سرديات

نظرية السرد وتداول مفاهيمِها

ليس خافياً أن النقاد الفرنسيين والألمان، هم أول من حاولوا وضع نظرية في السرد وأزمنته وأمكنته، منذ أواخر الأربعينيات من القرن العشرين وقبلهما كان للشكلانيين الروس دور مهم في دراسة السرد، كما عند فلاديمير بروب وشكلوفسكي وتنظيراته حول الحكاية/ الحبكة، والتاريخ /الخطاب، والمتوالية السردية والخطابية، وطريقة تقديم وجهة النظر والصوت السردي وغيرها.


ولم تصبح السرديات معروفة اصطلاحياً، حتى ولدت في فرنسا عام 1977 حين تقاطعت مدارس البنيوية والسياقية والشعرية عند رولان بارت وبرسي لوبوك وغريماس وجينيت وتودوروف، الذي أكد أهمية الحاجة إلى التحول من السرد السطحي المستند إلى النص، وما سماه الكون التمثيلي بما فيه من الأشكال التركيبية للسرد، مستندا إلى سوسير ومحاضراته التي نشرت بعد رحيله.

ثم ما جاءت به أنثروبولوجية شتراوس وتوليدية جومسكي وسيموطيقية سيمور تشايمان، وكلود بريموند، وما أعادت مدرسة شيكاغو للنقد الأدبي اكتشافه حول مفاهيم أرسطو عن الحبكة والشخصية والجنس الأدبي، ودفاعها عن الأرسطية الجديدة بوصفها وسيلة للتحليل النصي، ثم طروحات نورمان فريدمان، الذي درس ثمانية أنواع من وجهات النظر وأربعة عشر نوعا من الحبكات، وواين بوث الذي اهتم بالبعد البلاغي للخطاب السردي، إلى غير ذلك من التنظيرات.


وكان أن عُرفت المرحلة من منتصف الستينيات إلى أوائل الثمانينيات بأنها مرحلة كلاسية في السرد، كونها واقعة تحت تأثير البنيوية، إلى أن ظهر في نهاية الثمانينيات جوناثان كلر ونظريته السردية، التي ترى أن من الخطاب تولد القصة، ثم سوزان لانسر وما قدمته حول النظريات النسوية في السرد، وتوماس بافيل الذي تساءل حول انطولوجيا عوالم السرد الخيالية.

ومع نهاية المرحلة ما بعد البنيوية برزت طروحات جديدة في السرد، منها سرد الميتافكشن و(السرد الافتراضي virtual narrative) الذي اجترحته ماري لوري رايان من جامعة كولورادو، وهي متخصصة في الخيال السردي والثقافة الإلكترونية الفرنسية وبراديغمات محاكاة الذكاء الصناعي.

والمدهش أن هذا التقدم الأوروبي في النظرية السردية دفع النقد الأمريكي للبحث عن موطئ قدم له في النظرية السردية، ومن ذلك اجتراح الأمريكي ديفيد هيرمان لمفهوم ( علم السرد ما بعد الكلاسي Postclassical Narratology ) عام 1997 في مقاله المعنون «فواصل، توالٍ، قصص»، وفيه أكد ضرورة إعادة التفكير في النظرية السردية، من خلال التداخل مع المجالات المعرفية الأخرى، بحيث تعاد الساعة إلى الوراء، أي إلى ما لا يقل عن أربعين عاما، حين ظهرت بوادر النظرية البنيوية ثم القيام بربطها بتطورات المرحلة اللاحقة في أواخر الستينيات حين نشأت النظرية السردية.

وفي عام 1999 نشر هيرمان مجموعته السردولوجية «منظورات جديدة في التحليل السردي Narratologies ; new perspectives on narrative ,» وقد وجد محررو مشروع ( كلمة/ نص word /text) أن المجموعة تستحق إصدارا خاصا بالذكرى السنوية عام 2019 وعلى قسمين: الأول منظورات عامة والثاني ثيمات، انتهت واستهلكت، تتبعها مراجعات وقراءات.


واليوم وبعد مرور عشرين عاما على اجتراح مفهوم السرد ما بعد الكلاسي؛ فإنه ما زال يشهد شيوعا وتطورا في الولايات المتحدة في جامعة ولاية اوهايو، وكليات في جامعات أمريكية أخرى. وكذلك في بعض أجزاء من أستراليا وأوروبا وبمنظورات جديدة تسعى إلى تجاوز قيود النظرية السردية في التحليل السردي ثم تطويرها.

ومن مفاهيم بوث، التي كانت عرضة للسطو عليها: السارد الثقة والسارد غير الثقة أو غير الموثوق به unrelibe narrator والسارد المخادع الذي يستحوذ بالضرورة، على اهتمام معظم القراء وإلى أي درجة يكون السارد عرضة للخطأ

وبسبب هذه النزعة التنافسية في النقد، لاقت طروحات هيرمان حول السرد ما بعد الكلاسي ردود أفعال، بعضها كان سلبيا في كل من فرنسا والصين، منها ما كتبه الفرنسي جون بيير عام 2011 في مقالته «هل هناك رواية ما بعد كلاسية فرنسية؟» التي بمجرد أن نشرها صار العمل جاريا ضمن فضاءات أبحاث فرانكفونية تعمل على دراسة الظواهر السردية المنفتحة على التاريخ والثقافات عامة، وكان من أصدائها انشاء جمعية (المجتمع الدولي والتخييل والدراسات التخييلية) عام 2019 .

وفي جامعة سرقسطة الإسبانية عمل خوسيه غارسيا لاندا ببلوغرافيا شاملة في النظرية الأدبية، وفي يورك في بريطانيا تم فتح مركز متعدد التخصصات. وترأست مونيكا فلودرنك في ألمانيا مركز فرايبورغ للرواية الخيالية والرواية الواقعية، الذي تبنى برنامجا صارما متعدد التخصصات مرتبطا بالدراسات العليا، كما اهتم المركز المتعدد التخصصات لعلم السرد في هامبورغ بالسرد الواقعي والخيالي.


وفي الصين عُدَّ السرد ما بعد الكلاسي شأنا أمريكيا. أما اهتمام الأنكلو أمريكي بدراسة السرد الصيني فهو ما رحب به الصينيون لكنهم ساهموا ـ بحسب الناقد بيو شانغ ـ في أن تكون لهم نسختهم الخاصة من السرد ما بعد الكلاسي الذي تظهر أهميته في الصين، لا لأنه بدأ يجذب انتباه الأوساط الأكاديمية الغربية حسب، بل لأنه أيضا صار يدرّس كمواد إلزامية في بعض الجامعات الصينية.

وشُجع الباحثون على كتابة الأطروحات والرسائل في هذا السرد، من ناحية النظر إلى الموضوعات التقليدية بوجهات نظر جديدة، كإعادة النظر في العلاقة بين السرد الكلاسي وما بعد الكلاسي، وما ماهية الحدود بين الفلسفة والأدب؟ وكيف يتقاطع السرد الجسدي مع السرد البلاغي؟ ومسار السارد ومسار القارئ، إلخ.


ويبدو أن مسعى هيرمان في أن تكون له بصمة أمريكية في النظرية السردية جعلته يطور عام 2002 مفهوما جديدا هو (منطق القصة) في كتابه ( منطق القصة story logic: إشكاليات واحتمالات) ليدعم به أولا مفهوم السرد ما بعد الكلاسي، وليكون ثانيا بمثابة توليف كبير لنظرية تمثل فاصلة في دراسة السرد، بوصفه أسلوبا معرفيا واستراتيجية تساعد البشر على فهم عالمهم، فمنطق القصة يفترض أنها توفر للقارئ مورداً لا غنى عنه لفهم التجارب الإنسانية.

والكتاب يقع في منطقة السرد متعدد التخصصات، جامعا المفاهيم السردية الرئيسة في النقد الأدبي جنبا إلى جنب العلوم المعرفية، ليدرسها بدقة ويكملها مع مجموعة المفاهيم الإضافية التي تتيح تحليل العديد من أنواع السرد وفهمها.

وممن استند إليهم هيرمان في اجتراحه لهذا المفهوم شلوميت وتشاتمان وجيرالد برنس، وطروحاتهم حول الاستخدامات المستقبلية للسرد ما بعد الكلاسي، ومنها السرد البلاغي والسرد النسوي والسرد الرقمي والسرد غير الطبيعي والسرد المعرفي والسرد الجسدي.

فأما السرد غير الطبيعي unnatural narratology فيعني الروايات المعادية للتقليد في فهم العالم، التي تضع القارئ أمام أحداث مستحيلة impossible events في رؤية العالم الفعلي، ومن أبرز الأصوات النقدية في التنظير لهذا النوع من السرد هنريك نيلسون وجان البير وبيو شانغ وبراين ريشاردسون الذي قدم مسحا تفصيليا لأهم المساهمات ضمن نطاق السرد ما بعد الكلاسي.


وفي السرد الجسدي narratology corporeal يكون الجسد البشري هو المحور، مما كانت قد أهملته الدراسات السردية في القرن العشرين، وهو يعتمد طرق تفكير حديثة في النظر إلى الجسد، ومفاهيم الحبكة، والشخصية والسرد كعناصر طبيعية في القص، تنطوي على مفارقات الجسد وانعكاساته على العالم وكيف يمكن للنص أن يعني شيئا من خلال الجسد، وأن السرد أولا وقبل كل شيء يعتمد على التفسيرات الجسدية. (ينظر: مجلة الدراسات الأدبية واللغوية: كلمة ونص، السرديات ما بعد الكلاسيكية بعد عشرين عاما، أورلين لونسكو، جامعة شنغهاي جياو تونغ 2019).

وعربيا يبدو الاهتمام بالنظرية السردية ميّالا في الغالب إلى المدرسة الفرانكفونية، باستثناء محاولات قليلة يحاول عبرها بعض الدارسين توجيه الأنظار إلى المدرسة الأنكلوأمريكية، لا بقصد التعريف بطروحاتها، بل بقصد استغفال معرفة القارئ العربي بهذه الطروحات، ليتم الترويج لها وكأنها من ابتكارات هؤلاء الدارسين.


والطبع النقدي الأصيل يأنف من تدليس ومماراة ومروق كهذه، ومن ثم لا يتوانى من التأشير إلى هذه المحاولات وفضحها. والغريب أن الأمر تعدى طروحات المدرسة الأنكلوأمريكية ليمتد إلى المدرسة الفرنسية نفسها، التي هي بمفاهيمها وطروحاتها معلومة وراسخة، لكن النية المبيتة في التدليس والمراوغة، كما يبدو هي التي عليها تتم المراهنة.

ومن الطروحات التي يحاول بعضهم الترويج لها لتبدو وكأنها لهم، أو من عندياتهم، ما طرحه البروفيسور واين بوث من مفاهيم سردية في كتابه «بلاغة الفن القصصي»، وعلى الرغم من أن الكتاب مترجم إلى العربية منذ زمن ليس بالقليل؛ فإن مراهنة المدلسين تبقى قائمة استغفالاً للقراء والنقاد، كأن يرادف لفظة بلفظة.. وهذا لوحده مروق واضح عن أداء المسؤولية الأخلاقية في النقد، التي هي أهم مقوم من مقومات أي ناقد أدبي.


ومن مفاهيم بوث، التي كانت عرضة للسطو عليها: السارد الثقة والسارد غير الثقة أو غير الموثوق به unrelibe narrator والسارد المخادع الذي يستحوذ بالضرورة، على اهتمام معظم القراء وإلى أي درجة يكون السارد عرضة للخطأ، ما مثّل بوث عليه بجيلي جيمسون في قصة «فم الحصان» وهندررسون في رواية «بيلو»، وبوث الذي آمن بأن السرد فن وليس علما هو الذي عد (المؤلف الضمني implied auther) صديقا ومرشدا للسارد، وبيّن كيف أن السرد شكل من أشكال البلاغة.

وما وقع مع بوث وقع أيضا مع ميشيل بوتور صاحب مقولة (الرواية بوصفها بحثا) وأن (ما يقصه علينا الروائي لا يمكن التثبت من صحته) ومسائل تتعلق بالرواية التقليدية والخيالية والرواية والحقيقة وغير ذلك كثير.


إن محاولة الإيقاع بالقارئ في فخ الإيهام لا الإفهام ممارسة ذميمة لا تمت إلى المصداقية المتوخاة من الباحث الرصين. وأما المزاعم بالابتكار أو التلاعب اللفظي في الإيحاء بذلك، فهو لا يغني ولا يسمن من جوع، لأنه سينكشف عاجلا أو آجلا.


نادية هناوي: كاتبة من العراق (القدس العربي).

نادية هناوي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى