الأخلاق بين أفلاطون والفارابي
لأفلاطون منزلة مهمة في عالم الأخلاق Arthritics نظرًا لما تركه من تأسيس مهم يتعلق بالتفصيل في فضائل أهل المدينة من الزاويتين الفردية والجمعية، فحدد أخلاق الأفراد وبين صفاتهم وأشار إلى طبيعة وظائفهم، واضعًا معايير محددة لكل صنف من صنوف القاطنين في المدينة الفاضلة أو السعيدة. ولم يكن تطرقه إلى قضية الأخلاق منعزلاً عن السياسة والدين وعلاقتهما بالحياة المدنية.
وكأن المدينة لا تكون إلا باجتماع هذا الثالوث معًا، أعني الأخلاق والسياسة والدين، فضلاً عن أن المرء نفسه متوزع ككيان مستقل بين هذه المناحي الثلاثة سلبًا أو إيجابًا، بمعنى أن كيانه لا يكتمل إلا بتمازج أخلاقه بالسياسة وبالدين، ولا فرق في ذلك بين حضارة قديمة وأخرى حديثة أو حقبة متقدمة وأخرى متأخرة.
بيد أن بعض الفلاسفة المعاصرين يذهبون إلى عكس ما تقدم، ومنهم بول ريكور الذي أكد التقاطع بين الأخلاق والسياسة، وأن العلاقة بينهما قد تؤدي إلى نوع من التحويل الديني نحو السياسي الذي نتيجته الدين العلماني الذي هو بلا شك خطر يصعب تجنبه1، ولذلك حذَّر من الوقوع في هذه الهوة داعيًا إلى “أن نكون منتبهين إلى التقاطع بين الاخلاق والسياسة ومنتبهين أيضًا إلى اختلافهما المحتم”2.
ومعلوم أن لأفلاطون كتبًا تتخذ صيغة حوارية كمحاورات أيون ومينون وفيدروس وبعضها تتخذ صيغة درامية تتعلق بموضوعات نقدية. بيد أن كتابه (الجمهورية)3 ينماز بخصوصية فلسفية تجعله يحتل منزلة الصدارة بين كل كتب أفلاطون. وتكمن أهمية هذا الكتاب في ما حوته صفحاته من موضوعات مهمة ذات مساس مباشر بالوجود وما بعده.
ويتضمن كتاب الجمهورية عشرة كتب فرعية هي على التوالي: العدالة/المدينة السعيدة/دستور المدينة/الفضائل الأربعة/المسألةالجنسية/الفلاسفة/المثل/الحكومات الدنيا/المستبد/التقليد وجزاء الفضيلة.
ولقد أثرت الفلسفة اليونانية في المسلمين منذ القرنين الثالث والرابع الهجريين وما بعدهما وممن تأثروا بها الفارابي الذي كان ذا فلسفة عقلانية حتى لُقب بالمعلم الثاني بسبب تأثره بفكر أرسطو، غير أن تأثير أفلاطون فيه كان كبيرًا بدليل أنه ناظره في الكتابة عن المدينة السعيدة أو الفاضلة، متطرقًا إلى آراء أهلها ومقتربًا من أفلاطون حينًا ومختلفًا معه حينًا آخر.
ولا يخفى أن للفارابي (260هـ ـــ 339 هـ) مؤلفات كثيرة تتوزع بين مختلف ميادين المعرفة الإنسانية وهذا ما جعل فلسفته تتخذ صيغًا جمالية وعلمية وتخييلية تنماز بالتضاد والتوسع أو الموسوعية، فنظم الشعر ومارس النقد وامتهن الطب والموسيقى وبرع في الرياضيات والفلك والهندسة.
وقديمًا ما كان العالم يعد فيلسوفًا إلا إذا برع بشكل موسوعي في مختلف الحقول المعرفية واستطاع أن يجمع المتضادات فالحكمة مع الخيال والفيزيقيا مع الميتافيزيقيا والمجردات مع المحسوسات عبر توجهات فلسفية ذات تعددية تستند إلى قواعد التأمل الفكري والنظر العقلاني.
