الممارسات الجنسية المقدّسة في العالم القديم
إن الحب، في حقيقة الأمر، هو ذلك الميل المشتعل للاتحاد والاقتران بالآخر، وهو ليس وقفاً على الإنسان وإنّما على كل عناصر الطبيعة، ذلك أن أي اتحاد كيميائي يتوجب عادة أن يمدّ المواد الداخلة في التفاعل بشكل ما من أشكال الطاقة.
لغوياً كلمة “حبّ” تعبر عن طاقة قوية فهي تعني الاتقاد، الاشتعال، الاضطرام… ومن هنا كان دائماً وأبداً اقتران الحب بالنار.
تلك الطاقة المحركة (الحب أو الرغبة…) سميت إيروس وسرعان ما مثلت في الإله إيروس المرافق لأفروديت والذي يصيب بسهام الحب قلوب البشر والآلهة على السواء.
يتميز الإنسان عن نظيره الحيوان في ترجمة عقله لتلك الطاقة في لغة مخزونة في الذاكرة بكل ما تحمله من صور وأحاسيس وأفعال ومواقف و حركات وكلمات … بينما يقابلها عند الحيوان مثلاً الغريزة أو بما يعرف بالوهم (مجموعة الأحاسيس المكدسة والمقترنة بما تنتجه من لذة وألم فقط).
بالتالي فإن فعل الجنس لدى الإنسان عادة هو ترجمة لتلك الطاقة التي تلهب القلوب وتحرضها على الاقتران الروحي والجسدي.
منذ البدء قدست هذه الطاقة واعتبرت المسبب الرئيسي لتكوين الخليقة، كذلك اعتبر الفعل الجنسي هو تجسيد لتلك الطاقة وقدرتها على الخلق، فكانت ممارستها ليست هي تعبير فقط عن لذة غريزية وإنما هي طقس ديني في غاية القدسية حددت معالمه بشكل واضح في كل أديان الأرض.
في الفعل الجنسي، يتجاوز الإنسان شرطه الزماني والمكاني ليدخل في السرمدية فينطلق من ذاته المعزولة ليتحد بقوة كونية تسري في الوجود الحي. لقد كان طقساً يربط الإنسان المتناهي بالملكوت اللامتناهي، عبادة يكرر فيها الفرد على المستوى الأصغر ما قامت به القدرة الخالقة على المستوى الأكبر.
وكما يقول المؤرخ الفينيقي سينخونياتن: “في البدء وقعت الريح في حب مبادئها فكانت كتلة المادة الأولى”. ذلك الحب الذي به أنجبت عشتار ابنها تموز واتحدت به وبقي نشاطها الجنسي الدائم يولد الحب أو الطاقة التي لا غنى عنها لاستمرار شتى أنواع الحياة وتكاثرها.
يمكننا أن نميز ثلاثة أشكال للممارسات الجنسية للإنسان القديم كطقوس تلبية نداء الطاقة العشتارية:
الممارسة الجنسية ضمن منظومة أسرية
الممارسة الجنسية الجماعية
البغاء المقدس.
إضافة إلى أشكال أخرى من الممارسات الجنسية الجماعية أو الزوجية كالمعاشرة و البغاء اللتين لطالما انتشرا في كل المجتمعات البشرية ولا يزالان، كذلك الممارسات الجنسية التي اعتبرت شاذة كاللواطة والسحاقية والسادية وغيرها.
والتي هي الأخرى لطالما انتشرت ولا تزال في كل المجتمعات البشرية كممارسات دنيوية؛ بعض الثقافات والحضارات البشرية اعتبرت مثل هذه الممارسات من معاشرة و بغاء وشذوذ ممارسات دنيئة تذهب بالأخلاق العامة فسعوا جاهدين متأثرين بالمفاهيم الأخلاقية الدينية للحد منها كما في المسيحية والإسلام.
في حين لم تعتبرها ثقافات أخرى لا بالمدنسة ولا بالقذرة بل على العكس اعتبرتها ممارسات دنيوية إنسانية طبيعية كما في الثقافتين اليونانية والرومانية وغيرهما[1]…
إن الناس اليوم الذين ربوا وتبرمجوا على “أخلاقيات” الأديان الذكورية المعاصرة قد يجدون الأوضاع والممارسات الجنسية القديمة (خاصة في شكليها الجماعي والبغاء المقدس) صادمة ودنسه ورذيلة.
إلا أننا لا بدّ أن نعتبر مثل هذه الأشكال طبيعية نتيجة سطوة الإيديولوجيا الدينية القديمة على أخلاقيات وسلوكيات تلك المجتمعات كما هي سطوة الإيديولوجيات الحديثة على أخلاقيات مجتمعاتنا الراهنة.
كذلك فإن أمثال هذه المحاكمات أو ردود الأفعال على الممارسات الجنسية القديمة هي نتيجة تعاليم وشروط الأوضاع الدينية الراهنة في مجتمعاتنا وليست نتيجة لمنطق العقل…
- الممارسة الجنسية الزوجية (ضمن المنظومة الأسرية):
كانت الثقافة الأمومية في العصور الحجرية لا تفرض ترجمة الممارسة الجنسية بين اثنين ضمن منظومة أسرية، وإنما اعتبرت رفداً لقوى الخصوبة الكونية المنبثة في الحياة، إضافة لكونها إرضاء للنوازع الفردية الجنسية.
الدراسات الأثنولوجية[2] للشعوب البدائية اليوم تقدم أنموذجاً عن الممارسات الجنسية في العالم القديم البدائي، فعلى سبيل المثال يمضي الرجل وامرأته، في بعض مناطق جزيرة جاوا، إلى حقول الأرزّ عند ابتداء نضج المحصول فيمارسان الجنس في العراء للإسراع في نمو النباتات وزيادة المحصول[3].
مثل هذه الممارسات كانت قائمة إلى عهد قريب في أوروبا القرن 19: ففي يوم القديس سان جورج كان أهل أوكرانيا يأتون بالأزواج الجدد، ويخرجون بهم إلى الحقول حيث يدحرجونهم عليها لشحنها بطاقاتهم الجنسية الإخصابية التي ما زالت في أوجها.
عندما بلغ الإنسان مرتبة عالية من النمو والتطور إبّان ثورته الزراعية، بدأ يخلق عادات متميزة كانت نتيجة طبيعية لاستقراره و نشوء العلاقات الاجتماعية الريفية ومن ثم المدنية الأكثر تعقيداً، شيئاً فشيئاً تربّع الذكر على عرش سلطة تلك المجتمعات الوليدة ونظم علاقاته الاجتماعية مع الجنس الآخر في عدة نماذج أهمها الزواج،
الذي اعتبر الأساس الطبيعي للمجتمع وهو مفروض من الآلهة، وقد اختلف بالطبع باختلاف العهود والمناطق والثقافات لكنه حافظ على قدسية دينية متميزة عبر التاريخ ولدى كل الشعوب، ولم تستطع سوى مجتمعات محدودة التخلص من السلطة الدينية عليه وتتحول إلى الزواج المدني.
حددت شريعة حمورابي (النصف الأول من القرن الثامن عشر ق.م) مواداً قانونية تعالج شؤون الأسرة: المواد من 129 إلى 136 عالجت بالتفصيل أمور وأسباب الطلاق خاصة الجنسية منها، و نصت المواد من 153 إلى 158 العلاقات الجنسية المحرمة من القربى[4] .
كذلك فقد اعتبرت المسيحية الزواج رابطاّ إلهياّ غير قابل للتفرقة، والفعل الجنسي فيه هو أحد أهم أسسه. من جانب آخر اعتبر الإسلام الزواج عقداً دينياً وليس رباطاً إلهياً، وليس في القرآن الكريم ما يشير إلى دنس أو نجاسة في الجنس أو المرأة[5]، لا بل إن الأحاديث النبوية ركزت على ضرورة الممارسة الجنسية داخل المنظومة الأسرية على أن لها أجر عند الله[6].
[1] : تستحضرني ذاكرتي هنا عن رسم في إحدى مقابر تركوينيا الأتروسكية (حضارة إيطالية انتشرت في وسط إيطاليا في الفترة ما قبل الرومانية)، والتي تصور لواطة و سادية بين ثلاثة رجال.
[2] : الأثنولوجيا: (علم الأقوام ومميزاتها الثقافية): تتكون من كلمتين Ethnos أي شعوب و أقوام، وكلمة Logos أي علم. يعتبر هذا العلم أحد فروع علم الانتروبولوجيا الثقافية (علم الاناسة الثقافي) وهو يبحث في الثقافات الحالية لمختلف الأجناس البشرية بما في ذلك الشعوب البدائية، لتساعده على فهم المجتمعات القديمة الأكثر تعقيداً وغموضاً.
Franzer, James. The Golden Bough. p. 157 .[3]
[4] : هورست كلينكل. حمورابي البابلي و عصره. تعريب محمد وحيد خياطة. ص. 220-226.
[5] : لابدّ هنا من الإشارة إلى أن الكتاب المقدس في سفر اللاويين قد اعتبر الجنس فعلاً نجساً والمرأة الحائض هي نجسة وبالتالي فقد حرم لمسها أو الاقتراب من أي مكان تجلس إليه وهي في فترة حيضها (مدة أسبوع).
إضافة إلى أنه اعتبر كل من لمس أو اقترب من امرأة حائض أو مكانها، أن عليه الاغتسال ويبقى دنساً لنهار كامل. مثل هذه الصرامة من الجنس والمرأة لا يمكن أن يفسر إلا بالخطة التوراتية المبرمجة للانتقاص من مكانة المرأة الاجتماعية ورفع مستوى الرجل نحو سلطة وسيطرة لا متناهية.
[6] : بو علي ياسين. الثالوث المحرم، دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي. ص.77-85.