العفريتة
ليست فصيلة من الحيوانات، أو بذرة نبات، وليست من أسماء الجن، بل لعبة مارسها جميع الشعب السوري منذ طفولته. تعتمد اللعبة على رسم خطوط بالطبشور، أو أي نوع حجارة يصدر لونًا إن احتك بحجر مثله، خطوط متوازية يتم إغلاقها من الأطراف لتحصل على شكل مربعات، وداخل كل مربع رقم يبدأ من الواحد،
وينتهي بالعشرة، يمسك اللاعب حجرة بيده ويرميها على إحدى المربعات، ثم يرفع قدم ويقفز بقدم واحدة ليصل إلى المربع الذي وقع عليه الحجر، ليعود إلى نقطة البداية ويعلن انتصاره في حال لم يسقط.
لعبت عائلة سورية بتلك اللعبة بطرق مختلفة. العائلة من أصول بحرية، وتعمل في جمعِ الصدَف من شط البحر، وتحويله إلى سلاسل وتذكارات ترصف على بسطة من قماش أمام ميناء العبور والعودة إلى جزيرة أرواد، منتجاتهم اليدوية كانت تجذب السياح فيكسبون من بيعها قوت عيشهم.
لقد تم تهجيرهم من منزل جدهم بعد مماته، فتكاثرت الشدائد فوق رأس تلك العائلة. والدهم سلم عمره قبل الجميع، ولم يبق لهم سند، أو بيت. بدأت العفريتة تلعب بهم، وكان الشقاء طريقهم منذ أن علموا بأن جدهم احتفظ بجرةٍ ممتلئة بالذهب في دار منزله أوصى بها ابنه الأكبر، الذي طمع وأرسل أبناء أخيه إلى الشارع ليحظى وحده بما ورثه.
عمل الأخوة الثلاثة في الميناء في ترميم السفن الكبيرة. كانت أعمالًا شاقة تفوق أجسادهم النحيلة، وأعمارهم الصغيرة، لكن الحاجة إلى الطعام كانت تقودهم إلى البحر دائمًا.
لعبة العفريتة بدأت مسارها عندما طُلب أخاهم الكبير إلى خدمة الجيش. وهنا فقدوا عمودهم الأساس الذي اعتمدوا عليه بعد فقدانهم والدهم. وعلى الرغم من أن الوضع الصحي لجسد أخيهم الكبير لا يسمح له وفق الشروط الأساسية بالخدمة العسكرية، كون إحدى فقرات عموده الفقري تضررت أثناء عمله في تحميل ونقل البضائع الثقيلة الوزن في الميناء، تم إلحاقه في صفوف الجيش مع بداية عام 2011 برتبة احتياط.
لم يكتفوا به، بل طلبوا أخاه الأوسط الذي حاول الهروب من الجيش ثلاث مرات، وفي كل مرة كانوا يمسكون به ويردونه إلى قطعته. وبعد فشل محاولات أخوته في العودة إلى حياتهم المدنية، قرر أخوهم الأصغر الهروب إلى خارج البلاد كي لا تتكرر مأساة إخوته معه.
نجح في الوصول إلى لبنان هربًا عن طريق البر عبر الجبال، ثم وصل عن طريق البحر إلى مصر، ضمن باخرة تنقل المواشي. عاش مع المواشي يأكل من أكلها، ويشرب من مشربها، قرابة أسبوع، من دون أن ينتبه إليه أحد سوى العامل الذي اتفق معه أثناء صعوده على متن الباخرة، مقابل مبلغ من المال. ومن مصر انتقل إلى تركيا، وهناك نزل إلى البر، ونام في الشوارع، ومداخل الأبنية، وتحت الجسور، وعند منارة الساحل.
بحث عن عمل ونجح في الحصول على وظيفة طباخ في البداية، وظل ينام في الشارع لعدم اطمئنان صاحب المطعم إليه، كونه سوري الجنسية، فقد خاف أن يسرقه، أو يقتله. حصل على عمل آخر في ورشة خياطة في قبو بناء، يعمل ويأكل وينام في داخلها، ويمنع عليه التعاطي مع أحد، أو التجول خارج المكان.
تواصل الابن الأصغر مع أخوته، وأشار عليهم بطريقة للهروب مثلما فعل. قرروا بأن يجتمعوا جميعًا في هولندا، حيث يتواجد عمهم المغترب، بعد أن تمكن الابن الأصغر من الوصول إلى حسابه في فيسبوك، ومراسلته لفترة طويلة متقطعة، على أمل كسبِ تعاطفه ومساعدته، بعد أن أخبره بتفاصيل تشتتهم وعذابهم خلال مراحل طفولتهم وشبابهم، الذي ضاع على الطرقات، وبين ممرات الهروب، وقوارب اللجوء.
نجحت العائلة السورية في لعبة العفريتة عندما سدد ابنهم الصغير الحجرة إلى رقم عشرة، حيث ظل يقفز بقدم واحدة حتى وصل من دون أن يسقط، وانتظر جميع أفراد عائلته بأن ينجحوا بتسديد الحجرة والوصول إلى الرقم ذاته، ولكن كانت شروط النجاح في هذه المرة مختلفة، وهي الوصول من دون عودة.