رمزيّة التثليث الروائي .. لماذا ثلاثية روائية
نلحظ تكرار الأعمال ثلاثيّة الأجزاء في الروايات والدراما السينمائيّة، ما يدعونا للتفكّر في هذه الهندسة البنائيّة الثلاثيّة، وفي الأبعاد الميثولوجيّة والفلسفيّة الروحيّة للعدد ثلاثة علّنا نستجلي التاريخ في ما استبطنته النفس البشريّة؛ ذلك بطرح السؤال عن رمزيّة هذا العدد في وجدان الرّوائيّ وفي موروثات ترسّخت في الوعي الجمعيّ قبل أن تتناسج في اللاوعي الفردي وفي البنية النفسية الذاتيّة. فهل من أسباب دافعة للنزوع نحو استتباع عمل روائيّ بثانٍ وثالث؟ ولمَ تثليث الأجزاء في بعض الأعمال الرّوائيّة؟
قد يكون الأمر مختلفًا في وعي كتّاب الثلاثيّة الروائيّة، وبعض الأعمال السّرديّة رباعيّة وخماسيّة، لتأتي الإجابة في اللاجواب عن سؤال: لماذا تكتب ثلاثيّة؟ وماذا يعنيه لك الأمر؟ بوصف الأمر عادة وعرفًا في مكان ما، أو شيئًا متوارثًا، أو رغبة في الحكي ومتعة اندراج الرّوائيّ في عوالم الشخصيّات الرّوائيّة، والتّماهي معها، كأنّها قطعة من العالم الحقيقي أو طبقة من طبقات نفسه يريد تثبيتها ولا يودّ أن تتوقّف الأحداث، بغير إغفال الوظيفة الاستشفائيّة للسرد. قد لا تتطهّر الذات الكاتبة في جزء أو جزأين، بل تحتاج إلى الاستمرار ردحًا من الزمن وعلى مساحة بياض لا يفتأ يطلب الامتلاء. فهل بالتوقّف عند نهاية رواية ما إعلان موت المخيّلة، وتاليًا، خشية من نضوب الذّاكرة الإبداعيّة، أو من تسرّب الزّمن هاربًا من مبدع الشخصيّات؟
كتب نجيب محفوظ ثلاث روايات تاريخيّة قبل ثلاثيّته الاجتماعيّة الشهيرة (1956-1957). وسمها بعناوين ثلاثة: «عبث الأقدار»، «رادوبيس»، «كفاح طيبة» (1939-1944) قد لا تكون الروايات مترابطة من حيث الشخصيّات والأحداث والاستمراريّة لتشكّل ثلاثيّة بالمفهوم المتعارف عليه، إنّما استلهم فيها الروائيّ تراث مصر القديمة بوصفه نوعًا من الإسقاط التاريخي على مرحلة سياسيّة سادت مصر في تلك المرحلة، ليطرح الأسئلة المتتالية: كيف يقوم الحكم في مصر؟ وكيف تتبدّى علاقة الحاكم بمحكوميه؟ وما هي تجليات الكفاح للحفاظ على حرية الوطن؟ أمّا ثلاثيته (بين القصرين، قصر الشوق، السكّريّة) فقد رصد فيها الصراعات الإنسانيّة الدّاخلية بالتوازي مع القضايا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي جلّلت مجتمع النّص.
ومن مصر أيضًا، كتب سعد القرش ثلاثيّته الرّوائيّة (أول النهار، ليل أوزير، وشم وحيد) التي أرّخت لواقع اجتماعيّ في حقبة تاريخيّة ما، ولصعود الوعي السياسيّ. ولا وعي سياسيًّا بغير وعي بالذات والوجود، ولا عودة للماضي بغير مساءلة التّاريخ لفهم الحاضر والتنبّؤ بمستقبل أكثر إنسانيّة.
إنّما يجيب سعد القرش عن سؤال كتابة ثلاثيّته بأنّه لا يملك الإجابة عن دوافع الآخرين، وقد كتب بعضهم رباعية مثل الإنجليزي لورنس داريل الذي اشتهر برباعية الإسكندريّة (جوستين، بلتازار، ماونت أوليف، كلِيا). ويشير إلى أنّ نجيب محفوظ حين كتب رواية، وجدها النّاشر ضخمة فاقترح تقسيمها ثلاثة أجزاء. أمّا بالنسبة إليه، فيقول إنّه لا يتعمّد شيئًا في الكتابة، ولا يخطّط لشيء، وكان قد حضّر لكتابة رواية عن فكرة الدكتاتوريّة، وتصوّرها ستبدأ مع صعود محمد علي (1805) حتى وفاته، ورأى أن يكتب فصلًا تمهيديًّا، ففوجئ به ثلاثة فصول، ولم يصل إلى نقطة البداية، ولا إلى ما أراد كتابته. لم يشأ أن تكون كتابته تأليفًا مصطنعًا، وانتهت طاقة الكتابة لديه في حينها، لينشر ما كتبه في أولى ثلاثيّته «أول النهار» عام 2005. ولتستيقظ الرواية الثانية “ليل أوزير” بعد ثلاث سنوات، بعنونتها التي سبقت الكتابة. ويتابع بأنّه لم يفكّر في جزء ثالث من مسيرة هذه الأسرة ومسارها، ولكن النّاجي الوحيد من الحريق (حريق أوزير في الرّواية الثانية من السلسلة) أيقظه ذات حلم، فتتبّع مساره من القرية إلى القاهرة، بالتّوازي مع مخلوق آخر “وحيد”، ولد من عدم، فكانت “وشم وحيد” 2011، وبها اكتملت الثلاثيّة.
عبارتان ملفتتان للتوقّف إزاءهما: انتهاء طاقة الكتابة، والحلم/ المنام الذي يوقظ. في ربطهما معًا إشارة دلاليّة إلى كمون الفكرة في شرنقتها، ليتسنّى لها وقت حياكة الجناحين، فتخرج فراشة.
كما كتب ربيع جابر، الرّوائيّ اللبنانيّ ثلاثيّة «بيروت مدينة العالم» (2003-2007)، والبعض يقترح أنّها رواية واحدة في ثلاثة أجزاء. تتبّع أخبار بيروت وتحوّلاتها خلال مئة عام، انطلاقًا من تقصّي أحوال عبدالجواد أحمد البارودي وسلالته وحارته-حارة البارودي. مهما يكن من تسمية للأجزاء الثلاثة، فهي تحكي تاريخ نشوء بيروت وتوسّع هذه البلدة الزراعيّة المستطيلة المسوّرة، ذات ستة أبواب، وبعدد سكّانها الذي لا يتجاوز الخمسة آلاف نسمة، لتصبح مدينة تجاريّة، قبلة العالم.
الأمثلة كثيرة عن الثلاثيّات الرّوائيّة، ولا مجال يتّسع لذكرها أو التحدّث عنها، إنّما تكفي بعض الأمثلة التي تتناول جوانب مختلفة من الحياة البشريّة وبمنظورات متنوّعة. والمنظور الرّوائيّ النسويّ للقضايا يمثّل عليه المقال من خلال نموذجين للجزائريّة أحلام مستغانمي، والمصريّة رضوى عاشور. مستغانمي كتبت ثلاثيّتها: (ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير) (1993-2003) لتسائل التجنيس الأدبي عبر مساءلتها التاريخ وطرحها الأسئلة عن قضايا المرأة والوعي السّياسي والفكري والوجودي والإنساني بعامة. أما رضوى عاشور فقد أصدرت “غرناطة، مريمة، الرحيل” (1994-1995) رواية صراع وجودي، تستلهم تاريخ العرب في غرناطة لتحكي قصة الإنسان والجماعات في أيّ زمان ومكان. هي من أدبيّات النفي والاقتلاع والتمسّك بالأرض بكلّ ما تحمله من معانٍ، والإمساك بحبل الحياة والحق بالوجود والذاكرة.
بالانتقال من الظاهرة إلى تأويلاتها، والعودة إلى ما طُرح في المقدّمة، يبدو تاريخ البشريّة حافلًا بالرموز؛ إذ يؤثر البشر إحاطة أنفسهم بها لرغبة دفينة لديهم. وينفرد الإنسان في السلوك الرمزي والقدرة على استخدام الرموز. إنّما تؤدّي العوامل النفسية دورًا في تحديد معنى الرمز؛ وللبنية الثلاثيّة تاريخ طويل؛ حيث وصف الحدّ الثالث في المثلّث نقطة توسّط بين ضدّين عند بعض فلاسفة الإغريق. فالعدد ثلاثة (3) هو رمز التناسق والتناغم الكونيّ، بل الكمال عند فيثاغوراس. والفضيلة هي طريق وسط بين رذيلتين متعارضتين لدى أرسطو. التناغم البشريّ مع الكون يحيل إلى مفهوم تماهي الإنسان مع الشجرة التي بأغصانها الممتدّة إلى السّماء، وجذورها المنغرسة في الأرض تلامس العوالم الثلاثة: السّموات والأرض والجحيم في المنظور الميثولوجي، وتربط بعضها ببعضها الآخر. ويوحي بالتشكيل البنيوي الثلاثي للإنسان: الرأس، الجسم، الأطراف؛ النفس، الرّوح، الجسد. كما أنّ آلهة الإغريق التي تقاسمت حكم الكون، ثلاثة: زيوس، بوزايدون، هادس (الجحيم ذو الأبواب الثلاثة والمحروس من سيربيروس ذي الرؤوس الثلاثة). البنى الثلاثيّة كثيرة في مملكتي الطبيعة والرّوح، وقد حدت بالفيلسوف الألمانيّ هيجل (1770-1831) إلى تثبيت النظرية الجدليّة القائمة على حدّي القضيّة والنقيض، ليأتي المركّب (المحصّلة) فيتوسّط الحدّين معًا أو يجمعهما.
وعلى الصعيد الدّينيّ، وهو المستوى الذي يحفر عميقًا في النفس البشريّة وفي الموروث الثّقافيّ الجمعيّ، للعدد ثلاثة رمزيّة إيجابيّة في المعتقدين الهندوسيّ والمسيحيّ. في الثالوث الهندوسيّ إشارة إلى ثلاثة وجودات للروح الأعظم: براهما الخالق، فيشنو الحافظ، شيفا المدمّر. ويؤمن المسيحيّون بثلاثة أقانيم للّه الواحد: الأب والابن والرّوح القدس، كما أنّ ركائز إيمانهم ثلاث: الإيمان والرّجاء والمحبّة. والإشارات الرّمزية إلى هذا العدد كثيرة في الإنجيل، منها قيامة يسوع المسيح بعد دفنه بثلاثة أيّام… وخير دليل فنّي أدبيّ على التأثير الإيماني المسيحي نجده في «الكوميديا الإلهيّة» ثلاثيّة الأجزاء لدانتي أليجيري (1265-1321): الجحيم، المطهر، الفردوس. فكرة المطهر يقابلها في العقيدة الإسلاميّة البرزخ بوصفه درجة إصلاح وسطى ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر، من وقت الموت إلى البعث. وللبعث بنية رمزية ثلاثية: حياة، موت، ابتعاث حياة جديدة. قد يكون هذا المعنى الأخير خير مفسّر لثلاثيّتي سعد القرش، وربيع جابر الرّوائيّتين. إذًا، غاية هذه البنية الثلاثية لحياة الإنسان التجربة وأصالة الاختبار الذاتيّ في مراحل ثلاث: ولادة، موت، إحياء. وربما تقترب من مثلث برقلس في الأفلاطونيّة المحدثة، في فكرة الوحدة، الصّدور، العودة. فلا مناص من تجربة الزمن الوجوديّة في أيّ تصوّر دينيّ أو فكريّ، وأيّ عمل سرديّ؛ والزمن بنيته ثلاثيّة: ماضٍ، حاضر، مستقبل.
كما يتصوّر الفيلسوف الوجودي سورين كييركيجارد مراحل ثلاثًا لذات الإنسان وتطوّرها في مدارج الكمال؛ إذ أنّ البحث عن حقيقة الوجود، أو طريق اكتشاف الذات، يبدأ بالمرحلة الحسّيّة الجماليّة في لقائها الأوّل مع العالم، ليتدرّج في المرحلة الجوّانيّة الأخلاقيّة، انتهاءً بالمرحلة الثالثة، الرّوحانيّة الإيمانيّة. هذه المدارج الثلاثة يتّجه فيها الفرد إلى نسج حياته في إطار أعمق وأكثر قيمة. وقد كرّس كييركيجارد نظريته ثلاثيّة البنية في مؤلّفاته؛ حيث كتب قسمًا منها ببيان الشاعر الرّومنطيقيّ، وأخرى ببيان فلسفيّ، وثالثة كتبها ببيان وعظي دينيّ.
ارتبطت الرمزية، هذه اللغة السرّيّة والكاشفة في آن معًا، بشكل محكم ودائم بالفنّ، بوصفه قابلًا لأن يكون جسرًا بين المادّي والنفسيّ اللذين يشكّلان ثنائيّتنا الأساسيّة. وليست الثقافة في محصلتها سوى نسق معقد من الرموز المختلفة. بتعبير بودلير، الشاعر الفرنسي (1821-1867)، بأن العالم ليس سوى غابة من الرموز. وتبعًا للزمن تتعدّل المفاهيم والمعاني، وقد تسقط جميعها، لمَ لا؟
لذا، يهتمّ الأنتروبولوجيون بالرموز بوصفها مقولات ثقافيةّ، وينكبّون على دراستها وتحليل محتواها الثقافي لتحديد البنية الفكرية للمجتمعات. وإن كان لكلّ عدد رمزيّته ودلالاته المتعدّدة بحسب الثقافة التي ينتمي إليها، فتسقط عليه معناه، فيمثّل هذا العدد “3” المراحل التي تكوّن دورة الحياة الكونيّة، وحياة الإنسان المتناغم مع الطبيعة، من طفولة، فشباب، ومن ثمّ شيخوخة. ولعلّ أكثر المعاني دلالة معنى الابتعاث في ولادة تأسيسيّة جديدة ومتجدّدة أبدًا.
استمرّ الرمز في الحياة، لكنّ الرمزية هوجمت من قبل الديكارتيّة؛ إذ أراد رينيه ديكارت (1596-1650) الفصل الجذري بين الروح والجسد، معليًا من شأن الذات المفكّرة في مقولته الشهيرة «أنا أفكّر، إذن أنا موجود». غير أنّ الهيرمينوطيقا أعادت للذات الفاعلة مكانتها في عمليّة الفهم، موائمة بين الذات والموضوع ومستندة إلى الموروث الميثولوجي والرّمزي التّاريخي والنّفسي-الوجوديّ للبشريّة.