فكر وفلسفة

من كانط إلى نيتشه وبعده – عن كراهية المرأة الفيلسوفة

ترجمة: دارين حوماني

هيغل، كيركغارد، ماركس ونيتشه، لا يوجد نقص في العباقرة في فلسفة القرن التاسع عشر. هذه الفلسفة، بالنسبة للكثيرين منا، التي وقعنا في حبها، تطرح أسئلة وجودية عميقة وفي الوقت نفسه تحلّل المجتمع الحديث بتصنيفات ومفاهيم حادة للغاية.

أصبح الزمن أكثر إثارة عندما تمت إضافة أسماء جديدة إلى القائمة خلال العقود الماضية. ومع الأسماء الجديدة جاءت أسئلة وأفكار وموضوعات فلسفية جديدة. طوّر الأخوان شليغل جماليات فائقة التطور قبل الطليعية الحديثة.

وقدم فريدريك فون شيلينغ مناهج رائدة للطبيعة. وأعطانا فريدريك شلايرماخر فلسفة واعدة للفردانية والتنوع الثقافي. وأظهر فريدريك جاكوبي ويوهان جورج هامان كيف يمكن للفلسفة الحديثة، مع خروجها عن التفكير الأول، أن تؤدي إلى الشك. وبدا أن فهمنا لفلسفة القرن التاسع عشر قد اكتمل أخيرًا.

لا يتطلب الأمر الكثير من الانتباه لإدراك أن جميع الأسماء المذكورة أعلاه ذكور. أفلم يكن للمرأة دور تلعبه في واحدة من أكثر اللحظات إثارة وإنتاجية في تاريخ الفلسفة؟

إن نظرة سريعة إلى المجال الثقافي الأوسع تكشف عن بعض الشخصيات المعروفة. ربما كانت كل من لو سالومي Lou Andreas-Salomé وروزا لوكسمبورغ Rosa Luxemburg هما الأكثر شهرة بينهم. في الواقع، هما مشهورتان بما يكفي لتحويل حياتهما إلى أفلام (في 2016 و1986).

في الثقافة الشعبية، يتم تصوير سالومي بأنها أنثى “قاتلة” (خارقة الجمال)، جمعت حولها العباقرة. يقال إن نيتشه وريلكه وفرويد وقعوا في حبها؛ ويقدّم عمل “لولو” لفرانك ويديكيند إشادة كبيرة بما تمثله. بعبارة أخرى، الرجال في حياتها جعلوها مثيرة للاهتمام، كما هي الحال في أحد عناوين كتبها “الإيروتيك” The Erotic (1910)  وأعمال أخرى لها رائدة في التجسيد البشري وعلم النفس.

تجسد لوكسمبورغ نموذجًا أنثويًا مختلفًا. نحن نعرف القليل عن فلسفتها السياسية بقدر ما نعرف عن معاناتها العميقة في أثناء سجنها في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى. وفاتها المأساوية معروفة: ضُربت على رأسها، ثم أصيبت بالرصاص، وسقط جسدها في قناة لاندفير في برلين بعد وقت قصير من تأسيسها مع كارل ليبكنخت “رابطة سبارتاكوس” (الحزب الشيوعي الألماني سابقًا).

امرأتان مختلفتان للغاية، ومصيران مختلفان للغاية. لكن في كلتا الحالتين، السبب الذي يجعلنا ما زلنا نعرف اسميهما اليوم هو بعض جوانب حياتهما، وليس فلسفتهما. ومع ذلك، فقد قدّمت كلاهما مساهمات فلسفية مهمة، ويجب أن تكون معروفة بشكل أفضل.

ولذا نسأل مرة أخرى: هل النساء، من بين الرجال البارزين من كانط إلى نيتشه وما بعده، لسن أكثر من مصادر وحي وضحايا؟ هل لم تقدّم النساء أي مساهمات يمكننا أن نتعامل معها بنفس الاهتمام الأكاديمي الذي نوليه لأعمال هيغل وكيركغارد ونيتشه؟

لم تقف سالومي ولوكسمبورغ على هامش النقاشات الفلسفية في عصرهما، كانتا في المركز تمامًا. فقد ناقشت سالومي الفلسفة مع نيتشه، والشعر مع ريلكه، والتحليل النفسي مع فرويد. ونشرت دراسة رائدة لبطلات هنريك إبسن الفلسفية (1892)، وكلفها الفيلسوف مارتن بوبر بكتابة “الإيروتيك”.

في هذا الكتاب تُطوّر سالومي وجهة النظر القائلة بأن التجسيد يخدم كأساس للذات وأيضًا للعلاقات بين الذات. في الواقع، إنها تحوِّل وتوسِّع فكرة الإثارة الجنسية ذاتها بحيث يظهر ارتباطها بالجنس باعتباره مجرد طرف لوجود حسي في جوهره. يقدّم عملها التحليلي النفسي تفسيرات جذرية للنرجسية الأنثوية ويستكشف فكرة الازدواجية، والقائمة تطول.

روزا لوكسمبورغ تلقي خطابًا في وقفة للاشتراكيين (1907)  وفي الصورة الثانية لوكسمبورغ أثناء اعتقالها قبيل الحرب العالمية الأولى

وبالمثل، كانت لوكسمبورغ رائدة في حصولها على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة زيوريخ عام 1898. ولقد غيّر نشاطها السياسة الاشتراكية في ألمانيا وخارجها. في كتابها “تراكم رأس المال” (1913)، تقدّم لوكسمبورغ تحليلًا مفصلًا للعلاقة بين الرأسمالية والإمبريالية – كلّ من شكلها العالمي وتراكم الجيوب غير الرأسمالية محليًا.

وتجادل بأن الرأسمالية تحتاج إلى الإمبريالية، ولكن أيضًا يجب أن يتحول المشروع الإمبريالي نفسه ليشمل مكونًا رأسماليًا. من خلال “تطوير” العالم المستعمِر تخدم الإمبريالية احتياجات الرأسمالية. كانت أفكارها، وليس حياتها الخاصة، التي دفعت المسؤولين الألمان إلى قتلها بوحشية، وبالتالي إسكاتها أيضًا إلى الأبد.

لا داعي للتركيز على حياة سالومي ولوكسمبورغ على حساب أفكارهما، في حين أن حياتيهما كانتا بالفعل غير عاديتين – ربما أكثر من الفلاسفة الذكور المذكورين أعلاه – ولا يتبع ذلك أن مساهماتهما الفلسفية كانت أقل عمقًا.

وأكثر من ذلك، فإن الأسماء المعروفة لسالومي ولوكسمبورغ ليست سوى غيض من فيض. بمجرد أن تبدأ في النظر إلى أبعد من ذلك، يتضح أن القرن التاسع عشر، قرن هيغل وكيركغارد وماركس وشوبنهاور ونيتشه، كان حقًا فترة غنية ومزدهرة بالنساء الفلاسفة.

في تلك الفترة، ساهمت النساء من الفلاسفة في كل مجالات الفلسفة تقريبًا، وقد فعلن ذلك بطرق أساسية وعميقة. ويمكن لإلقاء نظرة سريعة على النقاشات حول النشاط الإنساني – حول ما هو الإنسان – أن توضح هذه النقطة.

  • أسئلة جديدة

شارك كانط وشلايرماخر وفيشته جميعًا في النقاش حول النشاط الإنساني. لكن هذا ما فعلته العديد من النساء. والأهم من ذلك، أن أصواتهن لم تكرر ببساطة أفكار الفلاسفة الذكور.

بدلًا من ذلك، طرحت النساء أسئلة جديدة، وتحدّين الفرضيات الأساسية، ووسّعن مفهوم النشاط البشري بطرق رائدة. مثالان على ذلك هما أماليا هولست Amalia Holst وكارولين فون غوندرود Karoline von Günderrode.

على عكس معاصريها الذكور، الذين سخروا من فكرة “موهبة” المرأة وجادلوا بأن النساء لا يملكن الفطنة للإنجاز الفكري، ركزت هولست على مهنة المرأة والعلاقة بين التعليم والمهنة. في كتابها “في الدعوة إلى التنمية الفكرية العليا للنساء” (1802)، تجادل هولست، أولًا، بأنه لا ينبغي استبعاد النساء من السعي لتحقيق مواهبهن بسبب “الواجبات” الجنسية (كما سعى بعض الفلاسفة الذكور لإثبات ذلك).

وثانيًا، إن منظور المرأة للعلاقات الاجتماعية يلقي ضوءًا فريدًا على ديناميكية القوة بين الرجل والمرأة، إنه يكشف إلى أي مدى يتم تحديد مكان المرأة في المجتمع ليس بالتنوير أو العقل، ولكن من خلال علاقات القوة هذه.

في العقد الأول من القرن التاسع عشر، طرحت هولست وجهة نظر (ارتبطت لاحقًا بنقاد التنوير في القرن العشرين) بأنه لا يمكننا فصل الأسئلة الاجتماعية والسياسية عن أسئلة السلطة، أو تحديد النشاط الإنساني بشكل مستقل للجنس والتاريخ والثقافة.

تولت غوندرود مناقشة يوهان فيشته عن التنمية البشرية وجادلته في جوهرها. في أعماله، يقتفي فيشته قدرة الإنسان على الحرية. يسأل كيف يمكن أن تتحقق الحرية؟ من جانبها، لاحظت غوندرود أن الفرصة ذاتها لطرح هذا السؤال بطريقة ذات مغزى تتطلب أن تكون في وضع يمكن من خلاله أن يحاول المرء أن يدرك موهبته – وهي فرصة لا تكون عادة في متناول النساء.

السؤال الذي يطرحه فيشته يفترض وضعًا لا معنى له عمليًا بالنسبة لنصف السكان على الأقل. من وجهة نظر غوندرود، تعكس نظرة فيشته موقفًا معينًا من الامتياز الجنساني. على هذا النحو، فإنه ببساطة يفشل في الارتقاء إلى مستوى العالمية التي يعتبرها علامة الفلسفة.

في وقت لاحق، استمرت النساء في التساؤل عن هوية الوجود البشري مع الذات الذكورية. غالبًا ما كان نشاط لوكسمبورغ مقترنًا بنشاط صديقتها وزميلتها كلارا زيتكين Clara Zetkin. تدربت زيتكين في معهد نسائي أسسته النسويتان لويز أوتو بيترز Louise Otto-Peters  وأوغست شميدت Auguste Schmidt، وركزت على حالة العاملات المحرومات نسبيًا ضمن الجماعة.

وتشير إلى أن العمال ليسوا مجموعة واحدة، هناك نساء يعملن في بيئة يهيمن عليها الذكور. هناك عمال غير بيض في سوق العمل حيث يهيمن البيض (على سبيل المثال، في الولايات المتحدة). هناك عمال أُرسلوا إلى الحرب وضحوا بأرواحهم بينما يستفيد رؤساؤهم من النزاعات المسلحة. إن تحديد العمال كمجموعة واحدة ليس اختزاليًا فحسب، بل يهدّد أيضًا بتغطية تحديات التقاطع.

ريلكه وسالومي في الصورة الأولى/  كلارا زيتكين وروزا لوكسمبورغ في الصورة الثانية
ريلكه وسالومي في الصورة الأولى/  كلارا زيتكين وروزا لوكسمبورغ في الصورة الثانية
ريلكه وسالومي في الصورة الأولى/  كلارا زيتكين وروزا لوكسمبورغ في الصورة الثانية

بدأت هيدويغ دوم Hedwig Dohm، التي كانت تكتب في نفس فترة سالومي وكانت عضوًا نشطًا في دائرتها، في مواجهة الطريقة التي يتحدث بها الفلاسفة والمنظرون السياسيون عن النساء. كشفت أعمالها عن الخطاب الضحل لكراهية النساء في النسب الفلسفي من كانط وفيشته إلى نيتشه. ذكاء دوم حاد، وكشفها عن تفكير نيتشه الفقير عن النساء أكثر حدة.

وتتساءل ما الذي يحدث عندما يتحول الفلاسفة الأذكياء إلى الحديث عن النساء؟ هل يفقدون ببساطة روحهم النقدية وينغمسون في الصخب التقليدي المفرط حول دونية عقول النساء؟

كان العديد من الفلاسفة الذكور، الذين أصبحت أعمالهم أساسية الآن، صريحين في رفضهم للإمكانات الفكرية للمرأة – أي الإمكانات الفكرية لنصف البشرية. يدّعي كانط، على سبيل المثال، أن النساء يهتممن بعرض مجوهراتهن على الرجال أكثر من اهتمامهن بالتعلم.

وينفي فيشته بدوره أنه يمكن للمرأة متابعة العلم والفلسفة والحجج الكونية، ويدّعي أن كتابات النساء يجب أن تقتصر على أدب المرأة الخاص. على نفس المنوال، قرأنا لدى هيغل أن المرأة قد تكون متعلمة جيدًا، لكنها ليست مخلوقة من أجل العلم أو الفلسفة. في الواقع، كما يراها، هي هادئة مثل النباتات.

في وقت لاحق من القرن التاسع عشر، لاحظ شوبنهاور أن المرء يحتاج فقط إلى النظر إلى النساء ليدرك أنه لم يتم تكوينهن للعمل العقلي الكبير. إذا كانت النساء تعتقد أنها ذات قيمة، كما تدّعي، فمن الأفضل مقارنتها بالقرود في معابد فاراناسي (!) وفي سياق مماثل، يعارض نيتشه النساء والحقيقة، ويقارن النساء بالقطط والطيور أو، في أحسن الأحوال، بالأبقار.

فارغة، سخيفة، غير مسؤولة، أو ليست بشرية تمامًا – على الأقل ليست بشرًا مثل الرجال؛ يبدو أنه لا يوجد نقص في التعليقات المهينة عن المرأة بين فلاسفة القرن التاسع عشر. هؤلاء هم الفلاسفة الذين ما زلنا نقرأهم (ونعلّمهم) اليوم.

كان النهج المعياري للتعليقات عن المرأة، كالمذكورة أعلاه، هو أن هؤلاء الفلاسفة كانوا مجرد أطفال عصرهم، أنهم أعادوا إنتاج الأحكام المسبقة لعصرهم عن النساء بشكل سلبي وأن هذا القسم من كتاباتهم عن المرأة تم دفنه في غبار التاريخ.

ولكن كما يتضح لنا من النساء الفلاسفة مثل هولست، وغوندرود، وزيتكين، ودوم وغيرهن، لم يكن الأمر كما يدّعي هؤلاء الفلاسفة الذكور بأن النساء لن يتمكّن من الحصول على العلم والمعرفة.

كان هناك نقاش شامل حول أدوار المرأة والتعلم طوال القرن التاسع عشر، ومن المرجح أن يكون الرجال الأذكياء مثل كانط وفيشته وهيغل ونيتشه على دراية بهذه المناقشات واستجابوا لها عن عمد. (في الحد الأدنى، يمكننا أن نفترض أن كانط وفيشته وهيغل كانوا على دراية بعمل الفقيه في كونيغسبيرغ، تيودور فون هيبل، الذي جادل بأن النساء قادرات على الدراسة وأن دراستهن قد أعاقها الرجال).

من وجهة النظر هذه، الآراء التي دافع عنها هؤلاء الفلاسفة لم يتم تبنّيها بشكل سلبي، بل تم تبنّيها بشكل فعال: من بين المقاربات المتاحة لهم – بعضها تقدّمي في ذلك الوقت، والبعض الآخر لا – كانت هذه الأخيرة هي تلك التي اختاروها. وكما يجادل دوم، يجب محاسبة الفلاسفة على اختياراتهم.

ليس من السهل أن تعيش حياتك في تناقض وأنت تتجول بين المصطلحات. وكان التناقض في المصطلحات هو، في الواقع، كيف طرح فلاسفة ذكور بارزون فكرة المرأة الفيلسوفة، ومع ذلك انتصرت النساء.

 من اليمين بيتينا برينتانو فون أرنيم وكتابها "غوندرود" وإلى اليسار كارولين فون غوندرود
 من اليمين بيتينا برينتانو فون أرنيم وكتابها “غوندرود” وإلى اليسار كارولين فون غوندرود
 من اليمين بيتينا برينتانو فون أرنيم وكتابها “غوندرود” وإلى اليسار كارولين فون غوندرود
  • فرص تعليم قليلة للنساء

في بداية القرن التاسع عشر، كانت لدى النساء فرص قليلة جدًا لتلقي التعليم الرسمي. تُرك تعليمهن للعائلات التقدمية التي كانت قادرة على توظيف مدرّسين وشركاء لمحادثة لبناتهم (على سبيل المثال، الكاتبة جيرمان دي ستايل Germaine de Staël).

اعتمدت أخريات على الإخوة والآباء والجدات والصديقات (كانت الناشطة الفكرية صوفي فون لاروش Sophie von la Roche جدة الأديبة بيتينا برينتانو فون أرنيم Bettina Brentano von Arnim، والأديبة راحيل ليفين فارنهاجين Rahel Levin Varnhagen كانت صديقة الكاتبة هينريت هيرز Henriette Herz).

تركت لوكسمبورغ موطنها الأصلي بولندا وحصلت، كما ذكرنا سابقًا، على درجة الدكتوراه من جامعة زيوريخ، حيث سُمح للنساء بالتسجيل رسميًا. أمضت سالومي أيضًا فترة في جامعة زيوريخ. تم تعيين آنا توماركين Anna Tumarkin أول أستاذة فلسفة في أوروبا، في جامعة برن عام 1909.

على الرغم من أن توماركين كان لها الحق في تقديم المشورة لطلاب الدراسات العليا، إلا إنها كانت “أستاذة استثنائية” ولم تشارك بشكل كامل الامتيازات الأكاديمية مع أساتذة منتظمين.

كان الوضع في ألمانيا أكثر تخلفًا مما كان عليه في سويسرا، فقط إلى ما بعد مناشدة الفيلسوفة إديث شتاين Edith Stein، التي لم تكن قادرة على الدفاع عن تأهيلها للحصول على المنصب الأكاديمي (كانت الرسالة البحثية الثانية مطلوبة للحصول على منصب أكاديمي في ألمانيا).

قررت الوزارة البروسية في عام 1920 أن “العضوية في الجنس الأنثوي” لا ينبغي أن تكون عقبة أمام التأهيل في الجامعات الألمانية.

سوف يستغرق الأمر 30 عامًا أخرى قبل أن يتم تأهيل أول امرأة في الفلسفة في ألمانيا. ودافعت ليزلوت ريختر Liselotte Richter عن تأهيلها في جامعة برلين عام 1946، وأصبحت أستاذة للفلسفة في الفصل الشتوي من 1947 إلى 1948. وقدمت كاثرينا كانثاك Katharina Kanthack تأهيلها في الجامعة الحرة في برلين قبل ريختر، في عام 1933، لكنها لم تكن قادرة على الدفاع عنها حتى عام 1950 بسبب الحرب.

كانت التحيّزات مكدّسة ضدهن. ومع ذلك، فإن العديد من الفلاسفة النساء – حتى اللاتي تم دفعهن لاحقًا إلى النسيان – كن ناجحات بشكل غير عادي في عصرهن. هذا ينطبق على بداية القرن التاسع عشر ونهايته. في أوائل القرن، تم نشر كتاب جيرمان دي ستايل “عن ألمانيا” On Germany (1810)  بعدد لا يقل عن 10000 نسخة، على الرغم من أن نابليون أتلف الدفعة الأولى قبل أن تغادر الكتب دار النشر، وأعيد نشره في عام 1813.

وسرعان ما تُرجمت أعمالها وألهمت النسويات. كان يُنظر إلى الناقدة الأدبية مارغريت فولر Margaret Fuller أحيانًا على أنها يانكي كورين Yankee Corinne (التي كانت من الناشطين والمؤيدين لإلغاء الرق). تمت ترجمة كتاب “غوندرود” Günderode (1840)  للأديبة بيتينا برينتانو فون أرنيم إلى اللغة الإنكليزية،

بواسطة مارغريت فولر التي قامت بكتابة مقال عن الكتاب في مجلة The Dial والتي كانت تشارك في تحريرها مع رالف والدو إيمرسون Ralph Waldo Emerson. في عام 1912، فازت الفيلسوفة هيدوينغ كونارد مارتيوس Hedwig Conrad-Martius البالغة من العمر 24 عامًا بجائزة “مراجعة الأقران العلمية” في غوتينغن بألمانيا.

تم الإبلاغ عن هذا الانتصار في مكان بعيد في مجلة The San Francisco Examiner. حتى مثل هذه الانتصارات، على الرغم من تحقيقها بشق الأنفس، لم تفعل شيئًا يذكر لتغيير الأنماط المتأصلة من سوء الإدراك.

في عام 1813، شعر مراجع كتاب جيرمان دي ستايل “عن ألمانيا” بالحيرة من حقيقة أن هذه الأطروحة الميتافيزيقية كُتبت بواسطة امرأة. كان نابليون قد نفاها أولًا من باريس ثم من فرنسا لاحقًا، كما قال إنه يجب على النساء التمسك بالحياكة، لا حرج في الحياكة؛ ولكن لا حرج أيضًا في فكرة وجود امرأة فيلسوفة. ومع ذلك، بعد قرن من الزمن.

 لم تستطع التقارير الإخبارية الدولية عن جائزة هيدوينغ كونراد مارتيوس أن تساعد في ذكر السمات المميزة لـ”مربية المنزل” التي كانت من بين “العقول الأكثر ذكاءً في ألمانيا”. ما مقدار التقدم الذي تم إحرازه خلال تلك السنوات المائة؟ وما مدى التقدم الذي تم إحرازه بين جائزة كونراد مارتيوس للفلسفة وفشلنا في الالتفات إلى النساء الفلاسفة اليوم؟

من اليمين: آنا توماركين، إديث شتاين، وهيدوينغ هوم
من اليمين: آنا توماركين، إديث شتاين، وهيدوينغ هوم
من اليمين: آنا توماركين، إديث شتاين، وهيدوينغ هوم

يبدو أننا يجب أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة غير المريحة حول هذا النسيان. لماذا وكيف حدث ذلك؟ هل تم عمدًا؟ هل نحن – في ممارساتنا كفلاسفة ومؤرخين للفلسفة – مستمرون في إدامته؟ هل نحن، عمدًا أم بغير قصد، نعيد تعميم نسخ صامتة من المواقف التي وجدناها في أعمال كانط وفيشته وهيغل وشوبنهاور ونيتشه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو الثمن الذي يتعين علينا دفعه في مقابل السماح لمثل هذه المواقف بالازدهار؟

لا شك في أنه من الظلم تجاهل أعمال النساء من الفلاسفة. ومع ذلك، من خلال القيام بذلك، فإننا نحرم أنفسنا أيضًا من الوصول إلى مجموعة من المواقف والحجج، ومن الفهم الكامل للحركات والمدارس التي يُقال عمومًا إنها شكلت القرن التاسع عشر الطويل.

خذوا على سبيل المثال الحركة الظاهراتية التي ازدهرت في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. في هذه الفترة، درست كل من إديث شتاين وهيدوينغ كونراد مارتيوس وغيردا فالتر Gerda Walther  مع إدموند هوسرل. ومع ذلك فقد كنّ أكثر من طلاب هوسرل.

ذهبن في طرقهن الخاصة، وغالبًا ما كنّ ينتقدن ويتجاوزن منهجه ومنهجيته. على الرغم من حياتها القصيرة (تم ترحيل إديث شتاين إلى معسكر أوشفيتز في عام 1942)، فإن مساهمة شتاين الفلسفية واسعة النطاق؛ الأكثر شهرة هي دراستها للتعاطف.

على عكس هوسرل، تجادل شتاين بأن التقمص العاطفي هو جوهر العلاقات مع الذات، وترى أنها جزء من تجربتنا في العالم الحي، بما في ذلك النباتات والحيوانات.

مثل لو سالومي، تضع إديث شتاين الإنسان المتجسد في مركز أبحاثها. وتتحدى أطروحة فالتر (وكتابها) حول الذاتية الداخلية كلًا من شتاين وهوسرل. إنها تجمع بين حدسها الاشتراكي والتزاماتها الظاهراتية، بحجة أن التعاطف ليس الأساس ولكن يتم التمكّن منه من خلال تجربة عميقة للمجتمع.

عملت كونراد مارتيوس عند تقاطع المذهب الحيوي والفينومينولوجيا (علم الظواهر)، وكانت واحدة من علماء الظواهر القلائل الذين انخرطوا بجدية في علوم الحياة في عصرها، وطرحوا أسئلة تتعلق بالتطور والعلاقة بين العضوي وغير العضوي. مع زوجها ودائرتهما الأوسع، سعت كونراد مارتيوس إلى إنشاء بديل ظاهري لمارتن هايدغر، الذي انتقدت شتاين مواقفه أيضًا.

بورتريه لجيرمان دي ستايل وكتابها "عن ألمانيا" وإلى اليسار ليزلوت ريتشر
بورتريه لجيرمان دي ستايل وكتابها “عن ألمانيا” وإلى اليسار ليزلوت ريتشر
بورتريه لجيرمان دي ستايل وكتابها “عن ألمانيا” وإلى اليسار ليزلوت ريتشر

كانت النساء الفلاسفة مثل أزهار تنمو في الشقوق بين حجارة الأرصفة: لقد ظهرت في الغالب على الرغم من الظروف التي نشأت فيها. كانت الأرض التي سعين إلى الاستقرار فيها قاحلة؛ كانت ظروف النمو قاسية. في الواقع، تلقي العديد من النساء الفلاسفة الضوء على هذا الأمر.

ستايل، على سبيل المثال، تلاحظ كيف غالبًا ما تُسامح النساء عن النميمة والإهمال في الواجبات المنزلية، وعلى النقيض من ذلك، إذا سعت المرأة إلى الشهرة من خلال نشر عمل عظيم في الفلسفة أو الأدب، فسوف يتم إسقاطها بسرعة من قبل الرجال والنساء الذين يتعرضون للتحيز الضمني.

بعد قرن من الزمان، تخبرنا شتاين كيف واجهت الطالبات الجدد صعوبة في العثور على سكن: من سيرغب في إيواء حالة شاذة؛ إضافة إلى ممارسة الفلسفة، قد تطلب استعارة طاولة للكي أو جلب رفيق خاص معها في وقت متأخر من الليل؟

لا ترجع الميزوجينية (الكراهية) ولا الاستبعاد في تاريخ الفلسفة إلى أن الفلاسفة والمؤرخين أعماهم عصرهم؛ كان لديهم بدائل. اختار هؤلاء الفلاسفة والمؤرخون تجاهلهن. علاوة على ذلك، حدث هذا في نفس الوقت الذي بدأت فيه النساء في المطالبة بالحصول على تعليم أعلى، ووجدت الحركة النسائية الحديثة شكلها الحالي. لكن الأخطاء التاريخية لا يجب أن تتكرر.

يمكن إصلاح التقاليد والأنماط الراسخة. في الواقع، يُعدّ تحديد موضوعات قوة التقليد – والحاجة، في بعض الأحيان، لتحرير أنفسنا من المعتقدات القمعية عن طريق التحول إلى الأفكار أو الشخصيات أو التعبيرات التي تم التغاضي عنها – أحد المساهمات الرئيسية لفلسفة القرن التاسع عشر.

وهذا ينطبق على كيركيغارد وماركس ونيتشه. وهو ينطبق أيضًا على ستايل وغوندرود وسالومي ولوكسمبورغ وشتاين وفاني ليوالد Fanny Lewald والعديد من الفلاسفة الأخريات في تلك الفترة.

حقيقة أن تاريخ الفلسفة تم التغاضي فيه عن النساء الفلاسفة لا يعني أننا، اليوم، بحاجة إلى الاستمرار في مثل هذه الممارسات الخاطئة. سيكون هذا غير دقيق تاريخيًا وغير أمين فكريًا. وقد تعامينا عن الطرق المختلفة التي تم من خلالها تطوير المواقف والحجج الفلسفية – غالبًا بطرق مثيرة وجذرية – من قبل هؤلاء النساء.

وغني عن القول إن النساء لم يكنّ سوى فئة واحدة مهمشة في الفلسفة. نحن نعلم جيدًا أن مجموعات أخرى عانت من مصائر مماثلة، ويجري العمل الآن على تقديم الاعتراف بها والذي تأخر كثيرًا.

إن شريعة فلسفة القرن التاسع عشر ليست ثابتة. لا توجد شريعة. لقد توسع فهمنا للقرن التاسع عشر، ونأمل أن يستمر في التوسع، ليس فقط من أجل النساء، ولكن أيضًا من أجل الفئات الأخرى الممثلة تمثيلًا ناقصًا. إن إغلاق أبواب البانثيون لن يكون أقل من فلسفة فقيرة، وسيكون من الأسوأ اتّباع الأساتذة القدامى في عزل الفكر على طول الخطوط الجنسانية.

كريستين جيسدال: أستاذة الفلسفة في جامعة “تمبل” في فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأميركية. من كتبها “دراما التاريخ: إبسن وهيغل ونيتشه” (2020) و”النساء الفلاسفة في القرن التاسع عشر الطويل” (2021).

داليا نصار: أستاذة مشاركة في الفلسفة في جامعة سيدني في أستراليا، وباحثة رئيسية في معهد سيدني للبيئة، وعضو في مبادرة البحث “عدالة الأنواع المتعددة”. يتقاطع عملها مع تاريخ الفلسفة والعلوم والفلسفة البيئية وعلم الجمال.

من كتبها “المطلق الرومانسي: الوجود والمعرفة في الفلسفة الرومانسية الألمانية” (2014) و”الرومانسية التجريبية” (2022). شاركت مع كريستين جيسدال في تحرير مجلدين عن النساء الفلاسفة، بما في ذلك “النساء الفلاسفة في القرن التاسع عشر الطويل” (2021).

رابط المقال الأصلي

ضفة ثالثة

دارين حوماني

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى