الدراسات الثقافية

ثقافتان أم ثلاث ثقافات ؟

يَطرح السؤال الثقافي على الإنسان العربي المعاصر عدة قضايا وإشكالات لا نراه يتصدى لها بالجدية المطلوبة، والصرامة اللازمة بقصد بلورة التصورات الملائمة لتأسيس واقع ثقافي متحول ومتجدد.

فالمثقف العربي إزاء أعوص القضايا الثقافية هو إما منخرط في معالجتها برؤى جاهزة بدون إعمال النظر المنهجي؛ وإما منعزل عنها، وإذا ما تناولها فلا يعدو ذلك المجالس الخاصة. وينتج عن هذا الوضع السلبي المزدوج غياب التفكير العميق في كبريات القضايا التي تهم الإنسان العربي في معاده ومعاشه، أو كماله الإنساني.

وينعدم بسبب ذلك أي حوار أو نقاش بين المهتمين بالشأن الثقافي العربي في مختلف جوانبه المتصلة بالعربي مما يسهم في التطوير والإغناء.

حين يُخلي المثقفون الساحة يملؤها السياسي والإعلامي، فتجد الأول يخطط لمصير ثقافة الأمة ووجودها لغايات ومقاصد إيديولوجية معينة، ويعمل الثاني على الترويج لها مخبرا أو معلقا؛ فيضيع التفكير وينعدم النقاش، وكلما حدثت تطورات في الصيرورة، نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة.

بعد الحرب الثانية، عرف الواقع الثقافي في العوالم المتقدمة نقاشات عميقة حول العلوم والثقافات والاختصاصات بين المشتغلين بالعلوم والثقافة، وفرضوا بذلك وجودهم، وظهرت نتائج أعمالهم التي لقيت تجاوبا من لدن صناع القرار، فصاروا يلتفتون إليهم ويهتمون بمنجزاتهم، ويعودون إليهم في كل شيء، سواء تعلقت بأوطانهم أو خارجها، بل أن مدبري الشأن العام العربي، صاروا بدورهم يلجأون إليهم كخبراء في ما يهم قضاياهم المحلية،

وكأن البلاد العربية لا تنتج خبراء أو علماء؟ لذلك لا غرو أن نجد السياسيين عندنا، لأنهم لا يهتمون بإصلاح شؤون بلدانهم، يتعاملون مع الثقافة والمثقفين تعاملا يخلو من أي تواصل، ويعتبرون كل ما يتصل بالثقافة شيئا لا قيمة له.

وحين يعلنون انحيازهم إلى «الثقافة العلمية» ضد «الثقافة الأدبية» يختزلون ذلك في كونها تسهم في «محاربة أزمة البطالة»، بينما العكس هو ما نجده في البلدان المتقدمة.

حين أصدر س. ب. سنوو، محاضرته «الثقافتان» في كتاب سنة 1959، مميزا بين «الطبيعيات» و»الاجتماعيات»، مقصيا «الإنسانيات»، أثار ذلك نقاشا واسعا حول هذا التمييز، وتصدى له الباحثون في الإنسانيات والأدب، مبرزين تهافت تصوره.

وحين أعاد نشره سنة 1963، حاول تفهم معارضيه، مبرزا أنه كان يتحدث عن البعد العلمي الذي تتميز به الثقافتان اللتان ركز عليهما، بالقياس إلى الإنسانيات. واعتمد بناء على ذلك تمييزا جديدا يميز فيه بين ثقافتين اثنتين هما «الثقافة العلمية»، من جهة، والثقافة الأدبية» من جهة ثانية، مبينا أهمية كل منهما في الحياة، طبع الكتاب عدة طبعات، آخرها سنة 2000.

لكن النقاش لم يخفت مع الزمان. وظلت تظهر بين الفينة والأخرى دراسات تناقش هذا الكتاب، لاجئة إلى التمييز بين الثقافتين العلمية والأدبية، أو الثقافات الثلاث: الطبيعيات والاجتماعيات والإنسانيات. سنتوقف على ثلاثة كتب، من بين كتابات كثيرة، تميز بين الثقافتين أو الثقافات الثلاث.

في سنة 2006، أشرف كيم وليام على كتاب «الثقافتان: تكريما لديفيد سبايسر» شارك فيه حوالي 19 باحثا من جامعات عالمية، حاولوا فيه إعادة النظر في كتاب سنوو في ضوء العصر المعرفي الذي نعيش فيه، والذي صار يتميز بتعدد الاختصاصات، مبرزين أنه لا يمكن أن نتحدث عن علم بدون الحديث عن تاريخه، بل أن أي اختصاص لا يمكننا الاشتغال به بغض النظر عن اختصاصات أخرى.

وكان التمييز بين الثقافتين: العلم والفن أساسيا في التصور العام الذي يحكم الكتاب الذي جاء ليؤصل العلاقات بين الثقافتين من منظور تكاملي، ومبني على نقاشات إبستيمولوجية ومعرفية متعددة الأبعاد والجوانب.

كان الهاجس نفسه وراء إقدام إرنيستو كارافولي على الإشراف على كتاب «الثقافتان: مشاكل مشتركة» سنة 2009 الذي ساهم فيه 17 باحثا من عدة بلدان متقدمة، ليصب في الاتجاه نفسه، عبر تأكيد أن الثقافتين العلمية والثقافية يحملان قواسم مشتركة كثيرة، رغم اختلاف كل منهما عن الأخرى، وأنه لا يمكن بحال التمييز بين «الحقيقة» و»الجمال» اللذين تشتغل بهما هاتان الثقافتان.

في السنة نفسها (2009) صدر كتاب جيروم كيغان «الثقافات الثلاث: العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، مراجعة سنوو». ولقد تَرجم هذا الكتاب إلى العربية، لحسن الحظ، صديق محمد جوهر، وصدر ضمن سلسلة «عالم المعرفة» (الكويت)، في يناير 2014، تحت رقم 208.

بين كيغان الأسباب التي كانت وراء تمييز سنوو الثنائي، ودافع على ضرورة اعتبار الإنسانيات ثقافة لا تقل أهمية عن الطبيعيات والاجتماعيات. كما أنه عمل على رصد خصوصيات كل ثقافة والمقارنة بينها، من خلال ثمانية معايير تبين ميزة كل ثقافة على حدة، مدافعا على ضرورة عدم المفاضلة بين الثقافات الثلاث لأن لكل منها أدوارها ووظائفها في المجتمعات، ولا يمكن استغناء أي منها عن الأخرى، منتقدا التصورات التي تعنى بتفضيل بعضها على الآخر.

إن النقاش العلمي الذي يمكن أن يشارك فيه الباحثون من مختلف الاختصاصات حول «الثقافة»، عربيا، غائب ومغيب. وللسياسي أن يفاضل بين «ثقافتين»، فلن يكرس سوى التخلف الثقافي؟ وتلك معضلة السياسة الثقافية العربية.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى