صراع الأضداد والحضارة المستلبة
بوصلة الواقع تشير إلى إنسان حضارة مستلبة واقع في أسر التجاذبات المتفاعلة في صراع الأضداد المتنافرة، كالقوة مع الضعف، والعنف مع اللاعنف.
هذا الصراع المتفرع من شبكة معقدة توزعت خيوطها بين الأديان والمذاهب والمتبنيات الفكرية والإيديولوجية، وبسرعة مكنتها من النفاذ إلى الوعي الجمعي، بحيث صار للخريطة الإنسانية متسع من الأسئلة المشروعة، لكن في نفس الوقت، وأمام تسارع وتيرة التنافر؛ ضاقت فرص الإجابة.
وحتى نصل، أو بتعبير أدق نحاول أن نصل إلى إجابةـ وقد نكتفي لاحقاً بشرف المحاولة، هل استطعنا من مصارحة مجتمعاتنا ومن قبلها ذواتنا بحقيقة الأضداد والتنافر بينها وهي تتصارع في زمننا المعقد هذا؟ وإلى متى نبقى ندعي معرفة هذه الحقيقة من دون التفكير الجدي بالتحرك لمناقشة هذه المعرفة المخدرة؟
والخدر الذي نقصده هنا يكمن في ممكنات العنف المنتشرة كالنار السوداء في هشيم الحضارة التي لم يحدد إنسانُها وجهته أو خياره، فلا هو عنفي ولا هو لاعنفي، ولا يريد الاعتراف بضعفه، ولا يريد أن يقول أنه قوي الإرادة في مواجهة أزمته القيمية، مُوَطِّناً نفسه على المعنى الدارج (خليها تجي من الغير أفضل من ما تجي مني)!
وهكذا، صار الإنسان المادي ــ من الهشاشة ــ كائناً قابعاً في أنساق لاشعورية، تجعله مستلباً للدرجة القصوى التي يعجز فيها عن إدراك وجوده، من خلال التعطيل الفعلي والكلي للتفكير، معتمداً على فكرة الآخر الأقوى الذي يفكر عنه، بل ويقنعه أن كل خطوة يقدم عليها؛ لابد أن تكون بمعرفته ومشورته وتحت رعايته. وشيئاً فشيئاً تتسرب الذات المستلبة إلى كل المفاصل المجتمعية، وكأنَّ محواً جماعياً منظماً ينتظرها طالما ظلت راكدة على هذا النسق الاستلابي.
ومن الطبيعي في حالة نقاش مسببات استلاب الذات؛ تقف انتهاكات الأنظمة الديكتاتورية المستبدة في مقدمة هذه الأسباب؛ نظراً لأنساقها التي تُغيِّبُ الأفراد قسراً عن أي دور إيجابي يمكن أن يلعبوه للمستقبل المنشود.
فالأنظمة الاستبدادية بشموليتها؛ تعمل على تعطيل مفهوم الحرية في ذهنية الأفراد، وذلك من خلال ترسيخ مفاهيم التسلط والبداوة، بعد أن تقوم بإجراء عمليات طلاء حضاري لها؛ لتشكل بها شيئاً يشبه الوعي السائد، والذي قد تتبرع بتصديره نخب ثقافية يمكن أن تطرح رؤاها للبيع والسمسرة في سوق المبادىء المحترقة.
ومن البديهي القول أن استبداد الأنظمة سيؤدي إلى فساد سياسي، وشيوع نظام مجتمعي لا أخلاقي، وقد يتم الانتباه لذلك لكن بعد فوات الأوان، فيكون مصير الحضارة المستلبة إلى زوال.
وحالة الاستلاب التي يسقط فيها الفرد؛ تمر عبر طرق عدة، تتعبد بأدوات الإيديلوجيا والمشاريع الاستبدادية، وقد تكون تحت رعاية واشراف السلطات المستبدة التي تريد إدامة تسلطها بتجفيف منابع مياه الوعي، وإعطاء الضوء الأخضر لمكونات الاستلاب الثقافي والفكري في العمل على سلب الأفراد خصوصياتهم، والاستلاب يبدأ من القاعدة (المجتمع) صعوداً إلى القمة (السلطة) تتشابك فيه المكونات عرقياً ومذهبياً.
وأكثر الأشياء السلبية التي ستنتج أو تتوالد من هذه الظاهرة؛ هي ظاهرة التابعية الثقافية التي تظهر بعض الحالات غير المنسجمة مع التقاليد المجتمعية على أنها مظهر من مظاهر التمدن والتحضرمستغلة هيمنة الميديا ومكوناتها الاتصالية المباشرة، من خلال برامج ومقاطع فيديو لاقيمة معرفية لها ويتم الانبهار بقشريتها وبعناوينها البراقة كالقرية الصغيرة والتداخل الحضاري. ومثل هذه الظاهرة الخطيرة تنبىء بتفكك مجتمعي يبدأ من الأسرة كقاعدة وصولاً لقمة المجتمع.
- غموض المصير
والخوف من غموض المصير، وهاجس الزوال بات يؤرق المجتمعات الغربية، وقلق الغرب صار من هذه الناحية؛ صار يتفاقم بشكل سريع، بعد التوهم بأنَّ تطور التكنلوجيا، وصراع النظريات، سيسهمان في تقدم ورقي الوجود البشري، وكالعادة، العكس هو الذي حصل..
فارتفعت الأصوات؛ لإدراكها أن الاحتياج الأكبر للإنسانية، لا يمكن أن تملأ التكنلوجيا مساحته الشاغرة والمتسعة مع التقادم الزمني؛ لثبوت قصورها وعدم فاعليتها في معرفة حقيقة الإنسان، واحتياجاته الرئيسة، وأهمها الشعور بقيمته الحقيقية، ودوره في هذا الكون الواسع، فضلاً عن الجانب الأهم وهو الجانب الأخلاقي.
ويقود الاعتراف بالمستقبل الغامض للعقلية المادية إلى الدفع باتجاه البحث الجدي؛ للحصول على نمط آخر من التفكير، يمكن له أن يصحح أخطاء المراحل السابقة، وبهذا التصحيح يمكن تفادي السقوط النهائي. والحضارة الغربية تبدو عارية بحاجة لقميص يسترها، غير أنها لم تعرف ما هو هذا القميص الساتر، أو عرفته لكنها أنكرت حاجتها إليه بمكابرة لا فائدة منها.
وقد عبر العالم الألماني (أريك فرام) حول الزمن الذي تتفوق فيه الفكرة المادية، وغروب الأخلاق، وحذر من الاضطراب الفكري الذي سيسود، وسيجعل الحضارة مبنية على المتناقضات، فخلص إلى القول: “العالم الغربي في طريق مسدود، لقد حصل على الكثير من الأمور الاقتصادية، وفقد أي معنى وهدف في الحياة، المجتمع الغربي مثل أي مجتمع آخر في الماضي، لابد من أن يفقد حيويته وقوته الداخلية “.