المغرب: زحف القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر
- المقدمة
حين غزت فرنسا الجزائر عام 1830، وقع السلطان عبد الرحمن في موقف حرج، إذ ودّ لو ساعد إخوانه المسلمين لتجنب الصراع مع الفرنسيين. ولم تكن باليد حيلة، إذ كان لديه جيش مفكك قوامه قبائل لا يُعتمد عليها وبقايا جيش عبيد البخاري الذي أسسه السلطان إسماعيل.
ولذلك حاول السلطان عبد الرحمن النأي ببلده عن الصراع مع فرنسا، ولكن أهل الجزائر وجُلّ أهل المغرب طلبوا منه القتال ومقاومة الفرنسيين.
وكانت قيادة المقاومة في غرب الجزائر من نصيب عبد القادر بن محي الدين شيخ الطريقة الصوفية القادرية. وقد أسس عبد القادر دولةً صغيرة في مدينة معسكر واضطُر لاحقًا إلى الفرار عبر الحدود المغربية عام 1842، واتخذ من الأراضي المغربية قاعدة له. ولم يستطع السلطان عبد الرحمن منعه من ذلك.
فاحتلت فرنسا مدينة وجدة في أغسطس عام 1844 وقصفت طنجة انتقامًا منه. وبعدما تمكّن الجيش الفرنسي من هزيمة الجيش المغربي في وادي إسلي على الحدود الجزائرية في 14 أغسطس، اضطُر عبد الرحمن إلى الاستسلام مقابل السلام.
وقّع الطرفان معاهدة طنجة التي لم تكن مجحفة، إذ أصرّ الفرنسيون فقط على ترسيم الحدود، لكن تلك الهزيمة قوضت شرعية السلطان بين المغاربة.
- اقتصاد ينهار
بدأ السلطان عبد الرحمن بعد ذلك إجراء إصلاحات عسكرية وأسس جيشًا على النظام الأوروبي. وقد ثبت فشل مشروعه في مواجهة عبد القادر وإسبانيا عندما غزت جيوشها تطوان عامي 1859 و1860، حتى إن مقاتلي القبائل كانوا أشد مقاومة.
وكانت معاهدة واد راس قاسية تلك المرة، إذ نصّت على توسيع حدود سبتة ومليلية، والتنازل عن سانتا كروز دي لامار بيكينيا إلى إسبانيا، وفرض تعويضات مالية كبيرة.
وقد استكمل خلفاء السلطان عبد الرحمن، وهما محمد الرابع (1859-1873)، ثمّ الحسن الأول (1873-1894)، مشروع بناء الجيش وتسليحه واعتمدا على التسليح الفرنسي والبريطاني في المقام الأول. وتدرّب الجيش على يد عسكريين فرنسيين وبريطانيين، مثل القائد المخضرم السير هاري ماكلين.
واهتمّ السلطان عبد الرحمن بالتجارة الخارجية حتى يؤمّن التكاليف اللازمة لإعداد الجيش. فشيّد موانئ تجارية جديدة، وزاد صادرات الحبوب والصوف والجلود والشمع والصمغ زيادة عظيمة. وقد دعم بعض القناصلة الأمريكيين، والأوروبيين تلك الجهود الحثيثة التي أخرجت الاقتصاد عن سيطرة المغاربة.
وفي ديسمبر 1856، تفاوضت بريطانيا على توقيع معاهدة تجارية تفتح الأسواق المغربية أمامها، وتبعتها حكومات أوروبية أخرى. لكن البريطانيين هيمنوا على التجارة الخارجية حتى العقد الأخير من القرن التاسع عشر حين اشتدت المنافسة مع الشركات الألمانية والفرنسية.
أدى تزايد الواردات من السلع المصنّعة إلى إضعاف الصناعات المغربية التقليدية، ما عدا صناعة السجاد التي كانت مبيعاتها رائجة بين الطبقة الوسطى الأوروبية. أمّا واردات الشاي والسكر فقد مثّلت نحو 25% من إجمالي الواردات.
- الاقتصاد الأوروبي والتدخل السياسي في المغرب
بدأ المغرب يتغير تغيرًا جزريًا بفضل التجارة. إذ تشكّلت النخبة الحكومية من أبناء العائلات التي استفادت من تلك التجارة، وبدأ أهل المغرب يتركون المدن القديمة وينتقلون إلى المدن ذات الموانئ على الساحل الأطلسي.
وتغيّرت معالم الدار البيضاء، فتحوّلت من مجرد قرية إلى أكبر ميناء في المغرب. وزادت المعاهدات لاحقًا مع القوى الأوروبية، وقدّم فيها المغرب تنازلات كان غرضها الرئيس تشجيع التجارة بما يخدم الطرفين. ولكن هذه الخطوات مهدت لهيمنة القوى الأوروبية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
ثم آلت الأمور إلى صالحها واستفادت من زيادة أعداد التجار الأوروبيين الذين صار لهم حق المعاملة بصفتهم “مغتربين” في كل الشؤون التجارية والجنائية.
وكما حدث في بلاد أخرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، منحت تلك المعاهدات امتيازات للأوروبيين وأعفتهم من الضرائب المغربية وجعلت الولاية القضائية عليهم للقناصل الأوروبيين.
وبعد ذلك شملت هذه الامتيازات الشركاء المحليين للتجار الأوروبيين. ومع تزايد النفوذ الأوروبي في المغرب، لعبت التنازلات التجارية دورًا كبيرًا في انتهاكٍ أوروبيّ السيادة المغربية.
وقد أُلغيت كل المعاهدات التي تنص على مثل تلك الامتيازات المذكورة بعد إعلان الحمايتين الفرنسية والإسبانية، ولكن بريطانيا لم تتخل عنها حتى عام 1937.
- احتلال أوروبي للأراضي المغربية
احتج العلماء على هذه التغيرات لأنها كبدتهم خسائر مالية وقالوا إنها تخالف الدين. وقد وافقهم أهل المغرب، إذ انتشرت حركات المقاومة والمجاهدين المغاربة في بعض المدن لصد الأوروبيين، وكانت مليلية وما حولها عامي 1893 و1909 من مراكز المقاومة الرئيسة. ومن جهتهم، فرض الأوروبيون عقوبات مالية على الحكومة المغربية فزادت أعباء الديون.
وقد استمر الزحف الأوروبي حتى وصل إلى أقصى الجنوب. وأسست جماعة من التجار البريطانيين مصنعًا في طرفاية عام 1879. وفي عام 1887، أنشأ الإسبان مركزًا عسكريًا في مدينة فيلا سيسنيروس (الداخلة حاليًا) في الأراضي الجنوبية التي ستصبح لاحقًا “ريو دي أورو” أو وادي الذهب، ثم مستعمرة الصحراء الإسبانية.
اندفع الجيش الفرنسي شمالًا من جهة السودان، وكان السلطان حسن الأول قد أرسل بعثات عسكرية إلى الصحراء خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر لتحصيل الضرائب وفرض طاعة السلطان بين القبائل.
وقد قدّم السلطان حسن الأول وخليفته السلطان عبد العزيز دعمًا ماليًا من أجل تدشين المركز الديني الجديد والكبير في السمارة للشيخ محمد مصطفى ماء العينين الذي ينحدر من عائلة متدينة عريقة في موريتانيا الحالية. وقد تذرعت الحكومة المغربية بهذا الفعل في القرن الماضي كأساس لمطالباتها بالصحراء الغربية.
- إفلاس المغرب وزوال الاستقلال
تُوفي الحسن الأول عام 1894 بعد أن ضمن انتقال العرش إلى ابنه عبد العزيز الذي لم تتجاوز سنّه 12 أو 13 عامًا. ثم أصبح حاجب الملك باحماد الوصي على العرش، ولكنه حكمه ضعف أمام معارضة إخوة السلطان الصغير بالإضافة إلى تزايد التدخل الأوروبي الذي قلب موازين التجارة ضد المغرب.
وبدأ القناصل الأوروبيّون يمارسون سلطة شبه سياسية، بخاصة في طنجة، عاصمة البلاد الدبلوماسية ، التي تحولت إلى جيب أوروبي يخدم السياح والمهاجرين.
وفي عام 1900، تُوفي باحماد وتولى السلطان عبد العزيز السلطة. وفي العام نفسه احتل الجيش الفرنسي واحة توات في أقصى الجنوب الشرقي، وسيطر على أراضٍ مغربية لصالح الجزائر.
ولم يمض كثير من الوقت حتى أفلس المغرب بسبب الإصلاحات المستلهمة من أوروبا التي زُعم أنها ستجنّب المغرب مصير الإفلاس. ولقد كان تدشين البنية التحتية باهظ التكلفة، ولم يحقق نظام الضرائب بعد إصلاحه أي إيرادات تُذكر.
وحين سقطت إدارة الشؤون المالية في المغرب في أيدي الأجانب، احتلت القوات الفرنسية أراضي جديدة في الصحراء الكبري. وفي عام 1904، وقّعت بريطانيا وفرنسا وروسيا الاتفاق الودي. ونصّت الاتفاقيات على منح بريطانيا حرية التصرف في مصر على أن تكون لفرنسا حرية التصرف في المغرب.
وقد تعهدت فرنسا بحماية المصالح الإسبانية في البلاد. لكن الحكومة الألمانية طلبت عقد مؤتمر دولي للنظر في المسألة المغربية.
وفي عام 1906، وقّع وزراء خارجية أوروبا والولايات المتحدة على وثيقة مؤتمر الجزيرة الخضراء الختامية التي نصّت على حفظ سيادة المغرب وسلامة أراضيه، ولكنها أخضعت إدارة المغرب وجماركه ومصرفه المركزي وقوات الشرطة للسيطرة الأوروبية.
انتشرت معارضة السلطان عبد العزيز في كل أنحاء المغرب، وكانت معارضة العلماء إيّاه قوية. وفي يونيو 1907، هجم بعض المغاربة على مجموعة من المهندسين الفرنسيين الذين كانوا يعملون في مشروع مد سكة حديدية عبرت بإحدى مقابر الدار البيضاء. فأُرسلت قوات فرنسية على متن سفينة حربية لاحتلال المدينة. بينما أُرسلت قوات أخرى لاحتلال مدينة وجدة شرق البلاد.
وظهرت حركة تسعى إلى استبدال عبد العزيز بأخيه عبد الحفيظ الذي عُرف عنه ورعه. وفي يناير عام 1908، أعلن علماء فاس ولاءهم له شرط أن يرفض وثيقة مؤتمر الجزيرة الخضراء ويستعيد الدار البيضاء ووجدة ويطرد المستشارين الأوروبيين ويلغي الامتيازات الأجنبية والضرائب التي تخالف الشرع.
لكن عبد الحفيظ لم يتمكن من تحقيق أي مطلب من هذه المطالب. فقد كان عملاء فرنسا يسيطرون على الحكومة بينما كانت القوات الفرنسية والإسبانية تتقدم لاحتلال أراض مغربية أخرى. وبعد انتفاضات عام 1911، أرسلت فرنسا جيشًا إلى فاس.
وفي 12 مايو 1912، وافق عبد الحفيظ على معاهدة فاس التي فرضت الحماية الفرنسية على المغرب. وقد ضمنت معاهدة فاس للسلطان سلطته الدينية وسيادته العامة، ولكن الفرنسيين استأثروا بالسلطة التنفيذية، ومن هنا بدأ عهد الحماية الفرنسية.