الدراسات الثقافيةترجمة

الترجمة والاختلاف اللغوي والثقافي

  • تقديم

 يعرف العالم تطورا معرفيا وعلميا متسارعا  غير الشيء الكثير من عاداتنا وسلوكاتنا وخلخل البنيات الفكرية والثقافية لطرح الأسئلة التي تحتم على المجتمع تطوير وعيه الفكري وإعادة بنائه على الاختلاف والتعدد وقبول الآخر بما يخدم مجتمعنا وتقدمه وتطوره. في هذا السياق، أصبحت الترجمة تسائل جميع المجالات العلمية والبحثية عن موقعها وأهمية دورها في تدبير الاختلاف اللغوي والثقافي.

فالترجمة شكلت على مر العصور جسرا استراتيجيا للانفتاح والتواصل مع الآخر ومنظومته المعرفية والعلمية وإنجازاته الصناعية والتكنولوجية والعلمية والرقمية. فكيف تساهم الترجمة في تدبير الاختلافات المتعددة لبناء التواصل والحوار بين اللغات والثقافات ؟ و ما هي أهميتها لتطوير المعرفة والعلوم  لتحقيق التطور والتقدم وتجاوز واقع الانغلاق والتمركز على الذات؟

  • 1 – الترجمة ومعالجة الاختلاف اللغوي

الترجمة هي نقل النص الأصلي من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف. و حسب المفكر والأديب والمترجم الإيطالي أمبرتو إيكو هي أيضا عملية تفاوض وحوار مع النص للوصول إلى ترجمة مضمونه مساهمة في إغناء اللغة والثقافة وتعبير عن قدرتها على التواصل والحوار.

فالمترجم ينطلق من لغة النص الأصلي للوصول إلى لغة النص الهدف مستعملا آليات الفهم والتفكيك وإعادة صياغة معنى النص الأصلي في لغة أخرى لبناء نص جديد في لغة وثقافة مختلفة1. وحين يقوم المترجم بالترجمة  إلى اللغة العربية أو أية لغة أخرى، فهو  يقوم بتفعيل هذه اللغة ولبنياتها التركيبية و الدلالية ليجعل اللغات تتحاور فيما بينها لتحديد مكامن التفاهم والاختلاف و طرح إمكانية المعالجة لغويا وثقافيا، على اعتبار أن ترجمة النص، في غياب سياقه، تعطيه ترجمة غير مكتملة المعنى.

إن الترجمة تعتبر النص خطابا حيا في بعده  البنيوي اللساني الداخلي والجدلي مع واقعه الذي أنتجه في سياقه الخارجي، بأبعاده الفكرية والثقافية والاجتماعية. فبفضل الترجمة استطاعت اللغات الانفتاح على أنساق لغوية أخرى بمعاجمها ومصطلحاتها والتفاعل معها في مختلف الوضعيات اللغوية واقتراح البدائل والحلول للترجمة، لملء الفراغ  الدلالي في المفاهيم  والمضامين سواء في الترجمة العامة أو المتخصصة.

لذلك، عندما نترجم نصا في أي مجال معرفي أو علمي، فنحن نبني حوارا جدليا وتأويليا مع هذا النص وما يحمله من حقائق ومعطيات في سياق نسقه الداخلي وبنياته التركيبية والدلالية لصياغة المعنى الداخلي. وأيضا، سياقه الخارجي السوسيوثقافي لاستكمال البناء الدلالي للمعنى الذي يحمله النص أو الخطاب في مختلف أبعاده. يقول هانس كادامير متحدثا عن تأويل النص :” إننا نفهم بنمط مختلف  ونعيد وضع الحقيقة المكتشفة والمعنى المشكل على محك النقد والتمحيص لأن اللغة بما هي حوار وتفاهم لا تقف عند حد ولا تسكن إلى حقيقة ودلالة معينة، بل هي في ترحال لا يستقر وصيرورة دائمة تؤطرها جدلية السؤال والجواب.”2 

إن الوعي بتعدد أبعاد النص المصدر وانفتاحه على محيطه السوسيوثقافي من طرف المترجم الملتزم بالقيم النبيلة للترجمة واحترامه للأمانة العلمية، هو ما يجعل الحوار ممكنا وموضوعيا، لجعل الترجمة عملية إبداعية تنصهر فيها لغة المصدر ولغة الهدف لتخلق لنا عملا إبداعيا يتوخى في إستراتيجيته التواصل اللغوي في عالم التعدد والاختلاف الثقافي. بهذا الشكل، تصبح الترجمة مشروعا للحوار الثقافي والحضاري تتوخى بناء جسور التواصل اللغوي والمعرفي والعلمي والأدبي والفني مساهمة بذلك في تطور وتقدم المجتمع واستشراف آفاق المستقبل. 

  • 2  الترجمة والتواصل لمعالجة الاختلاف الثقافي

يقول المترجم الفلسطيني صالح علماني الذي ترجم من الأدب الأمريكي الآتيني إلى العربية : “يجب ألا ننسى أن الترجمة تولدت عن الاختلاف. فالاختلاف بين اللغات والثقافات هو سبب الترجمة ومسوغ وجودها. لكن الترجمة في الوقت نفسه ضمانة للحفاظ على الاختلافات.”3 فالاختلاف هو عامل لإغناء الثقافات وتطويرها وإخراجها من حالة الجمود والانغلاق إلى أفق مفتوح على التطور في تفاعل جدلي مع القيم الكونية، في واقع عالمي يعرف تطورا رقميا غير مسبوق.

لقد كان ولا يزال دور الترجمة حاسما للتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى ومستوى تطورها لمواكبة المتغيرات على جميع الأصعدة. لذلك، شكلت الترجمة جسرا ممدودا بين الدول والمجتمعات على مر العصور، في إطار من التفاعل والحوار والتعاون بالرغم من الاختلاف والصراع بخلفيات الهيمنة والسيطرة خدمة لمصالح وأهداف اقتصادية و سياسية. لكن الشعوب كانت دوما تتواصل و تتعاون وتتكامل من أجل خلق مناخ التعايش المشترك بما يحقق السلم والاستقرار والتضامن.

في هذا السياق، تعمل الترجمة في المقام الأول على فهم  ثقافة  الآخر واختلافه في شروطه التاريخية والاقتصادية والاجتماعية  والثقافية والفكرية كبنيات أنتجت مجموعة من النصوص والمعارف في مختلف الميادين العلمية والفكرية والأدبية، يتوجب على المترجم فهمها وتفكيكها تفكيكا منهجيا للوصول إلى ما وراء النص و البنيات العميقة المتحكمة في النص الأصلي.

بهذا الفهم، تعتبر الترجمة أداة أساسية لحوار الثقافات والمجتمعات  وتقاسم المعارف في مختلف المجالات الفكرية والعلمية والأدبية بالرغم من الاختلاف والتعدد.  يقول أنطوان برمان :” إن  جوهر الترجمة هو الانفتاح والحوار و التلاقح  والتفتح،  ووجودها رهين بتواصلها.”4

أما اليوم، فإن الطفرة الرقمية غيرت الشيء الكثير في بنياتنا القيمية والذهنية وفي شكل التعامل مع المعرفة والعلم. فالترجمة مطالبة بالمساهمة في إنجاز الحوار لخلق التغيير المطلوب كضرورة العصر ومتطلباته والأخذ بأسباب التقدم لتحقيق مجتمع العلم والمعرفة ضمن تصور عقلاني ومغاير للحد من واقع الانحطاط والجمود الفكري الذي نعيشه حتى يكون لنا موقعا بين الأمم المعاصرة . وهذا لا يمكنه أن يتحقق إلا  باستراتيجية واضحة للترجمة تتوخى بناء أسس صلبة لمجتمع العلم والمعرفة و ثقافة الاختلاف والتعدد يكون بديلا لعالم يهيمن فيه نموذج حضاري أحادي يعتمد القوة والإقصاء.

  •   3 – أهمية الترجمة لتطوير المعرفة والعلوم

إذا كانت الترجمة تساهم في تدبير التواصل والاختلاف اللغوي والثقافي فهي أيضا تعمل على تطوير العلم والمعرفة في مختلف اللغات وثقافات العالم بما تتيحه من إمكانيات الإطلاع على الحقائق العلمية والاجتهادات المعرفية باعتبارها تتخذ طابعا كونيا تساهم فيه مختلف الثقافات والحضارات في تطورها  وتفاعلها.

فالترجمة ساهمت  تاريخيا في تطوير الثقافات والحضارات عبر العصور بنقل الإرث الفكري  والعلمي الذي أدى فيما بعد إلى تقدمها و ازدهارها. والأمثلة عديدة ومتنوعة للمترجمين العرب الذين ترجموا الفلسفة والفكر اليوناني إلى اللغة والثقافة العربية والاستفادة من الحضارة اليونانية وازدهار العلوم وخصوصا في العصر العباسي. فالترجمة التي أنجزها العلماء العرب لأعمال الفلاسفة اليونانيين ساهمت في إحداث الطفرة الفكرية والفلسفية ليس فقط بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية وإنما للإنسانية ككل.

بحيث انتقلت، في ما بعد، إلى أوربا لتشكل النواة الصلبة والمنعطف النوعي الذي سيؤدي إلى النهضة الأوربية وإقلاعها الفكري والعلمي و بروز النزعة الإنسانية والتحرر من الفكر الإقطاعي للقرون الوسطى ابتداء من القرن السادس عشر في صيرورة متواصلة الحلقات مرورا بعصر الأنوار للقرن الثامن عشر وتطور الفكر العقلاني مع مجموعة من الفلاسفة المتنورين كجون لوك وجان جاك روسو و مونتسكيو وفولتير وديدرو.

وتأسيسا على ما سبق، يمكننا القول أن الترجمة تكون حاضرة في أي تقدم وتطور للمجتمع، وتساهم فيه بفعالية من أجل تملك العلم والمعرفة والتكنولوجيا والانطلاق نحو بناء المستقبل والتفوق في جميع المجالات بترجمة العلوم ومعارفها، مساهمة بذلك في الانفتاح البناء والإغناء والملائمة مع اللغة والثقافة الهدف.

هذه الترجمة شكلت الأساس الفكري والعلمي الذي ستبني عليه الدول الأوربية نهضتها وتقدمها وخصوصا حين ربطت الترجمة بالاجتهاد العقلي والمنطق والتحرر من الفكر الإقطاعي المتخلف للقرون الوسطى. لذلك، فإن أي مجتمع أراد تحقيق النهضة العلمية والتقدم، مطالب بتوفير الإرادة الفعلية للتغيير الايجابي نحو المستقبل وفق إستراتيجية شاملة تكون الترجمة إحدى ركائزها، وذلك لتدبير الاختلاف الثقافي مع الثقافات الأخرى والتواصل من أجل تطوير مشروعه الفكري والعلمي والمعرفي واستدراك التأخر التاريخي.

لكن، نلاحظ اليوم أن كثيرا من الكتب العلمية في مختلف التخصصات لا تترجم في حالات كثيرة إلا بعد مرور عقود أو قرون من الزمن،  دون أن تكون للباحثين والمفكرين والعلماء والطلبة إمكانية قراءتها  فور صدورها. الشيء الذي يؤدي إلى التأخر وعدم مسايرة التطور الفكري والعلمي والسقوط في الجمود وإعادة استهلاك الفكر التقليدي بدون القيام بتطوير الفكر والعلم في علاقتهما وتفاعلهما بالمتغيرات الحاصلة في المجتمعات و الثقافات الأخرى. 

  • خلاصة

تعد الترجمة مجالا مفتوحا للتواصل بين اللغات والثقافات بالرغم من الاختلاف  الذي يميزها في صيرورتها التاريخية بموروثها المتنوع و المتعدد. فالترجمة تقربنا من الآخر لمعالجة التباعد الحاصل بين المجتمعات، وتجعل الحوار ممكنا، يؤسس للتفاهم والعيش المشترك بين الشعوب وبناء جسور التعاون والتضامن بينها مساهمة في إغناء ثقافاتها وتقدمها بالرغم من الاختلاف. فالدول المتقدمة تعطي اهتماما كبيرا للترجمة ضمن إستراتيجية واضحة ومدروسة لنقل العلوم والمعرفة والإبداع فيهما وتقاسمهما مع مواطنيها للرفع من مستواهم العلمي والثقافي لتبوء المراتب المتقدمة. فماذا أعددنا نحن وطنيا وعربيا في هذا المجال الاستراتيجي؟ 

إن تحقيق مجتمع العلم والمعرفة و التغيير الفكري من أجل التطور والتقدم يفترض النهوض بالترجمة ووجود تصور ومشروع واعد لهذه الأخيرة يؤسس لحركة الترجمة في جميع التخصصات يساهم في ديناميتها المجتمع العلمي بنخبه ومثقفيه وعلمائه بطموح حقيقي يهدف تنوير وتقدم المجتمع في عالم يعرف ثورة رقمية غير مسبوقة و يتطور بسرعة هائلة  لمسايرة المتغيرات العلمية و التكنولوجية.


  • المراجع :
  1. أمبرتو إيكو.(2012) .أن نقول نفس الشيء تقريبا. ترجمة أحمد الصمعي. المنظمة العربية للترجمة. بيروت . لبنان. ص.24

2- هانس يورغ غادمير. فلسفة التأويل. ترجمة محمد شوقي الزين 2006، الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي. بيروت. لبنان. 

3-  صالح علماني. الترجمة أداة ديمقراطية لإنقاذ الاختلاف  https://middle-east-online.com

4 –  Birman Antoine . (1984). L’épreuve de l’étranger. Gallimard, Paris.P. 16               

5 – أحمد عبد الحليم عطية. (2010). جاك دريدا والتفكيك. دار الفرابي. بيروت. لبنان.

المصطفى رياني

المصطفى رياني: أستاذ باحث، حاصل على الدكتوراه في الترجمة القانونية من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى