ما هو أصل الخط العربي؟
استقرّت الكتابة العربية الحجازية على صورتها التي كان الصحابة كتاب الوحي يكتبون فيها القرآن الكريم قبل فترة ليست بالبعيدة عن تاريخ ظهور الإسلام. وتشير النقوش التي سبقت ذلك التاريخ إلى أنّ الكتابة العربية ومقدماتها المبكّرة قد عرفت تطوّرات مُتسارعَة خلال القرون القليلة السابقة، تأثّرت فيها بالخطوط المنتشرة في محيط الحجاز. فما أهمّ هذه الخطوط؟ وما المعالم البارزة لمسارات التطوّر؟
- من الخط الآرامي
تطوّرت الأبجدية الفينيقية من خلال إحداث تطويرات على الهيروغليفية المصرية عبر تحويلها من كتابة تصويرية إلى حروف ومقاطع أبجدية ذات دلالات صوتية، ويعود تاريخ ظهورها وتطوّرها إلى نحو (1100) عام قبل الميلاد، وقد استخدم الآراميون الأبجدية الفينيقية وبدؤوا بإدخال تعديلات وتحويرات عليها ليطوّروا بذلك ما عُرف بالأبجدية والخط الآرامي الذي أصبح خطاً مستقلاً بحلول القرن الثامن قبل الميلاد. ومن الفينيقية كذك تطوّرت الألفبائية اليونانية التي تطوّرت منها لاحقاً اللاتينية.
تتحدث مرويّات تاريخية عن أنّ أول من استخدم الخط العربيّ هم قبيلة إياد الذين سكنوا العراق
الفرضية الأولى عن أصل الخط العربي تذهب إلى أنّ الخط العربي تطوّر عن الآرامية مباشرةً دون المرور بوسيط آخر، ووفقاً لها فإنّ الآرامية انتقلت من منطقة حرّان (في جنوب تركيا اليوم)، التي كانت تُعدّ بمثابة مركز من مراكز العلوم والآداب السريانية – الآرامية في القرون الميلادية الأولى، إلى الحِيرة في العراق، عندما كانت عاصمة مملكة المناذرة العرب، وحدث ذلك في حدود بدايات القرن الرابع الميلادي، وفي مسار مقترح آخر فإنّها انتقلت من دمشق إلى الفرات، ثُمّ إلى الأنبار، ومنها إلى الحيرة.
وفي الحِيرة بدأ الكُتّاب العرب يدخلون التعديلات على الخط الآرامي؛ بما في ذلك تغيير شكل كتابة بعض الحروف ودلالاتها الصوتية، وكذلك جعل بعض الحروف تكتب متصلة، لينشأ عن ذلك ما عُرف بـ “خط الجزم” (الذي تتضارب الفرضيات في أصله؛ هل هو متطور عن النبطية أو الآرامية أو المسند).
ومن ثُمّ انتقل إلى شبه الجزيرة العربية، عن طريق مدينة “دَوْمة الجندل” في شمال شبه الجزيرة، ومنها إلى الحجاز، مع استمرار حدوث التعديلات عليه؛ وتحديداً جعل الأحرف تكتب بليوُنة واستدارة والابتعاد عن الزوايا الحادّة التي تمتاز بها الكتابة الآرامية، حتى استقرّ على هيئة الخط الحجازي الذي كتبت به المعلّقات في القرن السادس الميلادي، ومن ثمّ كتبت به صحائف القرآن الكريم الأولى في القرن السابع الميلادي.
روى البلاذري أنّ ثلاثة من قبيلة طيء قاموا بوضع الأحرف الهجائيّة العربيّة بالاستناد على الآرامي
وجاء الاستدلال على هذه الفرضية من طريقيْن: الأول هو الطريق الروائي؛ إذ نجد مرويات في كتب التاريخ تتحدث عن أنّ أول من استخدم الخط العربي هم قبيلة إياد الذين سكنوا العراق واعتنقوا الديانة المسيحية، وكانوا قد تعرّضوا للاضطهاد من قبل كِسرى “سابور الثاني” (309-379م) بسبب ديانتهم، وجاء في المرويّات أنّ شاعر القبيلة الشهير، لقيط الإيادي، كان مترجماً في بلاط سابور، وكان قد كتب كتباً بالعربية وأرسلها إلى قبيلته يحذرها من سابور، ما يُظهر أنه كان لديهم في حينه أبجدية مستقلّة.
ويروي المؤرخ البلاذري في “فتوح البلدان” أنّ ثلاثة من قبيلة طيء، التي كانت تسكن شمال الجزيرة، قاموا بوضع الأحرف الهجائية العربية بالاستناد على الحروف السريانية الآرامية، ومنهم انتقلت إلى أهل الحيرة ثمّ إلى دومة الجندل، ومنها إلى الحجاز. وعند ابن دريد في أماليه أنّ أول من كتب بالخط العربي المعروف بـ “خط الجزم” هو الجزم بن مرَّة الطائيّ، ثم علَّمه أهل الأنبار ودومة الجندل.
أمّا الطريق الثاني لإثبات هذه الفرضيّة، فقد كان الاستدلال الشكلي؛ بالنظر إلى شكل الحروف العربية ومقارنتها بالآرامية، إذ يُلاحظ أنّ بعض الحروف العربية هي الحروف السريانية نفسها شكلاً ولفظاً، وتحديداً: الألف، والدال، والراء، والميم، والشين، والعين، والهاء.
إلا أنّ هذه الفرضية بقيت مفتقرة إلى الشواهد الآثارية والنقوش الكافية التي تثبت حدوث هذا الانتقال المباشر من الآرامية إلى العربية دون وسيط، في مناطق الحيرة وشمال الجزيرة، وربما يتحقق شيء من ذلك مع التوسع في عمليات التنقيب بالمواقع الأثرية في دومة الجندل والحيرة.
- من الخط النبطي
الخط النبطي والأبجدية النبطية هي كذلك مشتقة ومتطوّرة عن الآرامية، وقد بدأ ظهوره كخط مستقلّ عند العرب الأنباط منذ القرن الثاني قبل الميلاد واستمرّ في تطوّره حتى وصل في القرن الثالث الميلادي إلى ما عُرف بـ “الخط النبطي المتأخر”، الذي تتسم أحرفه بالانحناءات والاستدارة، مع الاحتفاظ في بعض الأحرف على سمة التربيع التي يتسم بها الخط الآرامي.
بحسب الفرضية الجنوبية، فإنّ قبيلة كِندة كان لها دور في انتشار الخط المسند في عموم شبه الجزيرة
ووفقاً للفرضيّة الثانية في نشأة وتطوّر الخط العربي، فإنّ الخط العربي الحجازي قد تطوّر من الخط النبطي المتأخر، خلال الفترة ما بين القرنين الثالث والسادس الميلادي.
وبحسب هذه الفرضية فإنّ الكتابة النبطية انتقلت إلى الحجاز من خلال الاتصال الدائم ما بينه وبين بلاد الشام حيث ينتشر عدد من النقوش والكتابات النبطية المحفوظة في مواقع من حوران ومحيط دمشق شمالاً وحتى وادي رم وصولاً حتى العُلا ومدائن صالح جنوباً.
وفي افتراض آخر فإنّها قد تكون انتقلت بدايةً من حوران إلى وادي الفرات ثمّ إلى الحيرة، ومنها إلى دومة الجندل ثمّ إلى الحجاز، لتتفق بذلك مع ما جاء في عدد من المرويّات التاريخية عن نقل العرب خطهم من الحِيرة.
شاهد مكتوب عليه بالكتابة النبطية المتأخّرة
وتتعزز هذه الفرضية بأدلة وافرة من النقوش، بدايةً من نقش أم الجمال الأول (في شمال الأردن)، الذي يعتبر أقدم نموذج محفوظ على خط نبطي متأخر، ويعود تاريخه إلى حدود الفترة (250-270م)، وصولاً حتى نقش النمارة (في جنوب سوريا)، العائد لعام 328م، والمعروف بـ “نقش امرؤ القيس”، وحتى نقش أم الجمال الثاني، من القرن السادس الميلادي،
ومن ثمّ تظهر النقوش العربية بصيغتها الحجازية، في القرنين السادس والسابع بمناطق الحجاز – والتي بالإمكان تلمّس تقاطعات كبيرة بينها وبين النبطية المتأخّرة، ما أعطى رجحاناً كبيراً لهذه الفرضيّة – ومثال عليها نقش “زهير” في مدائن صالح (في السعودية)، الذي يعود تاريخ كتابته إلى عام 644م.
- من الخط المسند
أمّا الفرضية الثالثة، المعروفة بـ “الفرضية الجنوبية”، فتذهب إلى القول بنشأة الخط العربي وتطوّره عن الخط المُسْنَد الحميَري، الذي نشأ وتطوّر في اليمن منذ فترات تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وتعود أصوله إلى الأبجدية “السينائية الأولية” التي تطوّرت عنها الفينيقية كذلك.
وتفترض هذه الفرضية أنّ الخط المُسْنَد انتقل من اليمن إلى الأنبار ثمّ إلى الحيرة، وأنّ قبيلة كِندة كان لها الدور الأكبر في انتقال المسند وانتشاره من اليمن إلى الشمال، وذلك تحديداً منذ قيام مملكة كندة وسط الجزيرة العربية في القرن الثاني قبل الميلاد.
ومع اكتشاف قرية “الفاو” الأثرية، عاصمة مملكة كندة، عُثر على عدد من النقوش المكتوبة بالخط المسند، مع قدر من التطويرات والتحويرات فيه. كذلك عُثر على نقوش عديدة بالخط المسند، من النوع المعروف بـ “الثمودية”، في منطقة الحِجر شمال الجزيرة العربية، وتمتد حتى تصل إلى “وادي رم” شمالاً.
ووفقاً لهذه الفرضية فإنّ “خط الجزم” الذي ظهر في العراق في فترة القرن الرابع الميلادي، وكان بمثابة خط عربي مبكّر، كان متطوراً عن الخط المسند وليس عن الخط النبطي أو الآرامي كما في الفرضيات الأخرى.
إلّا أنّ هذه الفرضية ظلّت مفتقرة للشواهد الكافية التي تمكّن من تتبع التطوّر والانتقال من المُسنَد وصولاً إلى الخط العربي الحجازي، رغم أنها بدأت تعرف التفاتاً واهتماماً متزايداً مع توسع عمليات البحث في “قرية الفاو”، والنقوش الثمودية في منطقة العُلا.
وبرغم ما توافر من أدلة ونقوش حتى اللحظة، إلا أنّ علماء اللغات والنقوش ما زالوا يرسمون شجرة العائلة للخطوط المعروفة بـ “السامية الغربية”، ومن بينها الأبجدية العربية. وما زال الحسم والقطع التام في أصل الخط العربي غير ممكن مع استمرار اكتشاف نقوش بين فترة وأخرى في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية وجوارها، واستمرار دراسة الخطوط ومقارنتها وتتبع تحوّلاتها ورسم شجرة نموها وتطوّراتها.
خالد بشير – حفريات