كتاب: التقاليد الشفهية (ذاكرة وثقافة) – لويس – جان كالفى / PDF
في كتابة “التقاليد الشفهية.. ذاكرةً وثقافةً” لا يرى الباحث الفرنسي لويس جان – كالفي في عدم معرفة القراءة والكتابة سببا كافيا لرمي الثقافات الشفوية بالجهل وبالتخلف، بالقياس إلى المجتمعات الحديثة التي يتجاور فيها الشفوي مع المكتوب.
كما يرى الباحث في كتابه الذي نقله إلى العربية المترجم المغربي الدكتور رشيد برهون، أن تلك المجتمعات أيضا قد طوّرت أدوات خاصة بها لحفظ الذاكرة الجمعية وانتقالها بي الأجيال المتعاقبة، بما حافظ على الخصوصية الثقافية لهذه المجتمعات حتى الوقت الراهن.
وجاء تصنيف هذا الكتاب، الصادر مؤخرا عن مشروع كلمة للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ويقع في مائة وثمانين صفحة من القطع المتوسط، ضمن سلسلة اللغات، لكن مشاغل المؤلف في بحثه هذا أوسع من ذلك بكثير من الحقل اللغوي أو السيميائي،
إذ بهذا المعنى، لا مفاضلة لدى لويس جان – كالفي بين الشفوي والمكتوب والتقاليد اللغوية وغير اللغوية التي انبثقت عنهما، والممارسات التي ارتبطت بهما، بل يمكن اعتبار الكتاب نوعا من الانتصار المعرفي – الثقافي لهذه التقاليد.
ويناقش الباحث تعدد الروايات المنقولة عبر الألسن إلى الصدور، على نحو ما كانت تقول العرب قديما عن حُفّاظ المرويات، فيرى أن تشابه هذه الروايات وحتى التناقض في ما بينها هو، بعبارته، “المبدأ المؤسِس لها” وأن التقليل من شأن طبيعة هذه الروايات قد جاء إلى البحث العلمي من الثقافات المكتوبة عبر الباحثين الذين تخصصوا في الرواية الشفوية بوصفها وثيقة،
ونظروا إليها بمعزل عن التقاليد الشفوية التي انبثقت منها مثلما جاءت من التعالي على هذه المجتمعات ثقافيا، وربما كان يقصد بذلك ما يُعرف بالنزعة المركزية الأوروبية.
يدرس لويس جان – كالفي في “التقاليد الشفوية” مرويات تناقلتها رواة من أبناء قبائل المانديكا والبامبارا وسواهما في مالي الحديثة، حيث كان قد نشأ خط للكتابة في مناطق هذه القبائل لكن انتشار الثقافة العربية والإسلامية في أوساطها واختلاطها بعناصر من الثقافية المحلية جعل هذا الخط الكتابي ينحسر لصالح خط كتابي آخر هو اللغة العربية التي كانت واسعة الانتشار آنئذٍ.
والباحث هنا لا يعمد إلى المقارنة بين النصوص التي يختلط الواقعي فيها بالأسطوري أو الخرافي أو العجائبي إنما يدرس بنية النص الشفوي أدبيا ونظاما صوتيا وأنثروبولوجيا، بوصفه الحاضنة التي نقلت موقف هذه القبائل من العالم ومن المعرفة وأثر ذلك في تشكُّل المجتمعات وتنظيمها وسلوك الأفراد اليومي فيها بحسب موقع كل فرد من النظام الاجتماعي.
ومن بين ما يخلص إليه الباحث في كتابه أن “الأدب الشفهي يشكل طريقة خاصة للتعامل مع التراث الثقافي الخاص بالتقاليد الشفهية التي تهمّ المجتمع برمته. ومن ثَمَّ، فإن التقاليد الشفهية تشمل الأدب الشفهي لكنها لا تنحصر في حدوده.
وعلى العكس من ذلك، فإن اللغة التي توحِّدُ بين هذين المفهومين تمثل ميدانا ما زال في حاجة إلى المزيد من الدراسة وتعميق النظر، ذلك أن الخصائص الشكلية للأسلوب الشفهي لربما تضفي على اللغة طابعا معينا، فعندما نستمع إلى ملحمة شفهية بلغة أفريقية مثلا،
نقول لأنفسنا إنه بالإمكان ترجمتها إلى الفرنسية أو الإنجليزية، لكن يصعب سردها شفهيا في هذه اللغات مع الاحتفاظ بأبعادها الإيقاعية والصوتية”.