تاريخعلم الاجتماع

أكانَ “ٱبن خلدون” عُنصريّا تُجاه قومه “العرب”؟

اِعلَمْ أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نِحْلَتهم من المَعاش.» (ابن خلدون، المقدمة، كتاب 1، فصل 2، فقرة 1).


«[…] الإنسان ٱبنُ عَوائده ومَأْلُوفه، لا ٱبن طبيعته ومِزَاجه. فالذي أَلِفَهُ من الأحوال حتّى صار خُلُقًا ومَلَكةً وعادةً، تَنَزّل منزلةَ الطبيعة والجِبِلّة.» (ابن خلدون، المقدمة، كتاب 1، فصل 2، فقرة 5).


كثيرا ما يَستند «الشُّعوبيُّون الجُدد» – في تحامُلهم على “العرب” وكُرههم لكل ما هو “عربيّ”- إلى شيء من كلام “ٱبن خلدون” الوارد، بالتّحديد، في كتابه “المُقدِّمة” (مقدمة كتاب “العِبَر”). فهل يصحّ، علميّا، أن يُعَدّ وصفُه لـ”العرب”، في هذا الكتاب، وَصْمًا لهم بما هُم قومٌ مُتميِّزون عرقيّا و/أو ثقافيّا أمْ أنّ في الأمر ٱلتباسا وتَلْبيسا لا يَستسيغه إلا ذوُو «النُّزوع العُنْصريّ» ممّن يَحْرِصون على اختلاق عدوّ مكروه لتأكيد وُجودهم وإعطاء مشروعيّة لعَمَلهم؟


يُعرَف «عبد الرحمان بن خلدون» (1332-1406م) بأنّه المُؤرِّخ والفيلسوف الذي عَمِلَ، في إطار الثقافة العربيّة-الإسلاميّة، على إعادة بناء «علم التّاريخ» بتأسيسه من النّاحيتين المعرفيّة والمنهجيّة وَفْق أُصول وقواعد «علم العُمران» وطَبائع «الاجتماع الإنسانيّ». وعملُه ذاكـ هو الذي جعله، في هذا المجال، أحد الرُّوّاد المُؤسِّسين بأكثر من معنى وإلى الحدّ الذي صار يبدو معه مُفكِّرا أقرب إلى العصر الحديث منه إلى العصر الوسيط[1].


وفي إطار تناوُل “ٱبن خلدون” لـ«العُمْران البدويّ»، أَورَد – في عناوين بعض فُصول “المقدمة”- أوصافا لمن سمّاهُم “العرب” بشكل قد يُفْهَم منه أنّه يَتحامل عليهم ويَنتقص من قَدْرهم بما هم “قوم” أو “شعب” وبالمُقارَنة مع غيرهم.


إذْ نجده قد أكّد أنّ «العرب لا يَتغلّبون إلّا على البسائط» (كتاب 1، فصل 2، فقرة 24، طبعة رُوزنطال والشدادي) وأنّ «العرب إذَا تغلّبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب» (كتاب 1، فصل 2، فقرة 25)، وأنّ «العرب لا يَحصُل لهم المُلْكـ إلّا بصبغةٍ دينيّة أو ولاية أو أثَر من الدّين على الجملة» (كتاب 1، فصل 2، فقرة 26)، وأنّ «العرب أبعد الأُمم عن سياسة المُلْكـ» (كتاب 1، فصل 2، فقرة 27)،


وأنّ «المَباني التي تَختطّها العرب يُسرع إليها الخراب، إلّا في الأقل» (كتاب 1، فصل 4، فقرة 9) وأنّ «العرب أبعد النّاس عن الصنائع» (كتاب 1، فصل 5، فقرة 20). وبهذا، فَلَوْ صحّ أنّ لفظ “العرب” في هذه الأحكام يَدُلّ حصرا على القوم المعروفين قديما وحديثا بهذا الاسم، لكان الأمر يَتعلّق بموقف يجعل هؤلاء “القوم” يَنْزلون في أدنى دَرَكات الإنسانيّة، ولَمَا صَعُب بالتالي تبيُّن أنّه موقفٌ ذُو «توجُّه عُنْصريّ» صريح (وهو ما لم يَتردّد المؤرخ “جرمان عياش” في تأكيده ولو بشيء من التّهذيب [2])!


فهل أخطأ “ٱبن خلدون” في ٱستعمال لفظ “العرب” للدّلالة على «البدو المُتوحّشين» أو «سُكّان البادية»؟ لا يُستبعَد، لأوّل وهلة، أن يكون الأمر كذلكـ. فـ”ٱبن خلدون” له أخطاؤُه في اللُّغة والمنهج والمعرفة التي أحصاها وبيَّنها الدّارسون. وقد تَجدُر الإشارة، في هذا الصدد، إلى ثلاثةِ أمثلة مختلفة: أوّلها أنّه نَسي، في أوّل جملة من ديباجته («فإنّ فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتُشدّ إليه الركائب والرحال…»)،


أن يُطابق بين الاسم الموصول (“التي”) والضمائر التي تعود على الاسم المُتعلِّق به (الفنون)، حيث لا يَستقيم القول إلّا على هذا النّحو «فإنّ فنّ التاريخ من الفنون التي تتداولـ[ـها] الأُمم والأجيال، وتُشَدُّ إليهـ[ـا] الرّكائب والرِّحال وتسمو إلى معرفتهـ[ـا] السُّوقة والأغفال، وتتنافس فيهـ[ـا] المُلوكـ والْأقيال، وتتساوى في فهمهـ[ـا] العُلماء والجُهّال.» أو بحذف لفظ “التي” ووضع فاصلة بعد “الفنون” «فإنّ فن التاريخ من الفنون (أو رُبّما الأفضل أن يُقال «فإنّ التاريخ فنٌّ»)، تتداوله الأمم والأجيال، وتُشَدّ إليه الرّكائب والرِّحال […]».


(والغريب أنّ ناشري “المُقدِّمة” ومُحقِّقيها يَمُرُّون بسلام على هذه الجُملة!) ؛ وثانيها أنّه أورد من دون تَثبُّتٍ – في “المقدمة” (كتاب 1، فصل 6، فقرة 20 «العلوم العقلية وأصنافها»)- الأثر المشهور عن أمْر “عمر ابن الخطاب” بإتلاف مكتبات بلاد “فارس” (علّق “علي عبد الواحد وافي” عليه بالقول «لم تَثْبُت هذه القصة عند ثِقات المؤرخين،


كما لم تَثْبُت قصة أخرى تُشبهها بشأن حرق مكتبة الإسكندريّة» [المقدمة، ج 3، ص. 1122، هامش 1536]، في حين قال “رُوزنطال” إنّها «شكل من الخُرافة الشائعة عن كون “عمر” أمر بتدمير مكتبة الإسكندرية المشهورة» ؛ والعجيب أنّ “الشدادي” التزم هُنا الصمت وأهمل التعّليقين كليهما![3]) ؛ وثالثها أنّه – كما لاحظ “طه عبد الرحمن”[4]- «[…] خَلَط بين وظيفتيْ “السائل” و”المُستدلّ”،


وكذلك بين قانوني “الاعتراض” و”المُعارَضة”، […]» (في قوله: «[…]، وكيف يكون حال المُستدلّ والمُجيب، وحيث يَسُوغ له أن يكون مُستدلا وكيف يكون مخصوصا مُنقطعا، ومحل اعتراضه أو مُعارضته، […]»، (المقدمة، فصل 6، «أُصول الفقه وما يَتعلّق به من الجدل والخلافيات»، فقرة 15 من طبعة وافي ؛ فقرة 13 من طبعة رُوزنطال والشدادي]).


لكنّ الأرجح، رغم ذلكـ، أنّ “ابن خلدون” لم يُخْطئ في استعمال لفظ “العرب” بمعنى «سُكّان البادية في توحُّشهم وبُعدهم عن التّحضُّر». وهذا ما حقَّقه كثيرون يَأتي على رأسهم “ساطع الحُصري” (دراسات عن مقدمة ابن خلدون، ص. 151-168) و”محمد عبد الغني حسن” («ابن خلدون بين الشاعريّة والشُّعوبيّة والتّصوُّف»، المجلة، عدد مايو 1961) و”علي عبد الواحد وافي” (مقدمة ابن خلدون، ج 1) و”عبد العزيز الدوري” (أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في علم التاريخ، فصل “ابن خلدون والعرب”، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009).


وهكذا، فإنّ طريقة استدلال “ابن خلدون” في “المقدمة” تُوجب أوّلا إدراكـ أنّ أحوال الناس السلوكيّة والخُلقيّة مرتبطة بأحوال اجتماعهم ومَعاشهم. إذْ «أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نِحْلتهم من المَعاش.


فإنّ اجتماعهم إنما هو للتّعاوُن على تحصيله والابتداء بما هو ضروريّ منه وبسيط قبل الحاجيّ والكماليّ. فمنهم من يَنتحل الفَلْح من الغراسة والزراعة، ومنهم من يَنتحل القيام على الحيوان من الشاء والبقر والمعز [والإبل] والنّحْل والدُّود، لنتاجها واستخراج فَضَلاتها. وهؤلاء القائمون على الفَلْح والحيوان تدعوهم الضرورة، ولا بدّ، إلى البدو ؛ لأنّه مُتّسع لما لا يَتّسع له الحواضر من المَزارع والفُدن والمَسارح للحيوان وغير ذلكـ.


فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرا ضروريّا لهم. وكان حينئذ اجتماعُهم وتعاوُنُهم في حاجاتهم ومَعاشهم وعُمرانهم من القُوت والكِنِّ والدِّفء إنّما هو بالمقدار الذي يَحفَظ الحياة ويُحصِّل بُلْغَةَ العيش من غير مَزيد عليه للعجز عمّا وراء ذلكـ.» (كتاب 1، فصل 2، فقرة 1). ولهذا، فإنّ “ابن خلدون” يرى أنّ «جيل العرب في الخليقة طبيعيّ.» (كتاب 1، فصل 2، عنوان فقرة 2).


ذلكـ بـ«[…] أنّ أهل البدو هُم المُنتحلون للمَعاش الطبيعيّ من الفَلْح والقيام على الأنعام، وأنّهم مُقتصرون على الضروريّ من الأقوات والمَلابس والمَساكن وسائر الأحوال والعوائد، ومُقصِّرُون عما فوق ذلكـ من حاجيّ أو كماليّ. فيَتّخذون البيوت من الشعر والوَبَر أو الشجر أو من الطِّين والحجارة غير مُنَجَّدة.


إنّما هو قصد الاستظلال والكِنِّ لا ما وراءه. وقد يَأوُون إلى الغِيران والكهوف. وأمّا أقواتهم، فيَتناولونها بيسير العلاج أو بغير علاج البتة، إلّا ما مَسَّتْه النار. فمن كان مَعاشه منهم في الزِّراعة والقيام بالفَلْح، كان المُقام به أولى من الظَّعْن. وهؤلاء سكان المَداثر والقُرى والجبال، وهُم عامّة البربر والأعاجم.


ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم والبقر، فهم ظواعن في الأغلب لارتياد المَسارح والمياه لحيوانهم، إذِ التّقلُّب في الأرض أصلح بها، ويُسمَّوْن شاويةً. ومعناه القائمون على الشاء والبقر. ولا يُبْعدون في القفر لفِقْدان المَسارح الطيّبة به.


وهؤلاء مثل البربر والتُّركـ، وإخوانهم من التُّركمان والصقالبة. أما من كان مَعاشهم في الإبل، فهم أكثر ظَعْنًا وأبعد في القفر مجالًا، لأنّ مَسارحَ التُّلول ونباتَها وشجرَها لا تستغني به الإبل في قِوَام حياتها عن مرعى الشجر في القَّفْر، ووُرود مياهه المَلْحة، والتّقلُّب فصل الشتاء في نَواحيه فرارًا من أَذَى البرد إلى دِفْء هوائه وطلبًا لِمَفاحص النّتاج في رِماله، إذِ الإبل أصعب الحيوان فِصالًا ومَخاضًا وأحوجها في ذلكـ إلى الدِّفء ؛


فاضْطُرّوا إلى إبعاد النُّجْعة. ورُبّما ذَادَتْهُم الحاميَةُ عن التُّلول أيضا، فأوغلوا في القِفار نُفْرةً عن النَّصَفَة منهم والجزاء بِعُدْوانهم. كانوا لذلكـ أشدّ الناس توحُّشا، وتنزّلوا من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمُفترس من الحيوانات العُجْم. وهؤلاء هم العرب. وفي معناهم ظواعنُ البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتُّرْكمان والتُّركـ بالمشرق.


إلّا أنّ العرب أبعدُ نُجعةً وأشدّ بداوة، لأنّهم مُختصُّون بالقيام على الإبل فقط. وهؤلاء يَقُومون عليها وعلى الشّاء والبقر معها.» ؛ ثُمّ يُعقِّب “ابن خلدون” قائلا: «فقد تَبيّن لكـ أنّ جيل العرب طبيعيّ لا بد منه في العُمران. والله الخَلّاق العليم.» (كتاب 1، فصل 2، فقرة 2).


ومن البيِّن أنّ “ابن خلدون” لا يجعل، في هذا السياق، “البدو” خاصًّا بـ”العرب” وحدهم، لأنّه يقول: «وهؤلاء هُم العرب. وفي معناهم ظواعن البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتُّرْكمان والتركـ بالمشرق.»، وإنّما يَتميّز “العرب” – أو بالأحرى عامّتهم من “البدو”- بأنّهم «أبعد نُجعةً وأشدّ بداوةً، لأنّهم مُختصُّون بالقيام على الإبل فقط.».


وهذا ما أكّده “محمد عابد الجابري” في فقرة بعنوان «العرب ومن في معناهم»، حيث يقول: «هذا الصنف هو، كما قُلنا، سكّان الصحارى والقفار والبادية القليلة الخصب “مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللِّثام من صنهاجة” (ج 2، ص. 447).


فالمقصود بهم ليس جنسا معينا، بل الجماعات البشرية، التي قد تختلف أصولها العرقية اختلافا كبيرا، والتي يجمعها نمط معين من الحياة، أكْسَبَها خصائص ومُميِّزات مُعيّنة، تبدو في طباع أفرادها وأخلاقهم ومختلف أنواع سلوكهم الاجتماعي.»[5].


كما أنّ “ستيفان ليدر” بيَّن، في دراسة له («أصل دلالة المفهوم الخلدونيّ “العرب البدو”»)، أنّ «ابن خلدون يَتحدّث عن العرب كفئة قوميّة لا تنبني رغم ذلكـ على “القوميّة” بالتّعريف العِرْقيّ المُحدِّد لطبيعة الناس، بل هي ناتجة عن مُمارَسات اجتماعيّة خاصة.


فالعرب تَجمعُهم في الواقع فكرةُ الأصول المُشتركة (بالإحالة إلى الأنساب التي يَنْحدرون، جزئيّا، منها)، اللغة، العادات والمُمارَسات الاجتماعيّة. والعرب البدو قُورِنُوا، أيضا في الفقرة الثانية من الفصل الثاني [من المقدمة]، مع البربر والتُّركـ والتُّرْكمان والسلاف والكُرْد.


وفي مُقابل “أُمم” أُخرى، على غرار أُمم السُّودان بأفريقيا مثلا، تفتقد الصفات الإنسانيّة فإنّهم يَتميّزون بصفات تُقرِّبهم من صفات الحيوانات. فابن خلدون لا يُحيل إلى طبيعة العرب، بل إلى نمط عيش خاص، عيش البدو رُعاة الإبل.»[6].


وبِناءً على ذلكـ، فلا سبيل إلى جعل كلمة “العرب” – المذكورة آنِفًا في أكثر من فصل- دالّةً على عُموم “القوم” أو “الشعب” المعروف بهذا الاسم، وإنّما فقط بصفتهم نموذج “البدو” كـ«جيل أشدّ توحُّشا من غيرهم من الأجيال» (ومن “الأجيال” وليس “الشعوب” أو “الأقوام”).


ولعلّه من المُفيد، بهذا الصدد، أن يُشار إلى أنّ المُترجمين لا يَنقُلون كلمة “العرب” بما يُقابلها في ألسنتهم الخاصة (Arabs/Arabes)، بل يَستعملون للدّلالة عليها كلمة “بدو” (bedouins/bédouins).


وهذا ما نجده لدى “فرانز رُوزنطال” الذي يُعَدّ أحسن من حقّق نصّ “المقدمة” المنقول من طرفه إلى الإنجليزيّة ؛ إذْ يقول (الترجمة الإنجليزية للمقدمة، كتاب 1، فصل 2، فقرة 2، الهامش 6): «كمصطلح سوسيولوجيّ، يُعدّ لفظ “عرب” مُرادِفًا دائما عند ابن خلدون للفظ “بدو” أو “رُحَّل”، بِغَضِّ النّظر عن أيِّ تمييز عِرْقيّ، قوميّ أو لُغويّ.» («As a sociological term, “Arab” is always synonymous with “Bedouin, nomad” to Ibn Khaldun, regardless of racial, national, or linguistic distinctions.»)[7].


ولهذا، ليس من الغريب أنّ نجد “ماكس ڤيبر” يقول بخصوص “اليهود” في فصل بعنوان “البدو” (les bédouins) من كتابه «اليهوديّة القديمة» (1917-1918): «في أحد أقصى أطراف المنطقة، كان ولا يزال بدو الصحراء.


و”البدويّ” بالمعنى الحقيقيّ كان، إلى حدود شمال العالم العربيّ، مُتميِّزا تماما عن “العربيّ” المُستقرّ، ومُحتقِرًا عبر الزمن للفلاحة، وكارِهًا المَنازل والحُصون. لقد كان يَعيش بحليب النّاقة والتَّمْر، وما كان يَعرف خمرا ولا يَطلُب أو يُعاني أيَّ شكل من أشكال تنظيم الدّولة.» [8].


ونجد، فضلا عن ذلكـ، أنّ “علي عبد الواحد وافي”- الذي كان أوّل من عمل على تحقيق النّص العربيّ لـ”المقدمة” (1957-1960)- قد خصَّص لهذه المسألة مَبْحثا كاملا من تمهيد طبعته (المَبْحث الرابع: «اتّهام ابن خلدون بالتّحامُل على العرب في مقدمته»، الفصل الثاني من الباب الرابع، ص. 235-242) حيث أكدّ: «والحقيقة أنّ ابن خلدون لا يَقصد من كلمة “العرب” في مثل هذه الفصول “الشعب العربيّ”.


وإنما يستخدم هذه الكلمة بمعنى “الأعراب” أو “سكان البادية” الذين يعيشون خارج المدن ويشتغلون بمهنة الرعي وخاصة رعي الإبل ويتّخذون الخيام مَساكن لهم ويَظْعنون من مكان إلى آخر حسب مقتضيات حياتهم وحاجات أنعامهم التي يتوقف معاشهم عليها ؛ وهم المقابلون لأهل الحضر وسكان الأمصار ؛ كما تدل على ذلك الحقائق نفسها التي عرضها ابن خلدون في الفصول التي وردت فيها الكلمة […]» (ج 1، ص. 235-236).


وينتهي “وافي” إلى القول: «ومع ذلك فقد وَدِدْنا لو استعمل ابن خلدون كلمة “البدو” في هذا المقام، وهي الكلمة الصريحة فيما يقصده، بدلا من كلمة “العرب” التي تُطلق أحيانا على المعنى الذي يقصده (لأن الواقع أنه لم يأت بهذا المعنى من عنده، بل إنه أحد المعاني اللغوية القديمة للكلمة) ولكنها تُطلق على الشعب العربي.


إذن لاتقى هذا اللَّبْس، ولما أتاح لأحد مجالا للاعتراض عليه.» (ج 1، ص. 242). ويُشير “وافي” إلى أن الأمر نفسه أثبته “محمد جميل بيهم” بقوله: «لقد كان ابن خلدون جليّا في أنه كان يَذُمّ البدو دون العرب، وذلك بالفصول الأربعة التي جاءت تحت عنوان “في العمران البدوي والأمم المتوحشة والقبائل”، كما كان واضحا – فيما بعد- بأنه كان يُطري العرب ويُشيد بهم وبحضارتهم في الإسلام وما قبله.


ولكن مصدر الالتباس يرجع إلى أنه في الحالتين استعمل كلمة “العرب”. فترك المجال للشعوبيين لأن يتجاوزوا قصد المؤلف إلى التمسك بالكلمة دون المعنى، وإلى اتخاذها حجة لهم للتنديد بالعرب والحط من شأنهم.»[9].


ومن ثَمّ، فإنّه حُقّ لـ”عبد السلام الشدادي” – وهو الأكاديميّ المغربيّ الذي يُعَدّ أحد أكبر المتخصصين عالميّا في الفكر والتراث الخلدونيّين- أن يُؤكِّد أنّ «ابن خلدون، بصفته مُسلما ومُؤمنا، يَنْبِذ كل موقف أو توجُّه عنصريّ. فالإسلام يدعو إلى المُساواة المُطلَقة أمام الله، والفقه يَنُصّ على تدابير مُعيّنة لإعمال الكرامة والمُساواة الواجبتين شرعا بين الناس.»[10].


ويبدو، أخيرا، أنّه لا شيء أشدّ تسفيها للموقف العنصريّ المُستند إلى “ابن خلدون” من أمْرَيْن لا يُنْكرهما إلا جاهل أو جاحد: أوّلُهما أنّ ثناءَه على “العرب” كـ«أُمم لا يأخذها الحصر والضبط، قد كاثروا أمم الأرض لهذا العهد شرقا وغربا، واعتزوا عليهم، فهم اليوم أكثر أهل العالم وأملك لأمرهم من جميع الأمم […].


فهذه أجيال العرب منذ بدء الخليقة ولهذا العهد أربع طبقات متعاقبة، كان لكل طبقة منها عصور وأجيال ودول وأحياء، وقعت العناية بها دون من سواهم من الأمم لكثرة أجيالهم واتساع النطاق من مُلْكهم.» (كتاب العبر، ج 2 [11]) إنّما هو كلام لا يَستقيم إطلاقا مع افتراض إرادة صاحبه ذمّ “العرب” بجعلهم «أُمّة من القبائل البدويّة والمُخرِّبة»! وثانيهما أنّ تعميم حُكمَه على “العرب” – بصفتهم مجرد قبائل من البدو الرُّحّل المُعادين للاستقرار والعُمران- لا يُمكنه أن يُفسِّر كيف أنّ “الإسلام” لم يَظهر إلّا في “مكّة” التي هي «أُمّ القُرى»،


ولم يَستتبّ أمرُه دولةً إلّا في “المدينة”! بل كيف أمكن أن تكون كل البُلدان – التي فتحها «العرب/المُسلمون» واستوطنوا بها (العراق، فارس، الشام، مصر، إلخ.)- احتفظتْ تاريخيّا بآثارها العُمرانيّة وتنامت مُدنُها وبناياتُها كما في “الأندلس” في ظلِّ حُكم “الأُمويّين”، وحتّى في شمال أفريقيا (القيروان، الزيتونة، القرويّين، الأزهر)؟!


لم يكن، إذًا، “ابن خلدون” عُنصريّا تُجاه “العرب” ليس فقط لأنّه كان يَتحدّث عن “جيل” منهم اضْطرّته أسبابُ المَعاش الطبيعيّة والاجتماعيّة إلى أن يَصير أشدّ توحُّشا على غرار أمثاله من أجيال الشعوب الأخرى، وإنّما لأنّه ما كان يَنبغي له أن يُعمِّم أحكاما سَلْبيّةً على أُمّة أبى إلّا أن يُحقِّق انتسابَه إليها ولم يَتوان في تقدير مكانتها في التاريخ.


ومن هُنا، فالعُنصريّ حقًّا إنّما هو من يُسوِّل له هواه أن يَنتزع من كلام “ابن خلدون” ما يُتيح له إشباعَ رغبته في الانتقاص من قَدْر “العرب” بما هم “قوم” أو “شعب” يُراد وَصْمُهم وثَلْبُهم.


ولا يخفى أن من كان ذاكـ حالَه فَلَنْ يَتردّد في إتيان كل ما يُمكِّنه من غرضه الذي يَتجاوز، في الواقع، ظاهر «الكراهيّة العنصريّة». ذلكـ بأنّ الحطّ من قدر “العرب” قد بات هدفا استراتيجيّا لكل من يَهُمّه استبعادُهم من سياق التاريخ والحضارة المُعاصرين، من حيث إنّ “العرب” ليسوا مجرد “شِرْذمة” من “البدو”، بل هُم “أُمّة” كان لها شأنٌ خطير في الماضي ولا تزال تَمْلِكـ من المُقوِّمات ما يُؤهِّلُها لإعادة الكَرّة مرّةً أُخرى في الحاضر والمُستقبل.


وإنّه ليجب أن يكون المرءُ أشدّ عَمًى حتّى لا يُدركـ أنّ “العرب” لم يَسبق لهم أن عَزُّوا كما عَزُّوا بـ”الإسلام” بما هو رسالةُ تنويرٍ وتحريرٍ للعالمين. ولذا، فإنّ كونَهم ما يَزالون يَستوطنون بقلب الكرة الأرضيّة ويَمتلكون عصب الحياة في الاقتصاد المُعاصر يَجعلُ قَطْعَهم عن تاريخهم الحضاريّ ورسالتهم العالميّة مُهمّةً “شُعوبيّةً” بامتياز!


[1] اُنظر:
– Pierre Lepape, «l’inventeur de la sociologie», in: le monde diplomatique, Janvier 2003.
– Abdesselam Cheddadi, Ibn khaldûn: l’homme et le théoricien de la civilisation, éd. Gallimard, coll. Nrf, Paris, 2006.
[2] اُنظر:
– Germain Ayache, «Ibn Khaldoun et les Arabes» (1962), in: Germain Ayache, Etudes d’histoire marocaine, éd. SMER, Rabat, 1983, p. 25-39.
[3] اُنظر الدراسات المجموعة في المجلد المعنون بـ«ماذا حدث لمكتبة الإسكندرية القديمة؟» (دار بريل، 2008)، خصوصا دراسة “برنار لويس” بعنوان «تدمير العرب لمكتبة الإسكندرية: تشريحُ أُسطورة» (ص. 213-217):
– What Happened to the Ancient Library of Alexandria?, edited by Mostafa El-Abbadi and Omnia Mounir Fathallah, Brill, Leiden/Boston, 2008.
[4] اُنظر: طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، [ط 1، 1987، ص. 69]، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط 2، 2000، ص. 74.
[5] اُنظر: محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، ط 8، آذار/مارس 2007، ص. 147.
[6] اُنظر:
– Stefan Leder, «Bedouin Arabs-origin signification of a khaldûnian concept», in: Ibn Khaldûn, aux sources de la modernité, Académie tunisienne des sciences, des lettres et des arts, Beït al-Hikma, Carthage, 2008, p. 183-202.
[7] اُنظر:
– Ibn Khaldûn, The Muqaddimah, An Introduction to History, transleted from arabic by Franz Rosenthal, New York, Pantheon Books 1958, London, Routledge and Kegan Paul, 1958; vol II, Book I, Chap 2.
[8] اُنظر:
– Max Weber, le judaïsme antique, trad. Par Isabelle kalinowski, éd. Flammarion, coll. Champs Classiques, Paris, 2010, p. 90.
[9] اُنظر: مقدمة ابن خلدون، تأليف عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، الفجالة/القاهرة، ط 3، د. ت، ج 1، ص. 235-242.
[10] انظر:
– Abdesselam Cheddadi, Actualité d’Ibn Khaldûn, conférences et entretiens, éditions de la Maison des Arts, des Sciences et des Lettres, 2006, Témara, p. 181.
[11] اُنظر: تاريخ ابن خلدون، ضبط خليل شحادة ومراجعة سهيل زكار، دار الفكر، 1421هـ/2000م، ج 2، ص. 18-19.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى