سرديات

كتاباتُنا خرائطُ وجعِنا .. نافذة على القلق والجنس

 

    إلى أي مدى نكتب قصصًا تشبهنا، ومقالات تستشفّ  شقاءنا، وإن استندت إلى نصوص شارحة فلسفيّة أو نفسية أو اجتماعيّة؟!

سؤال استعدت به تجذّري في تفاصيل الواقع بعيدًا من الكلّيات المتعالية، حين لملمت نتفًا من أفلام ومقالات وقصص تداعت بها ذاكرتي. ويصحّ القول إنّ مجموع ملحوظاتنا على ما يدور حولنا يعدّل من أنماط وجوداتنا.

عنوان أول لفتني لمقال قرأته في صحيفة العرب “ثلاثون عامًا في حبّ رجل متزوج”( 30-3-2017) لكاتبته التونسية لمياء المقدم، يتقصّى أحوال النفس البشرية وخارطتها، ويحكي المهمّش، ويزعزع المسلّمات حيال توصيف “العشيقة”، ويعطي للعشق معنى آخر مشفوعًا بالإيثار، وبما يسمّى الاكتفاء بالحب والحبيب، والاغتناء بهما بعيدًا من متطلّبات الأمومة وحاكميّات المجتمع؛ فتقول الكاتبة: “أن تقضي امرأة عمرها كاملًا في حب رجل تعرف أنّها لن تمتلكه يومًا، شيء يشبه الحياة من أجل الحياة، شيء خارق وفريد، لأنّ معادلة الخسارة والربح فيها مفقودة… تضعنا هذه التجربة أمام دراما الحياة، وأمام جدلية الخطأ والصواب، والتضحية والتملّك، وتقلب تصوّرنا عن أشياء كثيرة”. اختارت هذه السّيدة حبًّا بلا وعود قد تخمد لهيبه.

عنوان آخر نقلًا عن رويترز، بعنوان ” التلفزيون البريطاني يبث تسجيلات للأميرة ديانا عن الجنس والحزن”، هو خبر بث أشرطة تعترف فيها الأميرة بحزنها ودهشتها من سلوك زوجها الأمير تشارلز حيالها، فتقول: ” كان الأمر غريبًا جدًا، لم يكن هناك أي احتياج من ناحيته، فقط مرّة كل ثلاثة أسابيع”. الأميرة قبلة العيون وتوق القلوب، لا تجد نفسًا تسكن إليها وقلبًا تستظلّ في حناياه، لا سيما إذا عدنا إلى قول لها في مشهد درامي يحكي قصة حبها للطبيب الباكستاني، يؤكّد عمق مأساتها العاطفيّة، حين أعلنت أنّها قد تجد عشرات الرجال يعلنون حبهم لها، لكنّها لا تعثر على أيّ منهم على استعداد بأن يبقى معها، أن يعيش معها. امرأة تملك ما تملك وتحتاج إلى وعد بالحب، لا إلى حبّ بلا وعد. تثير هذه الحالة تساؤلات حين لا يجد القلب سبيلا له إلى قلب آخر، ولا يعثر في حب نفس قيمة إنسانيّة ما، وحياةً بمنزلة مرآة  له.

سيرتان لامرأتين، الأولى على لسان صديقة تكتبها وترويها، وأخرى تجري على لسان صاحبة المأساة، تعودان بذاكرتي إلى قصّة كتبتها، تستند إلى الواقع تمعن في إضافة بعض الخطوط على خريطة الحياة النفسيّة للمرأة؛ إذ تروي وجع امرأة تزوّجت في سنّ متأخرة من رجل خمسيني عاش متبتّلًا قبل الزواج، ونُعت بـ “الآدمي”، أريد له أن يتزوّج، فرضخ لإرادة الجماعة إسكاتًا لسوء ظنّهم به، وسرعان ما فارق الحياة بعد أشهر من زواجه. تعلن الأرملة أنّ الحبّ الذي لم يعتده قضى عليه، ليترك جوعًا دفينًا لجسدها لم تجد ما يشبعه، بالتعبير الفرويدي، سوى كلمة أفرغتها ليلة عرس وحيدها حين حكت له غصّتها مستصرخةً إيّاه: “فلتحيَ بالحب! أريدك أزعرَ”. أرادت بطلة الحكاية تزويج ابنها باكرًا تعويضًا عن حرمانها. هو “فائض ما نسمّيه عقلًا”.

