية وكيفية تشكّلها وممارستها.
فنحن عندما ننظم ندوة نتحدث فيها عن النهضة، في العالم العربي، سواء سمّيناها أولى أو ثانية أو ثالثة، لم يعد بوسعنا أن نجتمع ونتداول.
كما كنّا نفعل أيام محمد عبده أو طه حسين أو ساطع الحصري أو محمد عابد الجابري، وسواهم من المنظّرين وأصحاب المشاريع النهضوية والخطط الثقافية.
ما هو متاح اليوم، هو أن ندعو أناساً من الناشطين والفاعلين الجدد الذين أسهموا في انبجاس التحولات العاصفة، التي عجزت عن تحقيقها النخب السياسية والثقافية، ربما منذ عصر النهضة الأولى.
فمن نجح هو أولى ممن فشل في مناقشة قضية التغيير، تحت شعارات النهوض والإصلاح والتحديث والعقلانية والديمقراطية.
المصدر : صحيفة البيان