إلمامة من بعيد لبعض الروايات العراقية لعراق ما بعد صدام حسين
لم يكن سقوط النظام العراقي سنة 2003م مجرد سقوط نظام، وقيام نظام بديل، بل سقوط أمن ورخاء واستقرار المواطن العراقي البسيط، فما نراه اليوم في العراق من دمار وخراب واستهتار بأرواح البشر، خير شاهد على المؤامرة التي حيكت، وما زالت تحاك ضد العراق، وتنفذها أيادي الشر، التي تغتال رايات الحرية في مكمنها، وتٌخرس صوت الحق، وتٌلجم أفواه الضعفاء والمساكين، الذين تفاقمت أحوالهم السيئة، وازدادت معاناتهم، الأمر الذي انعكس بجلاء في أدب الخيال العراقي (الرواية)، لتكتب هذه المعاناة بحروف من نار، وسهام مشتعلة، تقذف مرتكبي الجرائم بحمم من غضب الشعب الثائر المظلوم.
القارئ المتمعن في هذه الروايات يجد، في معظم الروايات العربية، ولاسيما العراقية منها، نتائج الحوادث والفواجع التي ألمت بعالمنا العربي إثر سقوط بعض الأنظمة القومية، ويٌدرك مدى الحسرة والندم المرتسم ناصعًا في جبين جل الروايات، التي تطرقت لها هذه المقالة، والتي سلطت الضوء بدرجة كبيرة على الوضع العراقي، حيث برع الروائي العراقي بتجسيد هذه الأحداث في صورة حية تكاد أن تنطق وتقول أنا نسخة تُكرِر نفسها في جميع الأقطار العربية الأخرى ذات الصلة مثل ليبيا واليمن وسوريا. وبالتالي، يجد القارئ نفسه أمام أدب جديد في الثقافة العراقية بالذات: وهي ثقافة المقاومة وأدب الحروب.
يحاول الروائي العراقي سرد تلك الأحداث المؤلمة إبان الإحتلال الأمريكي وما بعده، كما يسعى إلى الكشف عن العوالم السرية لحياة المجرمين، وتكذيب السرديات الاستعمارية، وسرديات الهوية، فضلاً عن محاولته لإيجاد مخرج ما لمعاناة أفراد المجتمع، وإحياء ثقافة الثأر، والانتقام من متسببي الفضائع الوحشية التي يتكبدها كل فرد في حياته اليومية، ويتجرع كل بريء ومستضعف ويلاتها بعد سقوط دولة النظام والقانون.
رواية “حليب المارينز” (2006) للروائي العراقي عواد علي تصور عودة الروائي إلى بلده لدفع فدية مالية لإنقاذ أخية من الخطف، حيث يتفاجأ بمقتل أخيه (وهي تصوير لحقيقة ضياع الأمن والاستقرار، والاستهتار بأرواح الأبرياء). نفس المشهد يتكرر في الحقيقة والواقع، ومنها عودة الأستاذ الدكتور حاتم الصكر، أستاذ الأدب والنقد العربي، الذي أسهم في الأدب، وكان وما زال له الباع الطويل، والاسهامات الجليلة، في ثقافتنا العربية من خلال كتاباته ومحاضراته، التي ألقاها في جامعة صنعاء، وما زال الدكتور حاتم ينشد الملاء عن مصير ابنه المغيب في غياهب الجب، بلا ذنب أو خطيئة، أو سبب يُذكر، ولا يمكن لأي امرئ تخيل أي سبب في ذلك الفعل المذموم، إلا كون أبوه رمزًا وشخصية أدبية لها اسهاماتها في مجال الفكر العربي، وهذا من نتاج ما بعد السقوط المشؤوم.
وما قصة الأستاذ الدكتور حاتم الصكر إلا شبيه بتلك القصة في رواية “حارس التبغ” (2008) لعلي بدر التي انتهج فيها البحث الصحفي، لإيجاد الموسيقار العراقي المختطف (كمال مدحت)، الذي وٌجد مقتول على ضفاف نهر دجلة، فهي حالة من تصفية الشخصيات المرموقة وذويهم لطي صفحة منيرة من تاريخ العرب، ونأمل ألا يكون مصير نجل الدكتور حاتم نفس مصير الموسيقار الضحية في هذه الرواية المأساوية.
وبالمناسبة فقد كان ذلك الموسيقار العراقي يهودي الديانة، حقيقة لا يعلمها أحد لأنه تخفى تحت اسم مستعار، واستطاع العودة من الأراضي المحتلة (فلسطين) بجواز سفر مزيف، وانتقل إلى إيران، ثم إلى الكويت، ومنها إلى العراق، وكانت هجرته إلى فلسطين (الأراضي المحتلة) بعد مذبحة الفرهود (والتي تسمى عند اليهود بالهولوكوست المنسي) في العام 1941م.
تعد رواية “الحفيدة الأمريكية” (2008) للروائية العراقية إنعام كجه جي (وصلت هذه الرواية إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية) من أكثر الروايات العراقية التي تصور المشهد المؤلم للعراق بعد سقوط نظام صدام، فينعكس هذا المشهد القاتم على نفسية بطلة الرواية، زينة، وتركيبتها النفسية، فقد أصبح العراق ساحة للموت والدمار والفرقة، فزينة التي تحمل الجنسية الأمريكية، وتعمل مترجمة مع القوات الأمريكية، تحمل أفكار مغايرة لجدتها (رحمة) التي تمثل ماضي العراق الجميل، الرافض لأي احتلال أو هوان، في حين أن حفيدتها تمثل فكرة تقبل الانتماء لوطن آخر والدفاع عنه.
وتصور الكاتبة من خلال زينة لاسيما عند انتهاء عقدها كمترجمة الوعود البراقة، التي قطعها الأمريكان عند دخول العراق، بحياة أفضل، فتدرك زينة في الأخير مأساة الانتماءين، وزيف ما جاء به المحتل.
يبدع الروائي جمال حسين علي في رؤيته الملحمية عن عراق ما بعد الغزو الأمريكي في روايته “أموات بغداد” (2008)، حيث يعدها الكثير من النقاد، الرواية الأولى، التي حاولت خلق نموذج إنساني من أشلاء الضحايا للانتقام والثأر لما يجري في الساحة العراقية؛ وتتجسد فكرة خلق نموذج إنساني بصورة أنصع في رواية “فرانكشتيان في بغداد” (2013) (الحاصلة على جائزة البوكر العربية لعام 2014) للروائي العراقي أحمد سعداوي، حيث يقوم بطل الرواية (هادي العتاك) بتجميع أشلاء ضحايا التفجيرات الإرهابية، وإلصاقها ببعض لخلق وحش غريب، سرعان ما ينهض حاملاً رغبة الانتقام لكل الضحايا، والثأر من المجرمين الذين قتلوا مالكي الأشلاء التي تكون منها هذا الوحش، يلي هذا التمثيل الروائي عملية قتل الوحش نفسه بنفسه، ليوضح حقيقة أشنع وهي القتل العشوائي، الناجم عن التفجيرات الإرهابية، وحالة الفوضى والدمار والقتل والتشريد ذات الأبعاد الحزبية أو الطائفية، التي يكون ضحيتها الإنسان البريء.
وعلى نفس المنوال، يوضح الروائي العراقي برهان شاوي في روايته “مشرحة بغداد” (2012) حجم المعاناة التي يعانيها العراقي، لاسيما بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين، مما جعل من الجثث في المشرحة تتكلم وتروي مأساتها، فينكشف الغطاء عن عراق ما بعد صدام حسين، الذي أريق فيه الدم العراقي، دونما أدنى سبب.
هناك العديد من الروايات العراقية التي لم يسعفني الوقت لذكرها، مثل رواية خاتون بغداد (2017) لشاكر نوري، ورواية ساعة بغداد (2016) لشهد الراوي (التي دخلت القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية)، التي تعكس أدب الحروب، وتحاول توضيح الأحداث الدامية، والمعاناة المستمرة للمواطن العراقي، وتداعيات انهيار دولة النظام إبان دخول القوات الأمريكية، ولسان حال الروائيين يترحم على ذلك الزمن الجميل الذي كان فيه كرامة العراقي شامخة، يعيشون في هدوء وسلام، وحالة من الدعة والطمأنينة، بالرغم من شظف العيش، بسبب الحصار المفروض عليهم.
د. عبد الودود النزيلي / كلية اللغات – جامعة صنعاء.