حكاية تختزل ثقافة الوعي الجمعي لبيئتها؛ ثقافة الزهد والتعفّف. في هذا الاختزال بلاغة أثر الموروث المتجذّر في التنشئة ليغدو مكوّنًا أساس من هويّة  الذات أنثويّة كانت أم ذكريّة. ثقافة تطمس أي دور للجوارح، ولذة الجسد تاليًا، لإقامة التوازن النفسي- الجسدي. يهرب الأفراد إلى التبتّل والعبادة مغيّبين في عمق العمق ما حسبوه نقصًا في طريق الكمال، مبرّرين عجزهم لاحقًا عن الاندراج في العالم المادّي وما تتطلّبه الحياة الحسّيّة، والزوجيّة بخاصّةٍ. تتعمّق المأزقيّة بين الشريكين، وقد لا يقوى أيّ منهما على التقدّم بخطوات أكثر جرأة في طريق الحلّ.

في صورة مشابهة، لكنّها تبدو مقلوبة، تحضرني قصّة شاعر برناسي ينحت إطارًا شعريًّا لحب الجمال وجمال الحب. قيل إنّ زوجته انتحرت بعد بضعة أيام من زواجهما. يجد التحليل النفسي لأدبه بعض خيوط تقودنا إلى أنّه ربما كان يعاني عجزًا جنسيًّا، فيغلّفه في صنعة الفن لأجل الفن، ملمّعًا فيه صورة الحب لأجل الحب كفكرة وشعور جماليّ. سيميائيات الإشارة تفصح عمّا استقرّ في قعر النفس، ويخبرنا السيكولوجي الفرنسي جاك لاكان (1901- 1981) بأنّ التحليل النفسي هو تلك اللعبة البين- ذاتيّة التي من خلالها تدخل الحقيقة حيّز الواقع. فالفكر الخالص خاضع لقوانين اللغة القادرة على إعطائه كثافته، بحيث إنّ طريقة فرويد التحليليّة تقوم على فكرة التطهير من خلال الكلمة، بوساطة التداعي الحر للذكريات، فتعود إلى الظهور أفكار ودوافع لم تبق موجودة في الوعي.

تحت عنوان “القلق والجنس”، يعيّن القلق في التحليل النفسي بأنّه خوف من الخوف يتموضع خارج جسدنا، ويمكن للجسد، بما فيه الذهن، أن يكون حافزًا له؛ إذ إنّ كثيرًا من هذه المخاوف والإحساسات بالقلق لها علاقة بالجنس؛ الأمر الذي يفسّر حزن الأميرة ديانا، والشجن الذي يطفو في سحابة العينين لدى العديد من النساء مهما حاولن إخفاءه. العين كالكلمة مرآة، ونافذة على وجعنا.

 

سمية عزام

سميّة عزّام- دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها- الجامعة اللبنانيّة كاتبة قصّة، وناقدة. تُعنى بالمقاربات السيميائيّة، والتّأويليّتين الوجوديّة والاجتماعيّة، والتفكيكيّة للنصوص، السّرديّة منها على وجه الخصوص. لها دراسات ومقالات في مجلّات ودوريّات عديدة، منها: كتابات معاصرة، والهلال، وفكر الثقافيّة، وأدب ونقد، وأخبار الأدب... لها إصدار في المقالة القصصيّة للناشئة، يحمل عنوان: "تراثنا إن حكى بين القرية والمدينة".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى