تاريخ

رؤية توينبي لتاريخ لبنان

شدد المؤرِخ “أرنولد توينبي” في كِتابه المهم “التاريخ” على انحياز مؤرِخ الحضارات للإنسان المُبدع والجماعة الخلاقة والقادرة على التجدد والاستجابة للتحدي. كما رَسَمَ قواعد المنهج العلمي لكتابة التاريخ الحضاري؛ فالتاريخ السياسي أو العسكري الذي يُبرِز وقائع تتراوح بين الانتصار والهزيمة هو تاريخ حوادثي يتبدل وفق أهواء المؤرِخين،

في حين يُبنى التاريخ الحضاري على إنجازات علمية وثقافية وفنية لجماعات بشرية في أماكن محدَدة، تدخل في تراث شعوب تبحث عن الاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.

دَرَسَ توينبي 21 حضارة، وأشار إلى وجود حضارات أخرى لم تُدرس، وحضارات مُندثرة. وأَثبت أن الحضارات الأولى كانت من صنْعِ جماعة قومية واحدة، أو دين واحد، أو نَشأت وتطوَرت في مدينة واحدة. وقدم أثينا أنموذجا لمدينة حضارية متميزة، والحضارة الفينيقية أنموذجا لجماعة صغيرة، لكنها نشيطة وتَركتْ إنجازات حضارية مهمة.

كان التفاعُل الحضاري محدودا جدا في العصور القديمة نظرا إلى بُعد المسافات، وضُعف وسائل التواصل التي كانت تقتصر على التبادُل التجاري، وتستند إلى مروياتِ قلة من الرحالة، وترجمات غالبا ما كانت غير دقيقة.

في حين برز تفاعُلٌ حضاري كبير في العصور الوسطى، حيث بُنيتِ المَعرفة الإمبيريقية على تاريخ الملوك، ومذكرات القادة العسكريين، وتوصيف عادات القوى المُنتصرة والمهزومة وتقاليدها. واستفاضت الكتابة التاريخية في تدوينِ أخبار الحروب ونزاعات الطوائف الدينية وتوصيف السلع التجارية وعادات الشعوب وتقاليدها.

  • الحضارات تتفاعل ولا تتصارع

في التاريخ الحديث والمُعاصر بَرَزَ مؤرخون مُختصون في عِلم الحضارات وركزوا على التفاعُل الإيجابي في ما بينها، والاستفادة من الثورات العِلمية لتحديد الأعمار الدقيقة للمنجزات الحضارية ودَور وسائل التواصل والإعلام في تعميم المعرفة وتطوُر الصناعات والتكنولوجيا البالغة السرعة؛

وأسهمت البعثات التربوية والثقافية والفنية، والنقل الجوي والبحري والبري، والمنظمات الدولية وتوظيف العلوم العصرية، في الكشف عن الآثار والفنون وغيرها، وفي نشْرِ ثمرات الحضارات القديمة منها والحديثة على نطاق واسع.

أَثبت توينبي أن الحضارات تتفاعل ولا تتصارع، كما يزعم بعض المؤرخين المُعاصرين. وهناك حقائق تاريخية كثيرة تؤكد أن الحضارات لم تكُ يوما مُغلقة على ذاتها، بل هي فاعلة ومُتفاعلة بعضها مع بعض. واستنبطَ مقولة “التحدي والاستجابة” التي تركت أثرا مدويا في ندوات الحوار بين الحضارات.

وتعرض عِلم الحضارات في زمن عولمة القطب الأميركي الأوحد لتشويه كبير عبر نشْرِ مقولات مضادة أبرزها “نهاية التاريخ”، و”صدام الحضارات”، و”الفوضى الخلاقة” ردا على مقولة “التحدي والاستجابة” التي تؤكد على أهمية الحريات الفردية والعامة ودَور الإنسان الحر في الرد على التحدي.

يركِز منهج التاريخ الحضاري على مقاومة الظلم، ورفْض تحكُم رجال السياسة والدين والمال في مصير الإنسان. ويُمجِد القيَم الإنسانية والأخلاقية، ويَعتبر الإنسانَ قيمة بذاته، وقاعدة الحضارة وغايتها السامية.

يُشكِك بصدقية مقولة كمال الحضارة، لأنها تُنذر بتوقفها عن النمو والتفاعُل مع الحضارات الأخرى، فتُصاب بالجمود حين تحمل في طياتها بذورَ ترهُلها؛ فالتحدي الحضاري عملية مستمرة دونما توقف.

ويلعب القادة المتنورون دَورا رياديا في إنجاز المشروعات الحضارية وحمايتها ونشْرها؛ في حين تلعب القياداتُ السياسيةُ الفاسدة دَورا سلبيا في ضرب الاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.

على خلفية هذه الرؤية العلمية لتاريخ الحضارات، خصَ توينبي لبنان بمحاضرة متميزة ألقاها باللغة الفرنسية في دار “الندوة اللبنانية” في بيروت بتاريخ 8 أيار/ مايو 1957 تحت عنوان “لبنان كلمة التاريخ”، كما تَرجمها إلى العربية الشاعر هنري زغيب.

رأى توينبي أن “لبنان”، بالمعنى الجغرافي ليس مجرد مصطلح تاريخي، بل تعبير عن موقع جغرافي. مَعالِمه الطبيعية أَساس ثروته البشرية: البحر، الجبال، الثُلوج، الغابات. وهي مَعالم مادية لا تُدهش سكان الضفة الأخرى من المتوسط، لأنها موجودة في اليونان وإيطاليا والمغرب؛ في حين يرى سكان مصر والعراق، وخصوصا دول الجزيرة العربية، أن لبنان بلدٌ استثنائي عجائبي.

يُشير مُصطلح لبنان إلى تألُق التاريخ في معناه الإنساني، لأنه نِتاج ما بناه مَن سَكَنوه عبر العصور؛ فشكَل تاريخُه الإنساني وحدة اجتماعية وثقافية منذ بدايات الحضارة حتى الآن. واللبنانيون اليوم ليسوا أحفادَ الفينيقيين بالمعنى المباشر، إذ كان الفينيقيون بحارة سُكناهم الجزيرة لا الجبل، كما في صور وصيدا وأرواد وما شابهها من مُدن بحرية.

ولم يضموا الجبل إليهم، إلا في مرحلة لاحقة من التاريخ الفينيقي. على العكس، لبنانيو اليوم أبناء جبال لم ينجحوا قبل 1920، إلا عابرا، في أن يَضموا إلى مساحاتِهم موانىءَ ومُدنا ساحلية. مع أن ما يجمع بين فينيقيي الأمس ولبنانيي اليوم عادات وطاقات مهمة؛ فقد أفادوا من الملجأ الطبيعي – البحر للقدامى والجبل للمُعاصرين – لمُزاوَلة الأعمال التجارية. وأقاموا إمبراطورية اقتصادية في الغرب، وأسَسوا سلالاتِ تجار لدى معظم العالَم الغربي في زمانهم.

فموقع لبنان الطبيعي عنصر أساس في نموه البشري. والخارطة الاصطلاحية مُضلِلة، لأنها تُمثِل لبنانَ صلةَ وصل بين بحر وقارة، بينما الواقع هو أن منطقة لبنان الخلفية ليست قارة، بل بَرزخ. فقبالة البحر المتوسط مدى واسعٌ جافٌ من سهوب أكبر وصحار أوسع، تمتد من بادية الشام وسهوب إيران وآسيا الوسطى حتى الحدود الغربية للهند والصين.

يمتد لبنان على الشاطىء المتوسطي للبرزخ السوري. لكن الضفة المُقابِلة، الضفة الصحراوية، لها أيضا مرافئها؛ فقبالة رأس شمرا وأرواد وبيروت وصيدا وصور وعكا وحيفا، ثمة حلب وحماة وحمص ودمشق وبُصرى، تتقابل فيها موانئ البحر ومرافئ الصحراء في صفَيْن متوازيَيْن يُدير كلٌ منها ظهرَه للآخر.

والنشاط الاقتصادي اللبناني اليوم يَفيض عن البرزخ السوري في الاتجاهَين: لا نحو الغرب فقط، بل نحو الشرق أيضا. وواضحة شساعة الإمبراطورية اللبنانية بامتدادها نحو الغرب.

فحيثما شعَت الحضارةُ الغربية، انتشر التجار اللبنانيون: في مصر وأوروبا الغربية وأفريقيا الغربية والأميركيتَيْن وأُستراليا. ومنذ نشوء المنطقة النفطية حديثا في العراق وفي الجهة العربية من الخليج الفارسي، نرى رجال الأعمال اللبنانيين وقد وسعوا امتدادَهم شرقا إلى جميع الدول العربية.

وكان من مصلحة اللبنانيين في مُنافستهم الغربَ لدى الدول العربية النفطية أنهم يتكلمون اللغةَ ذاتها مع زبائنهم العرب في الشرق، ويعرفون تقاليد جيرانهم العرب، وجيرانهم العرب لا يخشونهم. ويغنم لبنان من كونه ليس قوة عسكرية عظمى، ما يُمكِنه من أن يكون قوة اقتصادية كبرى.

إمبراطورية لبنان الاقتصادية المزدوجة ظاهرة استثنائية. ففي معظم حقب التاريخ امتدت التجارة اللبنانية غربا حتى مضيق جبل طارق، وبلغَت ضفاف المحيط الأطلسي، فيما إمبراطورية المدى الجاف في السهوب بقيت في أيدي سكان منطقة البرزخ السوري الصحراوية.

بعد الحرب العالَمية الأولى، انقسم العالَمُ العربي الآسيوي منطقتَيْن بين إنكلترا وفرنسا، وأمسى فسيفساءَ أراض صغيرة معزولة واحدتها عن الأخرى بحدود اصطلاحية. ومع زوال السيطرة البريطانية والفرنسية على الدول العربية الآسيوية بعد الحرب العالَمية الثانية، فُتِحَ للبنان أُفقٌ واسعٌ على المستوى الدولي.

ويخلص توينبي إلى القول: “لا يعيش لبنان إذا استمر في حالة عدائية دائمة مع جيرانه شرقا. وعلى الدبلوماسية اللبنانية بذْل نشاط كبير في إقامة علاقات صداقة مع دول عربية بعيدة. وعلى لبنان أن يبذل جهدا فائقا ليمنع انقسامَ العالَم العربي ولدفْع الحكومة الأميركية إلى تعديلِ مَوقفها من القضية الفلسطينية.

وهذه، في رأيي، مهمة قصوى للدبلوماسية اللبنانية، على نجاحها أو فشلها، يقف مصيرُ لبنان بين الموت والحياة”.

ختاما، لا بد من استخلاص الدروس المُستفادة من التراث الروحي والأخلاقي والإبداعي في لبنان لبناء دولة ديموقراطية عادلة وقادرة على مُواجَهة التحديات المصيرية. ومن أولى واجبات اللبنانيين حماية وطنهم من الضياع، وتراثهم الحضاري من الاندثار، ودَورهم الإقليمي المتميز الذي أشاد به مؤرِخ الحضارات أرنولد توينبي.

مؤسسة الفكر العربي

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى