اللغات السامية وتفرُّعاتُهااللغة العربية

لماذا تخلى العرب عن حروفهم المحلية وكتبوا بحرف سرياني الأصل؟

ما نسميه الآن بـ”الحرف العربي” أو “الخط العربي” هو حرف لم يتطور في الحجاز ولا مكة ولا المدينة (يثرب) ولا في اليمن، وإنما هو حرف مشتق من حرف شامي/عراقي هو الحرف السرياني (سوريا والعراق) أو الحرف النبطي (الأردن) وهما مشتقان من الحرف الآرامي المنتمي أيضا إلى الشام والعراق.

وينقسم الأكاديميون حاليا حول أصول الأبجدية العربية إلى فريقين: فريق يرى أن الحرف العربي مشتق من الحرف النبطي، وفريق آخر يرى أن الحرف العربي مشتق في جزئه الأكبر من الحرف السرياني.

والحرف العبري الحالي هو أيضا مشتق مباشرة من الحرف الآرامي. ولكن اللغة العبرية كانت مكتوبة لأول مرة (في النسخة الأولى من التوراة) بالحرف العبري القديم Paleo-Hebrew script وهو حرف مختلف عن الحرف العبري الحالي وتخلى عنه العبريون وتبنوا بدلا عنه الحرف الآرامي الذي اشتق منه لاحقا الحرف العبري الحالي. وحدث هذا التحول في كتابة العبرية بسبب تأثير الإمبراطورية الفارسية.

الأبجديات الآرامية والسريانية والنبطية كانت ومازالت لحد الآن تشتمل على 22 حرفا. وكذلك الحرف العربي البدائي كان يشتمل على 22 حرفا فقط ودون تنقيط، قبل أن يرتفع عدد حروفه إلى 28 حرفا، أو 29 حرفا إذا احتسبنا الهمزة (ء)، أو 30 حرفا إذا احتسبنا الألف المقصورة/الياء المرسلة (ى).

وهذه صورة بيانية لأصول بعض الحروف واشتقاقاتها حسب النظرية العلمية السائدة حاليا:

(المرجع: A History of Writing. للباحث: Steven Roger Fischer).

 

  • 1) اشتقاق الحرف العربي من الحروف السريانية / النبطية الآرامية والتشابهات الموجودة:

الشبه بين الخط العربي والخط السرياني واضح من حيث اتصال الحروف بخطوط رابطة ونمط الكتابة النسخية الأفقية من اليمين إلى اليسار بدل الكتابة العمودية التي تظهر فقط في أنماط الحروف المنفصلة أي غير المرتبطة فيما بينها بالخطوط.

وحتى علامات التنقيط والتشكيل استعملها الآراميون والسريان لأول مرة في المخطوطات الآرامية والسريانية قبل أن يستعملها اليهود مع الحروف العبرية والعرب مع الحروف العربية.

وهناك حروف عربية عديدة مطابقة في الشكل والنطق للأصل السرياني (والنبطي) ومنها:

ا (الألف العربية) = يوجد حرف مطابق لها في الأبجدية النبطية.

ل (اللام العربية) = ܠ (اللام السريانية).

م (الميم العربي) = ܡ (الميم السرياني).

ط (الطاء العربية) = ܛ (الطاء السريانية).

جـ (الجيم العربية) / حـ (جيم غير منقطة) = ܓ (G السريانية).

ب (الباء العربية) / ٮ (باء غير منقطة) = ܒ (الباء السريانية).

د / ذ (الدال/الذال العربية) = ܕ (الدال السريانية).

ز (الزاي العربي) / ر (زاي غير منقطة) = ܙ (الزاي السريانية).

ف (الفاء العربية) / ڡ (فاء غير منقطة) = ܦ (الفاء أو P السريانية).

ق (القاف العربية) / ٯ (غير منقطة) = ܩ (القاف السريانية).

هـ (الهاء العربية) = ܗ (الهاء السريانية).

و (الواو العربية) = واو نبطية ذات شكل يشبه “q”

المراجع: Classical Syriac. المؤلف: Takamitsu Muraoka. نشرته: Harrassowitz Verlag. ألمانيا. 2005.

A Brief introduction to the Arabic alphabet. للباحثين: John F. Healey وG. Rex Smith. نشرته: Saqi. لندن، بريطانيا. 2009 و2012.

  • 2) الحرف العربي الحالي منحدر من حروف الشام والعراق وليس من حروف شبه الجزيرة العربية:

الحرفان السرياني والنبطي هما تفرعان للحرف الآرامي. والحرف العربي هو مشتق إما من الحرف السرياني أو من الحرف النبطي حسب النظريات العلمية السائدة حاليا لدى الدارسين.

(راجع كتاب: A History of Writing للباحث: Steven Roger Fischer).

أما بالنسبة لمنطقة الجزيرة العربية فهي منطقة لم تكن تعرف الحرف الآرامي ولا السرياني. وكان هناك تواجد للحرف النبطي (المشتق من الآرامي) في منطقة أقصى شمال شبه الجزيرة العربية حينما كانت تابعة لحكم إحدى الممالك النبطية (أي الأردنية).

في منطقة شبه الجزيرة العربية توجد حروف محلية قديمة منحدرة من الحرف السينائي القديم (القبطي) وتسمى في الاصطلاح الأكاديمي بهذه الأسماء:

– South Arabian abjad / alphabet (وهي الحروف اليمنية القديمة تحديدا).

– Epigraphic South Arabian (وهو اسم آخر للحروف اليمنية القديمة).

– Old North Arabian script (وهي الحروف القديمة في وسط وشمال شبه الجزيرة العربية).

وهي كلها مختلفة تماما عن “الحرف العربي الحالي” وليس لها علاقة مباشرة به، وهي مختلفة تماما عن الحروف النبطية والسريانية والآرامية التي تنتمي إلى الشام والعراق.

وهذه الحروف المحلية العربية الصحراوية واليمنية القديمة موجودة في بعض النقوش الحجرية في بعض مناطق الحجاز وفي بعض المقابر والمآثر والأطلال التاريخية في اليمن وعمان إلى حد اليوم.

فلماذا تخلى العرب عن حروفهم الأصلية المحلية الموجودة في نقوشهم الحجرية إلى اليوم وكتبوا لغتهم العربية بحروف عربية مشتقة من الحروف السريانية/النبطية التي تنتمي إلى الشام والعراق؟

الجواب الذي يمكن اقتراحه هو أن التأثير الحضاري والديني والثقافي على العرب في الفترة الحديثة كان آتيا من الشمال، أي من الشام والعراق. وهذا التأثير الشمالي يتمثل في:

– التجارة والمنتوجات الفلاحية القادمة من المناطق الخصبة في الشام والعراق (حيث يوجد نهرا دجلة والفرات والمناطق الفلاحية الخصبة والكثافة السكانية).

– انتشار الدين المسيحي في معظم الشام وجزء من العراق، وتأثير المبشرين السريان في نشر المسيحية ونشر الكتاب المسيحي المكتوب بالحرف السرياني.

– اعتناق جزء من العرب في أقصى شمال شبه الجزيرة العربية (قرب الشام والعراق) للمسيحية التي كان كتابها المقدس السائد في المنطقة مكتوبا باللغة السريانية وبالحرف السرياني. ووصول الدين المسيحي إلى بعض مناطق اليمن عبر الحجاز أو عبر إثيوبيا.

– المخطوطات الدينية المسيحية باللغة السريانية وبالحرف السرياني كانت تأتي من الشام والعراق وتؤثر على المنطقة كلها.

– التبعية السياسية لبعض القبائل والإمارات العربية في أقصى شمال شبه الجزيرة العربية للفرس (الذين كانوا يحكمون العراق) والبيزنطيين (الذين كانوا يحكمون الشام)، واحتكاك العرب مع السريان / الآراميين المسيحيين في التجارة والدين والحروب وبقية علاقات الجوار.

يمكن اعتبار هذه الأسباب حاسمة في اختيار العرب (سكان شبه الجزيرة العربية) بشكل أتوماتيكي أن يكتبوا لغتهم العربية (أو لهجاتهم العربية) بحرف سرياني أو نبطي تطور إلى “حرف عربي جديد” لاحقا يحاكي ويشابه الحرف السرياني / النبطي ويحاكي كتابات السريان الدينية (المسيحية)،

بينما لم يفكر العرب في كتابة لغتهم العربية بالحروف المحلية القديمة المنقوشة في الحجاز واليمن، رغم أنهم كانوا على علم بها، بل إنهم سموها في العربية بـ”خط حِمْيَر” أو “المسند” أو”القلم الحميري”. ويقول الشاعر وعالم اللغة العربي ابن دُرَيْد (توفي في 933م) في كتابه “جمهرة اللغة”: “…والمُسنَد هو خط حِمْيَر أيام مُلْكِهم”.

  • 3) “… وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية”:

سادت في الثقافة الشرقية العربية الإسلامية منذ أوائل الإسلام فكرة أن العرب أخذوا كتابتهم عن السريان. وهكذا نجد في كتاب “فتوح البلدان” للمؤرخ الفارسي أحمد بن يحيى البلاذري الذي عاش في بغداد وتوفي عام 892م هذه العبارة:

“… اجتمع ثلاثة نفر من طيء ببَقّة وهم مُرامِر بن مُرّة وأسلم بن سِدْرة، وعامر بن جَدَرَة فوضعوا الخط، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية”.

(المرجع: كتاب “فتوح البلدان” صفحة 659، لمؤلفه: البلاذري (توفي عام 892م). مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، بيروت، 1987).

و”طيء” هي قبيلة عربية كانت مسيحية وكانت توجد في منطقة شمال شبه الجزيرة العربية قرب العراق.

و”بقة” هي حسب ما أورده ياقوت الحموي: “بَقّة: بالفتح وتشديد القاف، اسم موضع قريب من الحيرة [في العراق]، وقيل: حصن كان على فرسخين من هيت [في العراق] كان ينزله جذيمة الأبرش ملك الحيرة”. (المرجع: كتاب “معجم البلدان”. المؤلف: ياقوت الحموي الرومي.)

والظاهر من هذه القصة التي ذكرها البلاذري أن أسماء الرجال الثلاثة (ابن مُرة، ابن سِدرة، ابن جدرة) من وحي خيال القصاصين والرواة ولكن الفكرة الرئيسية هي أهم ما في الموضوع. وتتناسب هذه القصة مع حقيقة أن الخط الكوفي (من جنوب العراق) هو أقدم أشكال الأبجدية العربية في الفترة الإسلامية.

وأورد المؤرخ الفارسي ابن النديم (توفي في حوالي 995م) في كتابه “كتاب الفهرست” بعض المعلومات الشائعة في عصره حول الخط السرياني في باب “الكلام على القلم السرياني” ما يلي:

“ذكر تيادروس المفسر، في تفسيره للسفر الأول من التوراة، ان الله تبارك وتعالى خاطب آدم باللسان النبطي وهو أفصح اللسان السرياني، وبه كان يتكلم أهل بابل. فلما بلبل الله الألسنة تفرقت الأمم إلى الأصقاع والمواضع وتبقى لسان بابل على حاله. فأما النبطي الذي يتكلم به أهل القرى، فهو سرياني مكسور غير مستقيم اللفظ.

وقال غيره: اللسان الذي يستعمل في الكتب والقراءة وهو الفصيح فلسان سوريا وحرّان. والخط السرياني استخرجه العلماء واصطلحوا عليه وكذلك سائر الكتابات. وقال آخر: إن في أحد الأناجيل أو في غيره من كتب النصارى أن ملكا يقال له سيمورس علَّم آدم الكتابة السريانية على ما في أيدي النصارى في وقتنا هذا. وللسوريانيين ثلاثة أقلام وهي، المفتوح، ويسمى اسطرنجالا وهو أجلّها وأحسنها ويقال له الخط الثقيل، ونظيره قلم المصاحف والتحرير. المخفف، ويسمى اسكوليثا ويقال له الشكل المدور ونظيره قلم الوراقين. والسرطا، وبه يكتبون الترسل ونظيره في العربية قلم الرقاع.”

وفي باب “الكلام على القلم الحِميري” كتب المؤرخ ابن النديم في “كتاب الفهرست”:

“زعم الثقة أنه سمع مشايخ أهل اليمن يقولون: إن حِمْيَر كانت تكتب بالمسند على خلاف أشكال ألف و باء و تاء. ورأيت أنا جزءا من خزانة المأمون ترجمته، ما أمر بنسخه أمير المؤمنين المأمون عبد الله أكرمه الله من التراجم. وكان في جملته القلم الحِمْيَري.”


  • 4) استنتاجات:

– حسب النظرية العلمية السائدة حاليا فالحرف العربي مشتق من الحرف النبطي أو من الحرف السرياني وهذان بدورهما مشتقان من الحرف الآرامي.

– الظاهر هو أن الخط العربي تطور في منطقة شمال شبه الجزيرة العربية أو جنوب العراق أو جنوب الشام حيث حدث هناك احتكاك للعرب مع النبطيين والسريان الآشوريين والآراميين.

– العرب لم يكتبوا لغتهم العربية الحديثة (منذ الإسلام) بحروفهم المحلية الأصيلة الموجودة في النقوش الأثرية في الحجاز واليمن، وإنما فضلوا عليها الحرف العربي المشتق من الحرف النبطي/السرياني.

– اختيار العرب كتابة لغتهم العربية بحرف مشتق من الحرف النبطي أو السرياني اللذان هما حرفان أجنبيان عن الحجاز واليمن هو اختيار ناتج عن ظروف المنطقة الاقتصادية والدينية والثقافية واللغوية. أي أن اشتقاق الحرف العربي من السرياني أو النبطي والاقتباس من طريقة كتابة السريان للغتهم وكتبهم هو اختيار عملي براغماتي وظيفي أو تلقائي من طرف المدونين العرب عبر الاقتباس مما هو متوفر وشائع في الميدان ثم البناء عليه.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى