اللغة العربية الواحدة المتفرقة
صارت اللغة العربية في إطار التدافع والتجاذب بين اللغات والمصالح الاقتصادية والسياسية موضوع جدال وسجالات لا حصر لها في الآونة الأخيرة. ولا يخفى على أي متتبع أن تلك السجالات تضمر اختلافات واستراتيجيات في التوجه نحو المستقبل.
فهناك من جهة من يدافع عن العربية بدعوى الهوية والوطنية. ومن يتشبث بتناوبها مع غيرها من اللغات بدعوى فشل ممارستها في العلوم التي يتم الاشتغال بها بغيرها من اللغات.
سيظل هذا التجاذب بين الطرفين قائما، مثل ثنائية الأصالة والمعاصرة، ما لم تحسمه رؤية ملموسة لدخول العصر يتم التوافق بصددها لمصلحة تصور ملائم للمستقبل، ويبدو هذا المطمح بعيد المنال ما لم تتغير الذهنيات التقليدية السائدة لدى طرفي المعادلة.
يتم في خضم هذه السجالات التغاضي عن واقع اللغة العربية في حد ذاتها في الوطن العربي. ولما كان واقعها دالا على موقع العرب في العصر الحديث وواقعهم، وما يعرفه من تفرقة وتجزئة قابلتين للمزيد من الاصطناع، لا يمكن أبدا إلا أن يظل الحديث حول اللغة هو المهيمن، بدل الانكباب عليها في ذاتها من منظور يؤهلها لاحتلال موقعها الطبيعي ضمن اللغات العالمية.
ومتى ظل هذا الحديث هو المهيمن فالسياسي سيظل متسيدا، بينما يتراجع اللساني إلى الوراء، مكتفيا بالخوض في مسائل لا تتصل باللغة في علاقتها بالحياة في ذاتها.
لا أحد يمكنه تجاهل المجهودات الجبارة التي بذلت في خدمة العربية منذ عصر النهضة إلى الآن، لكن عدم تحويلها إلى واقع عملي أدى إلى استمرار اتهامها بالقصور عن مواءمة العصر. أسست مجامع للعربية في القاهرة ودمشق وبغداد، وفي غيرها. تشكلت مؤسسات عربية ومجالس دولية للتنسيق وتوحيد المجهودات، واستحدثت مجالس عليا في العديد من الأقطار العربية.
قدمت معاجم في مختلف العلوم أحادية وثنائية وثلاثية اللغات. نشرت دراسات عديدة في مختلف الدوريات المختصة والتابعة لإحدى تلك المؤسسات.
ما هي الحصيلة النهائية لكل هذا التاريخ، ولماذا لم يتحول إلى واقع ينهي كل النقاشات التي تبدو وكأننا في مرحلة البحث عن لغة؟ لا ينكر المظهر الإيجابي الذي تعرفه العربية في الواقع، بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل الاستقلالات السياسية إلا جاحد. حصلت تطورات مهمة لكنها ناقصة، وكان من الممكن أن تكون أفضل وأحسن.
للغة العربية خصوصيتها وميزاتها التي تجعلها مختلفة عن كل اللغات المعاصرة. يبدو ذلك في كونها عايشت الكثير من اللغات القديمة المندثرة، قبل الإسلام، وتفاعلت معها تفاعلا إيجابيا كان له أثره في تطورها وغناها المعجمي.
إن للغة العربية خصوصيتها وميزاتها التي تجعلها مختلفة عن كل اللغات المعاصرة. يبدو ذلك في كونها عايشت الكثير من اللغات القديمة المندثرة، قبل الإسلام، وتفاعلت معها تفاعلا إيجابيا كان له أثره في تطورها وغناها المعجمي.
كما أنها إبان ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وما صاحبها من انفتاح على غيرها من لغات الحضارات الهندية والفارسية واليونانية، جعلها بالفعل لغة عالمية، ولغة العلم والفكر والأدب. كما أنها خلال الاستعمار أبانت عن التفاعل نفسه، فاغتنى رصيدها، وبرهنت على قدرتها على استيعاب اللغات الأخرى، وإدماج ما يتناسب معها ضمن بنيتها الخاصة. وتبدو تلك الخصوصية أيضا في أنها كانت ذات تأثير على غيرها من اللغات الشرقية والغربية.
ويكفي أن ننظر في معاجم الكثير من اللغات المعاصرة لنجد الكثير من مفرداتها ذات أصول عربية، وهو ما لم يتأت للكثير من اللغات العالمية. إن اللغة العربية كما كانت قديما محل انفتاح وتفاعل مع غيرها من اللغات تبرز اليوم بأنها أقدر على الاضطلاع بالدور نفسه، مؤكدة بذلك استمرارها لغة حية، ومتجددة دائما. لكن أين يوجد المشكل الجوهري المتصل باللغة العربية؟
أعتبر العربية اللغة الواحدة المتفرقة. إنها واحدة في طبيعتها ووظيفتها. وهي تجمع بين كل الناطقين بها أو ممارسيها أيا كانت جنسياتهم وأصولهم، لكن مجهودات الباحثين فيها والمخططين لحالها ومآلها متفرقة، ولذلك لا يمكن أن يكون لها الموقع الذي يليق بها في العصر الحديث، علاوة على مشاكل أخرى تتصل بالتجاذب والتصارع على السلطة اللغوية.
كل اللغات المعاصرة التي تحتل مكانة خاصة في زمننا هذا لها وطن مركزي يخطط لواقعها ومستقبلها، ويراها تجسيدا لهويته الثقافية، ومصدرا لهيمنته الاقتصادية والسياسية، إلا اللغة العربية التي نجدها متفرقة بين الشعوب والدول العربية، وبسبب تفرق العرب نجد ذلك ينعكس عليها.
عندما تأسست الأكاديمية الفرنسية، على سبيل المثال، في بدايات القرن السابع عشر (1635) كان من أهدافها الرئيسية العمل على ضبط قواعد اللغة الفرنسية بكيفية دقيقة، بالصورة التي تجعلها صافية، وفصيحة، وقادرة على أن تمارس في مجالات الإبداع الفني والعلمي. ومنذ ذلك الحين إلى الآن وأعمال الأكاديمية تتضافر مع المجهودات المبذولة لتطوير الفرنسية من لدن المؤسسات البحثية الجامعية، والتعليمية والتربوية والإعلامية.
في العالم العربي نجد واقع العربية سواء على المستوى التعليمي، أو تطوير المشاريع متفرقا ومشتتا، ورغم كل ما يقال عن توحيد الجهود، نجد أنفسنا أمام سياسات تعليمية وتعلمية مختلفة. إذا كان البحث الأكاديمي العربي ما يزال يفرق بين النحو واللسانيات، ويدعو لهيمنة أحدهما على حساب الآخر، فإن اللغة الواحدة ستظل تفرقنا على مستوى البحث فأحرى بالسياسة.