فكر وفلسفةلسانيات النص - تحليل الخطاب
أخر الأخبار

الخطاب والسلطة: قراءة في كتاب “نظام الخطاب” لـ؛ ميشيل فوكو

  • مـقـدمــةٌ:

نقصد في هذا المقال أساسا أن نقدمَ قراءةً في كتابِ ميشيل فوكو ” نظامِ الخطاب L’ordre du discours “، وقد عمدنا فيه إلى تتبعِ ثنائيةِ الخطابِ والسلطةِ، وبيانِ تعالقِهما، وتلازمِهما، وكيف يؤثرُ كلُّ واحدٍ منهما في الآخر، تلازُمًا يكادُ يضفي طابَعَ الذاتيةِ الشخصية أو المؤسساتية على الخطاباتِ.


فصدرناهُ أولا بتعريفٍ موجَزٍ بميشيل فوكو فهو صاحبُ النَّظَرِ والأمرِ، ثم بمبحثٍ عنوانُه ” الخطابُ والسلطة قراءةٌ في نظام الخطاب “؛ وآثرتُ أنْ أُعْقِبَ المبحثَ السابِقَ بمبحثٍ آخر سميته ” الخطاب الإعلامي: سلطة الخطاب وخطاب السلطة ” نظرا لكونه أكثر أنواع الخطاب التي تتجلى فيها هيمنةُ السلطة وتوجيهُها، ثم ذيلنا بحثنا بأَخَرَةٍ بخاتمةٍ ركبنا فيها أهمَّ ما توصَّلنا إليه في رحلتنا مع هذا المفكر، ونبدأ أولا بـ:


  • 1- ميشيل فوكو:

وُلدَ مشيل فوكو M.Foucault سنة 1929 ببلدةٍ غربَ وسَطِ فرنسا لأسرةٍ ريفية، وكان والده جرَّاحا، يَأْمُلُ أنْ يَكبُرَ ابنُه ويشاركَه مهنته. ولقد عانى ميشيل فوكو اكتئابًا حادًّا بلغَ به إلى حَدِّ الانتحارِ، ولعلَّه بسببِ هذه التجربةِ أو ربَما رغمًا عنها أصبحَ مولَعًا بعلمِ النَّفْسِ، فتحصَّلَ في ذلك على إجازَته، وهذا إضافَةً إلى إجازتِه في الفلسفة.


انضمَّ فوكو إلى الحزبِ الاشتراكيِّ الفرنسيِّ من سنةِ 1950 إلى سنة 1953 عن طريق ” لويس ألتوسير ” ولكنَّه ما لبث أن تركه.


تحصلَّ فوكو على شهادَةِ الأستاذيةِ سنة 1950، وعمِلَ محاضِرًا بدار المعلِّمين العليا، ثُمَّ سرعان ما تقلَّد منصبا في جامعَةِ ” لِيلْ “، فحاضَر في علمِ النفسِ مابين سنتيْ 1953 و 1954، ونشر في سنة 1954 أوَّلَ كتابٍ له بعنوانِ ” المرضِ العقليّ وعلمِ النفس “، ولئنْ حاول الانصرافَ عن التدريسِ فقد عُيِّنَ سنةَ 1954 مندوبًا عن فرنسا بجامعةِ ” أوبسالا ” بالسويد.


ولكنَّه غادر هذا المنصبَ سنة 1958 إلى منصبٍ آخر بـ ” وارسو ” ثم بـ ” هامبورغ “، ولمْ يَدُمْ ذلك إلا فترةً وجيزةً عادَ على إثرِها إلى فرنسا سنة 1960، ليواصلَ أبحاثَه ويتحصَّلَ على الدكتوراه سنة 1961، بعد أنْ قدَّمَ بحثًا بعنوان ” تاريخِ الجنون الكلاسيكي ” وآخَرَ تضمَّنَ ترجمةً وتعليقًا على أنثروبولوجية كانط.


انتقل بعدها ” فوكو ” إلى جامعة ” تونس ” سنة 1966 وقد أضحى واحدًا من أبرزِ المفكرين الممثلين للموجَةِ الأحدثِ في محاولةِ تقويضِ الوجودية، شأنُه في ذلك شأنُ كلود ليفي ستراوس، وفي السنةِ نفسها نشر كتابَه ” الكلمات والأشياء “.


ولمَّا عبَّر فوكو عن بعضِ الشكوكِ حولَ الماركسية أثار غضبَ الكثيرِ من النقادِ اليساريين. فعادَ إبَّانَ ثورةِ ماي سنة 1968 إلى فرنسا، وسرعان ما انتسب إلى جامعة ” فنسين “، ثُمَّ انتُخب لاحقا ليحتلَّ كرسيَّ ” تاريخِ نظامِ الفكر ” في ” الكوليج دي فرانس “، وقد نشر كتابَه ” حفريات المعرفة ” سنة 1969، ومما ساهم في تسييسِ أعمالِ فوكو أنَّه شارك في تأسيسِ مجموعةٍ من المعلوماتِ الخاصةِ بالسجنِ من خلالِ كتابِه ” المراقبة والمعاقبة “. وقد شرَعَ لاحقا في كتابه ” تاريخ الجنسانية”.


ولم يقف فوكو عند مزاولة العملِ الفلسفي بالمعنى التقليديِّ، بلْ إنَّه قد أثبَتَ إمكانيَّةَ ذلك من خلالِ التحقيقِ الصَّحَفِيِّ ارتباطًا بالوضعِ الراهن، وهو الأمرُ الذي اتضح جليًّا في تغطيته للثورةِ الإيرانيةِ. أمَّا وفاته فقد كانت بباريسَ سنة 1984 [1].


  • من أهمَّ مؤلفاته:

– تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ( 1961 )
– ولادة العيادة ( 1963 )
– الكلمات والأشياء ( 1965 )
– حفريات المعرفة ( 1969 )
– نظام الخطاب ( 1971 )
– المراقبة والمعاقبة ( 1975 )
– تاريخ الجنسانية في ثلاثة أجزاء ( 1984 )
– إرادة المعرفة. وغيرها.


  • 2- الخطاب والسلطة في كتاب نظام الخطاب:

يُعَدُّ كتابُ ” نظامِ الخطابِ ” من أهمِّ كتب ميشيل فوكو التي تدور في فلك تحليل الخطاباتِ ونقدها على تنوعها، أو لنقلِ ” التحليلَ المعرفيَّ للخطاباتِ “، وهو في أصلِه محاضَرةٌ ألقاها ميشيل فوكو في الكوليج دي فرانس في الثاني من دجنبر سنة 1970، ونُشرتْ بعد ذلك سنةَ 1971 في كتابٍ، بيَّنَ فيه فوكو كيفَ تقيِّدُ السلطةُ مجموعةً من الخطاباتِ: منها الخطابُ العلمي، والسياسي، والديني، إلى الخطابِ الفلسفيِّ نفسه،


وليس المقصودُ بالسلطةِ هنا ما يطلَقُ حديثا بشكلٍ خاصٍّ على القيودِ التي تضعها الدولُ والمؤسساتُ الحاكمة على إنتاجِ الخطاباتِ، إذْ يتسعُ هذا المصطلحُ عنده ليشملَ كلَّ ما يُمكنُ أنْ يكونَ شُرطةً فكريةً مسلَّطَةً على الخطاباتِ.


وهذا هو موضوعُ الكتابِ العامُّ، وبه بَدَأَ، إذْ رأى ” أنَّ إنتاجَ الخطابِ في كلِّ مجتمعٍ هو في الوقتِ نفسِه إنتاجٌ مراقبٌ، ومنتقًى، ومنَظَّمٌ، ومُعادٌ توزيعُه من خلالِ عدَدٍ منَ الإجراءاتِ التي يكونُ دورُها هو الحدُّ من سُلْطَاتِه ومخاطِرِه، والتحكُّمُ في حدوثِه المحتَملِ، وإخفاءُ مادِّيَتِه الثقيلةِ والرَّهيبَةِ “[2]، وذلكَ راجِعٌ حسبَ فوكو إلى كون الخطابِ ليسَ عُنصُرًا شفَّافًا أو مُحايِدًا، فهو المنطقَةُ التي تمارَسُ فيها السلطةُ والرغبةُ [3]،


إنَّ الخطابَ حسبَ ميشيل فوكو مجالٌ واسِعٌ، إذْ ليس فقط ما يُتَرْجِمُ الصِّراعاتِ أو أنظِمَةَ السيطرة، لكنَّه هو ما نصارع من أجله، وما نصارعُ به، وهو السلطةُ التي نحاولُ الاستيلاءَ عليها[4]، فلأجلِ هذا طالتْهُ مجموعةٌ من إجراءاتِ الاستبعاد والمنع والتطويق، جعلتِ الناسَ تعرفُ جيدًا أنه ليس لها الحقُّ في أنْ تقولَ كلَّ شيْءٍ،


وأنها لا يُمكنها أنْ تتحدَّثَ عن كلِّ شيْءٍ في كلِّ ظرفٍ، و جعلتِ الناسَ تعرفُ أخيرًا ألا أحدَ يُمكنه أنْ يتحدَّثَ عن أيّْ شيْءٍ كان، هناك الموضوعُ الذي لا يجوزُ الحديثُ عنه، وهناك الطقوسُ الخاصةُ بكلِّ ظرْفٍ، وهناك حقُّ الامتيازِ أو الخصوصيةِ الممنوحُ للذاتِ المتحدثةِ[5].


وإلى جانبِ هذه الإجراءاتِ المذكورةِ قبلُ يذكرُ فوكو إجراءاتٍ أخرى، منها ما سماه بإرادَةِ الحقيقةِ، وهو الشيءُ الذي قلمَّا يُتحدث عنه، ويعرفها فوكو بأنها مجموعةٌ من الآلياتِ الهائلةِ التي تستهدفُ القيامَ بعملياتِ إبعادِ كلِّ أولئك الذين حاولوا، من نقطةٍ إلى أخرى ضمن تاريخنا، تطويقَ الحقيقة ووضعَها موضعَ سؤالِ ضدِّ الحقيقة[6]،


ومن إجراءاتِ تطويقِ الخطابِ أيضًا ما سماه بمبدإ التعليقِ، حيثُ يشير هذا المبدأ إلى علاقةِ التبعية الكائنة بين مجموعةٍ من الخطابات وبينَ خطابٍ هو الأصل، حيث تُكرِّرُ هذه الخطاباتُ الخطابَ الأصليَّ بطرقٍ متعددة، وتعيدُ إنتاجَه بكيفياتٍ مختلفة، وبهذا ينحصرُ مبدأُ التعليقِ في قولِ ما كان قد قيلَ من قبلُ، وفي تَكرارهِ من غير مللٍ[7]، وأكثرُ ما يكونُ ذلك في النصوص العلمية والأدبية والدينية والقانونية[8]،


ومن هذه الإجراءاتِ أيضا ما سمَّاه بمبدإِ المؤلفِ، حيثُ يُقَيِّدُ هذا المبدأُ الخطابَ تقييدا خفيا، ويذكر في ذلك ميشيل فوكو أنَّه في نظامِ الخطابِ العلمي في العصرِ الوسيط مثلا كان الإسنادُ إلى المؤلف مؤشرا على الحقيقية،


فقد كان يُنظر إلى أيِّ قولٍ كما لو أنَّه يستمد قيمتَه العلميةَ من صاحبِه نفسه، ولكنَّ هذه الوظيفةَ منذ القرن السابعَ عشرَ بدأتْ بالامِّحاء[9]، ويذكر فوكو أيضا مجموعةً من الإجراءات الأخرى التي تمكن من مراقبةِ الخطاباتِ، ولا يتعلقُ الأمر هذه المرةَ بالتحكمِ في السلطةِ التي تحملها الخطاباتُ، ولا بالحدِّ من صُدَفِ ظهورها،


بل يتعلقُ بتحديدِ شروطِ استخدامها، وبفرْضِ عددٍ من القواعدِ على الأفرادِ الذين يُلقونها، ومن ثمَّ عدمُ السماحِ لكلِّ الناسِّ بالدخولِ إليها، في هذه المرةِ يتعلقُ الأمرُ بالتقليلِ من عددِ الذواتِ المتكلمةِ؛ فلن يدخلَ أحدٌ نظامَ الخطابِ إذا لم يكنْ يستجيبُ لبعضِ المتطلباتِ، أو إذا لم يكن مُؤهلا للقيامِ بذلك منذ البداية.


وبدقةٍ أكبر: ليستْ كلُّ مناطِقِ الخطابِ مفتوحةً بالدرجةِ نفسها، وقابلةً للاختراقِ بنفسِ الدرجة، فبعضها محروسٌ وممنوعٌ علانيةً، في حينِ أنَّ بعضها يبدو مفتوحًا تقريبًا أمامَ كلِّ الرياحِ وموضوعًا رهْنَ إشارةِ كلِّ ذاتِ متكلمةٍ بدونِ حصرٍ مسبق[10]،


ومما يُقيد الخطابَ أيْضًا يذكرُ فوكو المذهبَ وجمعياتِ الخطاب، أمَّا المذهبُ فيطرحُ مسألةَ المنطوقاتِ انطلاقًا منَ الذواتِ المتكلمةِ، من حيثُ إنَّهُ يصلحُ دوما للاستعمالِ كعلامةٍ وكتجلٍ، وكأداةٍ لانتماءِ مسبَقٍ، انتماءٍ طَبَقيٍّ، انتماءٍ لطبقةٍ اجتماعيةٍ أو لعرقٍ، انتماءٍ لقوميةٍ أو لمصلحةٍ، انتماءٍ لثورةٍ أو لمقاومةٍ، فالمذهبُ يربِطُ الأفرادَ ببعضِ الأنماطِ المعينةِ من التعبير، ويُحرِّمُ عليهم نتيجةً لذلك كلَّ الأنماطِّ الأخرى[11].


أمَّا جمعياتُ الخطابِ فهي تختلف عن المذهبِ في كونِ خطاباتِها لا تُتداولُ إلا تداولا محصورًا بين عشيرةِ هذه الجمعياتِ[12].


ومنَ النَّظُمِ التي تسعى أيضًا إلى تقييدِ الخطاب يذكرُ فوكو النظامَ التعليميَّ، والمنظومةَ القانونيةَ، ومنظومةَ المؤسسات العلمية، وغيرَها، وهي تكاد تقيِّدُ أوابد الخطاب في كثيرٍ من الأحيانِ، مما يجعلُ الخطاباتِ تبعُد عن الموضوعية، وتتلون بصبغةٍ معينةٍ، وهذا كثيرًا ما يظهرُ في الخطابِ الإعلامي، وهذا لا يعني بطبيعة الحالِ أنَّه يظهرُ بدرجاتٍ أقلَّ في بقية الخطابات، ولكنَّه يشيرُ إلى كونِ الخطابِ الإعلاميِّ مَظِنَّةَ ظهورِ هيمنةِ السلطةِ فيه.


  • 3- الخطابُ الإعلاميُّ: خطابُ السلطة وسلطةُ الخطاب:

إنَّ الخطاباتِ كما رأينا مع ميشيل فوكو تخضعُ لنوعٍ من الرقابة لخطورتها، وهذا ما يدفعُ الجميعَ إلى محاولةِ الاستيلاء عليها، فهي أصلُ السلطة ومظنتُها، ومن هذه الخطاباتِ نجدُ الخطابَ الإعلاميَّ، وهو أكثرُ أنواعِ الخطاباتِ استغلالا، وأبعدُها عن الحيادية والموضوعية، وهذا راجعٌ بالدرجةِ الأولى إلى كونِه مُمْتَلَكًا من طرف جهاتٍ معينة، تملي عليه ما يجبُ أنْ يقالَ؛ لأنها تتخذه سلاحًا وسلطةً،


ولهذا نجد جميعَ الأحزابِ السياسيةِ مثلا تصدر مجموعةً من المجلاتِ والجرائدِ، ويتعدى الأمرُ هذا إلى استغلالِ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي أيضا، وإنشاءِ قنواتٍ تلفزيةٍ أو شبكيةٍ، وإلى إنشاءٍ مجموعةٍ من المواقعِ الإلكترونية، فالأمرُ إذنْ على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية، وهذا ما يعيه أصحابُ السلط، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ كلَّ دولةٍ لها ترسانة من الشبكاتِ التلفزية والإذاعية والكتابية، تُبرر بها اختياراتها الجائرة، وسياساتِها الفاشلة،


وقد يتعدى الأمرُ هذا إلى تصويرِ الفشلِ نجاحًا، وإلى تصوير الخسارةِ ربحًا، وإلى تصوير الجرم إصلاحا، وكلُّ ذلك يتم عبر مجموعةٍ من الاستراتيجيات الحجاجيةِ والخطابية، ولعلَّ ذلك يتضحُ أكثرَ إذا علمنا أنَّ الولاياتِ المتحدةَ الأمريكية التي تعد إحدى أقطابِ القوة في العالمِ تعتمدُ أساسا على الخطابِ الإعلاميِّ بأشكاله المتنوعة لتبريرِ جرائمِها وهجومها على بعضِ الدول، كالفيتنام، والعراق، وأفغانستان، وسوريا…، فسيطرتْ مثلا على مجموعةٍ من القنواتِ الإعلامية العربيةِ، وبخاصةٍ قنواتِ دول الخليج،


فأمسى بذلك المشاهد العربي يخضع لتأثير هذا الخطابِ بواسطةٍ، وبغيرِ واسطةٍ أيضًا، أما بالواسطة فقد بيناه، وأما بغير بواسطةٍ فالمجلاتُ الأمريكية والقنواتُ الإعلاميةُ التي تبث برامجها وموادها باللغة العربية كقناة CNN.


ونجد أيضًا دولا أخرى تستغل الخطاب الإعلاميَّ، خاصةً المرئيَّ منه؛ لأنَّه الأكثر انتشارًا، ومن هذه الدول بريطانيا، التي تبث مـوادها الإعلامية عبر قنوات سكاي نيوزSky News، وبي بي سي BBC، ونجد أيضا روسيا وقناتَها أر تي عربية RT Arabia، والصين وقناتها سي سي تي في عربيةArabiah CCTV ، وغيرها من القنواتِ التابعةِ لمجموعةٍ من الدولِ أوِ الكيانات على اختلافها.


إنَّ الوسم الذي يمكن أن نستخلصه من كلِّ هذا أنَّ الخطابَّ الإعلاميَّ خطابُ سلطةٍ لأنَّ له سلطةً على المتلقين، وهذا ما كان يشير إليه ميشيل فوكو كثيرا.


  • خاتمة:

لقد قدم لنا ميشيل فوكو في كتابه ” نظام الخطاب ” مجموعةً من الإجراءاتِ والآلياتِ والاستراتيجيات التي تُوَظَّفُ إما بوعيٍ( كإجراءِ المنع والاستبعاد ) أو بغيرِ وعيٍّ ( كإجراءِ التعليق في بعضِ الحالاتِ ) هدفها الأساسيُّ إخضاعُ الخطاباتِ لرقابةٍ صارمةٍ، تضيعُ بسببها الحقيقةُ كما ضاعتْ دوما، تلك الحقيقةُ التي كان فوكو يبحثُ عنها في إطارِ حفرياته المعرفية،


فكشف مثلا في ” تاريخِ الجنون ” كيفَ تمَّ حجزُ الحمقى والناشزين والبائسين وكلِّ الصعاليك الجدد في الرأسماليةِ الجديدةِ فيما يسمى بالمستشفى العام ليطبَّق عليهم الطبُّ العقلي، وهذه الخطوة في نظر فوكو مجردُّ طريقةٍ في تقويةِ الاحتجازِ[13]، ولكنَّها كانتْ تُعدُّ غيرَ ذلك، ولأجل هذا رأى فوكو في حوارٍ أجريَ معه أنَّ الحقيقةَ متمركزةٌ على شكلِ الخطابِ العلمي وعلى المؤسساتِ التي تنتجه،


فهي خاضعَةٌ لنوعٍ من التحريضِ الاقتصادي والسياسيِّ الدائمِ ( أيْ: الحاجةُ إلى الحقيقةِ سواءٌ من أجلِ الإنتاجِ الاقتصادي أو من أجلِ السلطةِ السياسيةِ ) فالحقيقةُ هي موضوعُ نشرٍ واستهلاكٍ، والحقيقةُ يتم إنتاجُها ونقلُها تحت المراقبةِ لا الخاصةِ، بل المُهَيْمِنَةِ لبعضِ الأجهزةِ السياسيةِ أو الاقتصاديةِ الكبرى (كالجامعة، والجيش، والكتابة، ووسائل الاتصال الجماهيري )؛


وأخيرا فهي مدارُ كلِّ النقاشِ السياسيِّ وكلِّ صراعٍ اجتماعيٍّ ( أيْ: الصراعاتِ الإيديولوجيةِ )[14] ، وعلى هذا فالخطاباتُ وإنْ كانتْ تظهرُ خارجيًا كياناتٍ بسيطةً إلا أنَّها مُركباتٌ معقدةٌ تُخفى في ثناياها حقائقُ صادِقةٌ، وتُبْدَى مِنْها أخرى كاذبةٌ.


  • هـوامـش :

[1] عمر بن بوجنيدة، ميشيل فوكو ورفض الانغلاق في العقل اكتمالا، ضمن: موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، ، تحت إشراف: د. علي عبود المحمداوي، دار الأمان – الرباط، ط:1/2013، ج:2، ص: 855/856.
[2] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط:3/2012، ص: 8.
[3] نفسه، ص: 8.
[4] نفسه، ص: 9.
[5] نفسه، ص: 8.
[6] نفسه، ص: 16.
[7] نفسه، ص: 20.
[8] نفسه، ص: 18.
[9] نفسه، ص: 21.
[10] نفسه، ص: 28.
[11] برنار هنري ليفي، نسق فوكو، ضمن كتاب: نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، م.س، ص: 59.
[12] الحقيقة والسلطة: حوار مع فوكو، ضمن كتاب: نظام الخطاب، م.س، ص: 93.
[13] نفسه، ص: 32.
[14] نفسه، ص: 30.


  • لائحةُ المصادر والمراجع:

1- برنار هنري ليفي، نسق فوكو، ضمن كتاب: نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا.
2- عمر بن بوجنيدة، ميشيل فوكو ورفض الانغلاق في العقل اكتمالا، ضمن: موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، ، تحت إشراف: د. علي عبود المحمداوي، دار الأمان – الرباط، ط:1/2013.
3- ميشيل فوكو، الحقيقة والسلطة: حوار، ضمن كتاب: نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا.
4- ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، دار التنزير للطباعة والنشر والتوزيع، ط:3/2012.

سليمان بوحرّاث

أستاذ مادة اللغة العربية في التعليم الثانوي التأهيلي. باحث في الدراسات اللسانية النصية وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير في " لسانيات النص وتحليل الخطاب " جامعة عبد المالك السعدي - تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى