لعلّ أحد أشهر المفكرين المغاربة بين أقرانه عنايةً بموضوع «الحداثة» تعريباً وتقريباً وتنويراً ـ حتى صار لا يكاد يُعرَف إلا بها وصارت لا تكاد تُنسب إلا إليه ـ الأستاذ المفكر محمد سبيلا.
يكفي الناظر إلى لائحة مؤلفاته أن يتنبّه إلى أن خمسة من بينها تشترك في ورود اسم «الحداثة» بعناوينها[1]، وذلك بما لم يتميز به ناظر في أمر «الحداثة» قبله.
هذا فضلاً عن تلك الأعمال الأخرى التي لا ينبغي أن نسلب عنها فضل النظر في أمر «الحداثة» بما حدث لها من غياب التنصيص عليه في العنوان.
وإذ رأى سبيلا أن الفكر المغربي اندفع بديناميته الإبداعية الخاصة إلى نقد الفكر الغربي، ومن ثم إلى النظر في شأن «الحداثة» اعتباراً واستبياناً واستشكالاً، فإنه لاحظ أن «عملية النقد والتقييم لا تتأتى إلا بعد تحقق عنصر الفهم والاستيعاب.
فمن دون فهم لمعطيات هذا الفكر ومكوّناته وعلاقته بظروف إنتاجه يظل هذا الموقف النقدي متعذراً. كما أن خلق حوار بنّاء مع هذا الفكر يقتضي العمل على استيعابه بدقة وعرض محتوياته بأمانة لا يشوبها تحامل مجانيّ أو تمجيد مُبالَغ فيه.
وذلك بتوفير شروط حوار حضاري يتخذ فيه الفكر العربي موقفاً ناضجاً وحضارياً مسؤولاً تجاه الفكر الغربي، دون إحساس بالدونية أو التعالي التعويضي»[2]. بهذا صار الاكتشاف عنده إجلاءً والفهم تفهمياً والتعريب تقريباً.
إن من يقرأ أعمال محمد سبيلا، قراءة الوهلة الواحدة، من شأنه أن يشهد أن لغزير هذا الفكر «نظيمة» تلمّه ـ فإنه كالنبع من الماء الغزير ما يفتأ يجد له مجرى ثابتاً، وليس يحار فكره هذه النظيمة، إذ يعتبر سبيلا أن ما سمّاه ذات مرة «رحلاته الفكرية».
مترجماً بذلك عن أنه «مفكر رحالة» لا «يقيم» لبادي رأي بل «يظعن» لجديده، ويفضل السفر بين الأفكار على الحضر: من الاهتمام بالماركسية إلى العناية بالتحليل النفسي ومنه إلى البنيوية والأيديولوجيا ـ كل هذه إنما هي مباحث كانت تتلمّس،
بدءاً، طريقها فتتيه ولا تعيه، وكلها كانت عبارة عن «ملامح نظرية تحديثية للمجتمعات» و«بوادر» انشغال بشأن «الفكر الفلسفي الحديث»، وإرهاصات الاهتمام بأمر «المعطيات الفكرية الحديثة»…
فهذه «الرحلات الفكرية»، التي قطعت ما بين ضفتي البحر المتوسط جيئة وذهاباً، إنما عدّها صاحبها «تدرجاً في التعرف إلى مكوّنات الفكر الفلسفي الغربي الحديث». والحق أن هذا التدرج ـ يقول سبيلا متحدثاً عن نفسه ـ «هو الذي جعلني اكتشف، في يوم من الأيام،
أن ما أحاول التعرف عليه من خلال ملاحقة وتتبع مفاصل الفكر الغربي الحديث هو جوهره الفكري المتمثل في الحداثة كروح والحداثة كرؤية والحداثة كنظام».
ثم ما يلبث أن يضيف في ما يجري مجرى هذا الكلام ولا يشط عنه: «فلعل ما يجمع تيارات الفكر الحديث ويشكل بؤرتها وصميمها هو بالضبط مفهوم الحداثة»[3].
ذاك هو الذي صار يسميه محمد سبيلا اليوم: «الموضوع الأثير لديّ الآن: موضوع الحداثة الذي صار يستجمع روح وكافة اهتماماتي الفكرية السابقة»[4].
فقد تحصّل لنا بهذا، أن هذه المعطيات الفكرية الحديثة التي اشتغل عليها محمد سبيلا ـ السوسيولوجيا، السيكولوجيا، الأنثربولوجيا ـ إنما هي، إن حقق أمرها، معطيات للفكر الحديث وموارده ومنابعه وعيونه.
فهذه البحوث التي استفاء فكره بظلها شملت؛ أولاً، النظرة إلى «المجتمع» باعتباره مجموعة آليات سيكولوجية تتصارع ودوافع ملموسة تغلي غليانها، محاولة إرجاع الأحلام والمتخيّلات والاستيهامات والهلاوس إلى هذه الدينامية النفسية ذاتها؛ وشملت، ثانياً، محاولة لفهم «التاريخ البشري» فهماً معقولاً وفهم «البنى الاجتماعية» بفهم جدلي.
ومع هذه المحاولات ـ يقول سبيلا ـ «وجدت نفسي في خضم وفي قلب الفكر الحديث، وما كان يعوزني هو ذلك المفهوم الأساسي الذي يضم هذا الشتات. لذلك، فحينما اكتشفت مفهوم الحداثة، شعرت وكأني توصلت إلى المفتاح السحري لكل هذه الأشياء، المفتاح السحري التصنيفي الذي يجمع ويؤطر كل هذه التحولات.
بمعنى أن كل التحولات الاجتماعية والفكرية في مجتمعنا وفي العالم العربي والثالثي بل وحتى في العالم الغربي، تندرج في إطار منظور استراتيجي، هو ما يمكن تسميته بالحداثة والتحديث، أي التحولات الكبرى التي بدأت تحدث في العالم منذ القرن الخامس عشر»[5].
وبهذا صار موضوع «الحداثة» هو ما «يستجمع روح وكافة اهتمامات الأستاذ الفكرية السابقة». ولئن أقر هو بأن من شأن «المرء في مجال الفكر [أن] ينتقل من فتنة إلى أخرى»، بما رسخ في الأذهان صورة «المفكر الظاعن» أو «المفكر الرحالة» (Le Penseur Nomade) وطمس معالم «المفكر المقيم» (Le Penseur Sédentaire)، وبما أوحى أن المفكرين على قسمين: مستوطن ومسافر، فإنه أضاف: «وقد وجدت ضالّتي في التفكير في الحداثة»[6].
وهكذا، لئن عبّرت اجتهادات محمد سبيلا عن «هجرة دائمة بين الأفكار والمذاهب والمدارس»، فما عبرت عن «هجرة الروح» من هذه الدراسات أو «قلقها» أو «تيهها»، وإنما لأن أسئلة «الحداثة» كما يقول مترجماً عن حال نفسه:
«كانت دائماً تثيرني وتستفزّني دون أن أجد الإطار الفكري لطرحها إلا بعد أن خطوت خطوات في درب الفلسفة، الآن أستطيع أن أقول فقط وجدت نفسي»[7].
ههنا في هذا الحوار يجدد سبيلا القول في أنظاره في الحداثة الفكرية، ويزكي نقوده للمثقفين العرب، كما نستقصي جديد أنظاره في ظل الواقع العربي الراهن، ونتتبع سبل اهتدائه إلى الفلسفة وإلى الحداثة معاً في إسرارات وإفضاءات نادرة.