واذ وضع الفارابي رسالة بعنوان (آراء آهل المدينة الفاضلة ومضاداتها) على غرار كتاب المدينة السعيدة لأفلاطون؛ فإن الغريب إنه لم يقتصر على الفضائل وحدها وإنما تعداها إلى القول في مضاداتها. فما السبب الذي جعل الفارابي يقابل الفضائل والمحاسن بمضاداتها من الرذائل والموبقات؟ أهي النظرة الواقعية التي خالف بها النظرة المثالية لأفلاطون؟ أم هو تأثير العقيدة الإسلامية الذي جعل الفارابي يرى الأمور في كلياتها جنبًا إلى جنب الغوص في جزئياتها؟
قد لا نغالي إذا قلنا إن الفارابي أراد أن يتعالى على النظرة الفلسفية المثالية كي يرى المدينة من وجهة نظر واقعية، حتى بدت له على حقيقتها وليست مجرد يوتوبيا وهمية لا توجد إلا في الأحلام. ولهذا لم يكن الحديث عن الصدق بمعزل عن الكذب ولا وجود للخيال إلا بمعية الواقع ولا كلام عن محكومين بلا حكام أو مخلوقين بلا خالق أو اشرار بلا أخيار أو إيمان بلا إلحاد وهكذا.
وتقع رسالة الفارابي (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها) في سبعة وثلاثين بابًا، تناول فيها قضايا ثنائية متضادة مثل جدلية الإيمان والشرك والضد والحد والعظمة والمراتب والأسماء والمادة والصور والهيولى والحركات والطبيعة والنفس الإنسانية والإرادة والقوة الناطقة والولي والرئاسة والصناعات..وغيرها. وسنتناول فيما سيأتي موقف أفلاطون والفارابي من الأخلاق متلمسين نقاط التلاقي والاختلاف بينهما.
- أولاً: الجمع بين الأخلاق والإيمان
أكد أفلاطون المسألة الميتافيزيقية وهو يتحدث عن الأخلاق، وأن ما يجعل الإنسان فاضلاً هو إيمانه بخالق قادر له صفات مثلى أهمها العدالة والصلاح “إن الله صالح ويجب وصفه بالصلاح والحق الذي فيه”4، وبالإيمان الذي يتحلى به الفرد تنتفى عن الإله صفة الشر فلا تنسب له الأفعال الشريرة وتكون علة الشرور في غيره،
لكن أفلاطون توجس كثيرًا من الشعراء لأنه وجدهم لا يتمتعون بخصلة الإيمان ولهذا حذر منهم قائلاً: “لا نسمح لشاعر أن يقول أن الله سبب العقاب الذي يؤدي إلى شقاء عبده”5 والإله صالح لكن للناس شرورهم التي تفوق خيراتهم. ولأن أشرارهم تعساء لزم أن يتألموا “أن الله تعالى صانع الخير ليس إلا.
إما الادعاء أن الإله الصالح كله شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوة”6 والكذب موجود في الشعر لكنه منفي عن الإله كونه كلي النقاوة “فالله تعالى كلي النقاوة والحق في القول والفعل فلا يغير ذاته ولا يخدع الآخرين لا بالرؤى أو بالكلام ولا بالظواهر الخادعة في يقظة ولا منام”7 .
وإذا انتقلنا إلى الفارابي وجدنا أنه وبسبب تأثره بالقرآن الكريم والفكر الإسلامي يربط الأخلاق بالإيمان أيضًا وهو كثير البحث عن الأسباب وتتبع الصفات والمسميات وغايته الظفر بالجواهر والأصول بإزاء الذات الإلهية وما تتصف به عن غيرها من الموجودات بالعظمة والجلال والمجد، واجدًا في الإدراك تحقيق لكل ما أجمل وأبهى وأزين.
ولأن جميع الموجودات تصدر عنه تعالى لذلك هو الأول في الوجود. وبحسب الفارابي فإن جمال الموجودات على مراتب، وهي كثيرة وتتفاضل فيما بينها بالكمال والنقصان وهي مهددة بالتناقض والانقراض والانتظام والانفلات حيث الأول يفضي إلى الآخر في شكل حركة دورانية “وعند كرة القمر ينتهي وجود الأجسام السماوية وهي التي بطبيعتها تتحرك دورًا”8.
وتتجه أقواله الأخلاقية صوب إثبات الفردانية لله تعالى وأنه لا شريك له وتعليله المنطقي لذلك أنه تعالى “مباين بجوهره لما سواه، ولا يمكن أن يكون الوجود الذي له لشيء آخر سواه”9.
وكان أفلاطون قد ذهب إلى أن سمة الخير ثابتة في الإله لذلك هو لا يتغير “أن أفضل الأشياء في الوجود أقلها قبولاً للتغير بتأثير خارجي”10، وأن من المستحيل أن يرضى الله أن يغير نفسه” لو كان تغيره تعالى ممكنًا فلا يمكن أن يكون ذلك التغير إلا إلى مثل أدنى لأننا لا نقدر أن نقول بوجه من الوجوه أن فيه تعالى شيئًا من النقص جمالاً وسموًا”11.
أما الفارابي فكان مؤمنًا بأن لا وجود لآخر يماثل الذات الإلهية أو يشترك معها في بعض الصفات؛ ولهذا فإن الجمال سيغدو لها وحدها والتمام لن يكون إلا لها “والتام في الجمال هو الذي لا يوجد من نوع جماله خارجا منه”12.
ويترتب على ما تقدم النفي للضد عنه تعالى لأن الضد مباينة للشيء “فلا يمكن أن يكون ضد الشيء هو الشيء أصلاً.”13، والله تعالى هي عين ذاته “وأنه تعالى عالم وحكيم وأنه حق وحي وحياة فإن وجوده الذي ينحاز عما سواه من الموجودات لا يمكن أن يكون غير إنه في ذاته موجود.”14،
وهو تعالى ليس مادة، لهذا هو مكتف بجوهره. وعادة ما يوظف الفارابي أسلوب الاحتجاج والتدليل متخذًا منه فرضية يسعى إلى إثبات منطوقها والتدليل على صحة العلل التي تقوم عليها.
- ثانيًا: الأخلاق وفلسفة الأضداد وأن لكل شيء ما يضاده
انبرى الفلاسفة والمفكرون يقولون في الخير والشر متعاملين مع ضديات ثنائية يقوم عليها نظام الكون، وفي المدينة السعيدة يتحدث أفلاطون عن أستاذه سقراط في شكل محاورة فلسفية بين سقراط وغلوكون. وتساءل عن خمس فضائل تحدث في إثنائها عن أضدادها وهي: 1) العدالة ومضادها التعدي. 2) الأمانة ومضادتها الخيانة. 3) التعاون ومضاده الاستقلال. 4) العمل ومضاده العجز. 5) الصدق ومضاده الكذب.
ولقد أولى أفلاطون العدالة اهتمامًا كبيرًا والعدالة عدالتان عدالة في الفرد وعدالة في الدولة والثانية أظهر من الأولى ، ومن سماتها15:
1) أن العدالة تنشأ في الدولة بصورة جماعية/ وهذا ما جر أفلاطون للحديث عن الإخوان” أن المرء لا يستغني عن اخوانه هذا هو منشأ الهيئة الاجتماعية والدولة “16، وهذا ما سيؤدي إلى بناء مجتمع انفتاحي يؤمن بالتعددية ويسعى إلى “القبول بالاختلاف أي القبول المتبادل بالآخر ضمن غيرتيه يمكن كذلك أن يصبح علامة تدل على هوية مشتركة”17.
ويحدد هؤلاء الأخوان بأربعة أو خمسة رجال. وهنا يتصور أفلاطون مدينة خيالية أول حاجاتها القوت قوام حياة المخلوقات الحية والثاني المسكن والثالث الكسوة وهكذا بدا بالزارع والبناء والحائك فتكون المدن من أربعة أو خمسة رجال “وإذا نشأت الأمة على هذا النسق حصلت على حاجاتها”18.
وإلى جانب الحاجات هناك كماليات يمثلها رجال من قبيل الطهاة والحلوانيين والحلاقين والممثلين والراقصين والشعراء والأطباء19، وما عده لهذه المهن كمالية وليست أساسية إلا انطلاقًا من إمكانية الاستغناء عنها والاقتصار على المهن الأربعة السابقة.
2) العدالة هي السعادة التي أساسها الاقتناع/أراد أفلاطون للمدينة السعادة جنبًا إلى جنب العدالة فاضاف لها الصيادين والشعراء والصاغة ولكي يتحقق ذلك للدولة فستحتاج إذن إلى الاقتناع الذي به يتحقق الخشوع والرضا بالناس والإلهة والحكام.
والحياة المسالة رهن بالاقتناع بالعدالة الذي به يغفر كثيرًا من الخطيئات. والسعادة هي السرور اللذة بينما الحكمة والصحة والبصر هي منفعة نحتاجها وهناك أشياء مزعجة لكننا نحتاجها كالطبابة والرياضة والجيش الذي يحتاج إلى جنود بمزايا جسدية وآلات تقتضي الشدة مع الوداعة والحماسة.
وهذه الضدية يضرب مثلاً عليها بالكلب إذا تربى تربية حسنة يكون في غاية الوداعة والرقة والإنسان إذا أبدى الوداعة لذويه ومعارفه كان أميل للفلسفة والمعرفة والحاكم الكفوء هو الذي تتعدد مواهبه فيكون “فلسفي النزعة عظيم الحماسة سريع التنفيذ شديد المراس”20.
3) العدالة ضد التعدي/ يدافع أفلاطون عن العدالة ويراها أسمى من التعدي “أن الأخ عضد قريب فأنت عضد أخيك تقيه شر الاندحار وسنده المتين فتصونه من غوائل العثار”21.
والتعدي مرفوض لان عاقبته رديئة وفيه الشر والنفاق والظلم “هذا منبت الشرائع والمعاهدات بين الإنسان وأخيه”22 والعدالة عسيرة المرتقى باتجاه العفاف والفضيلة بينما الانغماس في التعدي والفجور لذة سهلة المنال من قبل الفجار والظالمين الذين يعيشون العار والفضيحة.
4) العدالة حلقة وسط بين الأفضل والأردأ/هذا هو أصل العدالة التي بها يتمتع الناس بالحرية التامة في العمل. ومن الأفضل للشخص الذي يتصف بالعدالة لا فقط “ان يكون عادلاً بل أن يعرف إنه عادل”23 وعليه أن يتبوأ المناصب لاشتهاره بالعدالة وينمي ثروته ويبتعد عن الخداع ويكيد أعداءه ويتوشح بالفضيلة والتقى ويقدم القرابين ويربح رضا السماء.
وبالعدالة يربح المرء الاشتهار والفوز “فقالوا أن التقي حافظ العهود يترك وراءه أحفادًا وذراري خالدة هذه بعض الخيرات التي ينالها المرء جراء اتصافه بالعدالة”24 .
وننتقل إلى الأمانة فنجد أنها عند أفلاطون أقل نفعًا من الخيانة وسماتها:
1) أنها تأتي من الفضيلة التي لا يتحلى بها إلا الأبرار و”أن الإلهة تبلوا كثيرين من الأبرار بالكوارث والمحن وتسبغ على الأشرار سوابغ النعم”25.
2) الأمانة لا يعرفها الفجار والظالمون الذين يغبطون الأغنياء ويزدرون الفقراء ويحتقرونهم وهم يعلمون أنهم أفضل من أولئك. ولأن الشعراء يروجون تسهيل الارتكاب لذلك يضعهم أفلاطون مع الفجار. ويرى أن من يكون فاضلاً ولا يشتهر بره وصلاحه في الملا فذلك خسران واضطراب كالذي يستتر برداء الفضيلة لكنه يجر وراءه ذيلاً ثعلبيًا من المكر والدهاء26.
3) الأمانة ضد خداع الآخرين/الخداع لا يجلب السعادة ومن الخداع البلاغة كوسائل اقناعية يحقق بها المنافقون أغراضهم الخداعية دون عقوبة ويتساءل هل إن تقديم القرابين سيجعل الآلهة تقبل التذرع وتحيد عن الغوائل؟
وينتقل أفلاطون إلى التعاون كسمة خلقية مهمة وضدها الفردية وأن الأفراد يتحاجون مساعدة صحب ومساعدين كمجموع ومستقر يسميه مدينة أو دولة و(التعاون) أفضل من الاستقلال وحصر القوى في قوة واحدة (العمل) الذي هو خلق لا يتحلى به من يمتلك قوة يمكنه أن يتعدى بها على الآخرين فإنه سيكون حينها كأولئك المنافقين يمدحون العدالة ويذمون التعدي لنيل الشهرة والمجد والنعم.
وكان هربورت ماركوز قد قال: “إن المجتمع الذي يعجز عن حماية الفرد الخاص حتى داخل جدرانه الأربعة لا يستطيع أن يزعم إنه يحترم الفرد وإنه في الوقت نفسه مجتمع حر”27.
ويجد أفلاطون في الموسيقى تهذيبًا للنفس والعقل وأما القصص فنوعان وهمي لا يقصد به الاختلاق وحقيقي الذي هو واقعي. والوهمي يقدم للأطفال الأساطير التي ليست فيها شناعة والأساطير الرديئة لا يجوز أن تتلى في مدينتنا28، كما لا ينبغي تعليم الأطفال “إن الآلهة تشهر حربًا بعضها على بعض وتكيد وتتقاتل فلا يناسب أن تقال هذه الترهات .. لأنها غير صحيحة”29.
ونهى أفلاطون الناس عن الكذب “الكذب ممقوت من الآلهة ومن الناس”30 وأوجب على الحكام أن يفرضوا على الشعراء أساطيرهم فلا يتجاوزوا الحدود في الكذب، وأن على المعلمين إلا يستعملوا الكذب في تهذيب الأطفال والأحداث إذا كنا نروم أن يكونوا أتقياء روحيين خائفين من الآلهة31.
إما نظرة الفارابي للأخلاق وأضدادها فانها تختلف عن نظرة أفلاطون في جوانب تتعلق بالتفصيلات الجزئية وطبيعة التعاطي الفلسفي العقلاني معها وكالاتي:
1) انشغل الفارابي بربط الأخلاق بمسألة الثنائيات كالروح والجسد والعقل والقلب والذكر والأنثى والأجسام في أرضيها وسماويها جنبًا إلى جنب ربط الأخلاق بمسالة الضديات كالإيمان/الشرك الطبيعة/ ماوراء الطبيعة.
2) أن عقلانية الفارابي جعلته لا يفصل بين الطبيعة والإنسان فما يكتنف طبائعه من أمور يكتنف الطبيعة أيضًا. ودلل على الكيفية التي بها تعمل عناصر الطبيعة الأربعة النار والماء والتراب والهواء وعناصر الإنسان، وسمّى القلب بالرئيس لكونه يُخلق أولاً ولأنه السبب الذي بموجبه يتم تكوين سائر أعضاء البدن ثانيًا32.
ولهذا صار القلب هو الرئيس للمدينة الفاضلة ولا رئاسة له في المدينة الجاهلة والفاسقة والضالة. وجعل الروح لا الجسد هي مملكته أو مدينته الفاضلة التي أرادها جنة أرضية يتساوى فيها البشر وتنعم الموجودات بحريتها وتذعن طائعة لموجود أول وأكبر.
3) أن الاخلاق عنده رهن بالقول في أجزاء النفس الإنسانية وميكانيزم قواها الذاتية، فأما القوة الأولى في الإنسان فهي القوة التي يتغذى منها ويسميها الفارابي (القوة الغاذية) ثم تأتي (القوة الحاسة) التي يحس بها الإنسان الحرارة والبرودة والطعوم والروائح والألوان ويشتاق ويكره ثم تأتي (القوة الناطقة) التي يميّز عبرها بين الجميل والقبيح.
4) أن للموجودات مراتب وهي كثيرة وكذلك هي الاخلاق لها مراتب قد تصل إلى مرتبة الكمال وقد تظل متسمة بالنقصان والموجودات تتفاضل فيما بينها بالكمال والنقصان وهي مهددة بالتناقض والانقراض والانتظام والانفلات حيث الأول يفضي إلى الآخر في شكل حركة دورانية.
5) أن طباع الإنسان مثل الموجودات متغيرة ومتحركة حيث كل شيء ناقص في طبعه بحسب عناصر الطبيعة الأربعة، وأن الشيء عبارة عن مادة وصورة ويتطلب القول في المقاسمة بين المراتب والأجسام ترتيبها تنازليًا أو تصاعديًا ولا يقتصر كلام الفارابي على الأشياء والموجودات والأجسام الأرضية، وإنما يتجاوزها إلى الموجودات السماوية التي جعلها في تسع مراتب يشتمل عليها جسم واحد كروي في حركة دورية سريعة جدًا.
6) العقل عند الفارابي يقع في مقدمة ما يتحلى به الإنسان وأشار إلى أن العقل الواعي للذات هو الذي به نستطيع تقدير الصفات المثلى التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان كما سنعرف حقيقة الكون الابستمولوجية وأن الإنسان هو المركز والقطب وطبيعة العلاقة الخفية بين الصورة والمادة وأيهما الفاني الروح أم الجسد.
7) إذا كان الفارابي قد وجد مرجع الأخلاق العقل فإن ذلك لا يعني إنه أهمل المخيلة التي جعلها قوة في الإنسان هي ( قوة متخيلة) وإلى جانبها (قوة نزوعية) وبالقوتين تتحقق الطباع الخلقية فأما القوة المتخيلة فتشترك مع قوة الحاسة وأما القوة النزوعية فتشترك مع القوة الغاذية بالمحاكاة.
وبهذه القوى يتغير مزاج الإنسان، ومرجع ذلك التغير الدماغ الذي عليه أن يخدم القلب بأن يجعل حرارته معتدلة ويجعل بعض الأعصاب لزجة مغارزها في النخاع وبعضها الآخر بلا لزوجة. ويأتي بعد الدماغ الكبد والطحال ثم أعضاء التوليد.
8) أوضح الفارابي أن هناك فرقًا في الأخلاق ما بين المرأة والرجل انطلاقًا من اختلافهما البايولوجي. وفصّل الفارابي كثيرًا في قوتي الأنثى والذكر وهو وإن لم يعط الأولوية للأنثى لكنه أقر ضمنيًا بأن القوة الأنثوية تامة وهي أسبق في اقترانها بالقوة الذكرية التي هي ناقصة..
وهذه النظرية تنطبق على سار الكائنات، فالذي يعطي الاستعداد والقبول الصورة هي القوة الأنثوية والذي أعطاه مبدأ يتحرك به نحو الصورة هو القوة الذكرية.
مؤدى القول إن لافلاطون مفهومًا مثاليا للأخلاق بينما اتخذ حديث الفارابي عن الأخلاق منحى عقلانيًا يقوم على المجادلة والمقايسة النسبية. وهو بعكس أفلاطون لم يضع معايير محددة ونهائية للأخلاق.
ولهذا بدا أكثر واقعية ومنطقية في تحديد الطبيعة الإنسانية ومدى امتثالها للأخلاق ثبوتًا أو تغيرًا سلبًا أو إيجابًا، رابطًا ذلك بالامتثال للذات الالهية متحدثًا عن صفات الخالق وصفات المخلوق واختلافهما.
- الهوامش:
1 – ينظر: من النص إلى الفعل أبحاث التأويل، بول ريكور، ترجمة محمد برادة وحسان بورقيه، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، القاهرة، ط1، 2001، ص318ـ 320.
2 – المصدر السابق، ص321.
3 – جمهورية أفلاطون، أفلاطون، ترجمة حنا خباز، مؤسسة هنداوي، ط1، 2017.
4 – المصدر السابق، ص 74.
5 – المصدر السابق، ص 75ـ 76.
6 – المصدر السابق، ص 76.
7 – المصدر السابق، ص 80.
8 – آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، الفارابي، نسخة PDF، ص 10.
9 – المصدر السابق، ص 2.
10 – المصدر السابق، ص 77.
11 – المصدر السابق، ص 77.
12 – المصدر السابق، ص 3.
13 – المصدر نفسه.
14 – المصدر السابق، ص 4.
15 – المصدر السابق، ص 61.
16 – المصدر السابق، ص 49.
17 – اللانظام العالمي الجديد تأملات مواطن أوروبي، تزفتان تودوروف، ترجمة محمد ميلاد، دار حوار للتوزيع والنشر، ط1، 2006، ص 136.
18 – جمهورية أفلاطون، ص 50.
19 – ينظر: المصدر نفسه.
20 – المصدر السابق، ص 71.
21 – المصدر السابق، ص 55.
22 – المصدر السابق، ص 52.
23 – المصدر السابق، ص 54.
24 – المصدر السابق، ص 56.
25 – المصدر نفسه.
26 – ينظر: المصدر نفسه، ص 57 .
27 – الانسان ذو البعد الواحد، هربرت ماركوز، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988، ص255.
28 – ينظر: جمهورية أفلاطون، ص 73.
29 – المصدر نفسه.
30 – المصدر السابق، ص 79.
31 – ينظر: المصدر السابق، ص 81.
32 – ينظر: آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، ص 32.
أ.د. نادية هناوي سعدون : كلية التربية – قسم اللغة العربية – الجامعة المستنصرية – بغداد