سرديات

دلالة الأشياء في الرواية المغربية

ماذا نقصد بالشيء ؟

 

يقول بطرس البستاني: “الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو مذكر يطلق على المذكر والمؤنث. فالشيء في حق الله بمعنى الشآءي وفي حق المخلوق بمعنى المشيء ج.أشياء وجمع الجمع أشياوات وأشاوات وأشاوى ويجمع أيضا على أشايا. وحكي أشيايا وأشاوه وهذا غريب لأن ليس الشيء هاء”[1].


ويعرف جروان السابق الشيء على أنه “موضوع شيء محسوس، شيء منظور، جسم، مادة، سبب، غرض، قصد، نية، مأرب، مراد”[2]. وكذلك الشأن مع منير البعلبكي الذي يجعل سمة الشيء “الإدراك بالحواس”[3]. أما صاحبي المنهل فيعتبران الشيء مجرد مادة أو جسم[4].


وإذا تجاوزنا المعاجم العربية التي لا تعطي إلا تعريفا جزئيا للشيء فإننا نجد المعجم الفرنسي Larousse يعرف الشيء كاسم مذكر يطلق عليه باللاتينية Objectum شيء موضوع بالأمام.. ويتحدد بشكله ومادته ولونه مسخر لاستعمال محدد. هدف لعمل أو سلوك في نشاط ما. سبب أو محرك للإحساس أو الفعالية[5].

ويعتبر معجم Micro Robert الشيء اسما مذكرا. وهو قسمان: الأول مادي وهو الشيء الصلب الذي له وحدة واستقلال ضامن لبعض المقاصد، وهو إما ما لا يراد تسميته Machin، أو لا ننجح في تذكر اسمه Truc. وأما الثاني فمعنوي ومجرد وذهني ويدخل في إطاره كل ما يرتسم كفكرة.

أما أندريه لالاند André Laland فيرى الشيء في معناه العام ما هو موجود أمامنا وما نتفحصه وما هو مرئي، أما في معناه الجزئي فهو:

أ-ما هو مفكر فيه أو معروض والذي نميزه عن الفعل الذي هو به مفكر.

ب-ما نقترح الوصول إليه أو تحقيقه ونحن نتصرف.

ج-ما هو معروض علينا في سياق خارجي بخصائص ثابتة ومستقل عن آراء الموضوع.

د-ما يتوفر على وجود بذاته. مستقل بالمعرفة أو الفكرة التي تكون في متناول الأفراد المفكرين[6].


يعتبر الحديث عن مفهوم الدلالة معقدا وخطيرا في نفس الآن، فقد انصبت عليه الدراسات البلاغية العربية منذ القدم، فالجاحظ يرى أن “جميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصية”[7]. أما الشهرستاني فيؤكد بأن “لكل عبارة خاصة مدلول خاص متميز عن سائر المدلولات”[8].


ويذهب صاحب كتاب المنهاج إلى القول: “إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه. فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ.


فإذا احتيج إلى وضع رسوم الخط تقيم فيه الأفهام هيئات الألفاظ فتقوم بها في الأذهان صور المعاني فيكون لها أيضا وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها”[9]. أما الاستربادي في كتاب شرح الشافية فالمعاني عنده قد تأتي لغير ما وضعت له، “واعلم أن المعاني المذكورة المتقدمة هي الغالبة فيها، وما يمكن ضبطه. وقد يجيء كل واحد منها لمعان كثيرة لا تضبط”[10].

وحديثا تتناول اللسانيات مفهوم الدلالة في فرع يسمى بالسيميائيات الذي يدرس العلامات اللسانية والأشكال الدلالية والأنماط المتولدة من الصور الدلالية المتخيلة.


يهتم علم الدلالة في إطار السيميائيات بدراسة الكلمات، ويشكو هذا العلم حسب بيار غيرو، كغيره من العلوم الأكثر قدما وجدة من أنه لم يحدد غايته بدقة. ولم يوضح إلى ذلك ماهية مجموعة اصطلاحاته. ولذلك يضل المختص والجاهل سبيلهما إلى هذا العلم لما يكتنف تسمية Sémantique من مغالطات في الواقع. إن كلمة علم الدلالة المشتقة من الكلمة اليونانية Sémino “دل على” والمتولدة هي الأخرى من الكلمة “Séma” أو العلامة هي بالأساس الصفة المنسوبة إلى الكلمة الأصل “sens” أو المعنى.


ويلاحظ بيار غيرو بأنه بالإمكان تصنيف الدلالة إلى ثلاثة أنساق أساسية: “أ-المسألة النفسانية. لماذا وكيف نتصل؟ ما هي العلامة وماذا يطرأ على نفس المتحدث والمستمع على السواء حينما يتصلان؟ ما هو الأساس والآلية الفيزيولوجية والنفسانية لعملية التخاطب هذه؟ ب-المسألة المنطقية.

ما هي العلاقات التي تحكم العلامة بالواقع؟ وفي ظل أية ظروف يمكن للعلامة أن تكون قابلة لتطابق موضوعا أو موقفا يتعين أن تدل عليهما؟ وما هي القواعد التي توفر دلالة حقيقية؟ ج-المسألة الألسنية. وقد تنشأ مسائل ألسنية متعددة، لأن لكل نظام علامات قوانينه المختصة به والتي تتلاءم وطبيعته ووظيفته”[11]. وما دمنا في إطار الحديث عن علم الدلالة يجدر بنا أن نشير إلى رأيين، الأول لعادل فاخوري الذي يرى بأن الدلالة ثلاثة أصناف: عقلية وطبيعية ووضعية[12].


والثاني لإبراهيم أنيس الذي يعتبر الدلالة الاجتماعية هي الأساس في عملية التواصل مع الإشارة إلى أن المعاجم قديمها وحديثها تتخذ من الدلالة الاجتماعية هدفا أساسيا وتكاد توجه إليها كل عنايتها، ولا تعنى من النحو والصرف إلا بما شد عن القاعدة النحوية أو الصرفية[13].

ذهب ألكسان دريان Alexan Drian في كتاب الإبداع وإعادة الإبداع إلى تصنيف الأشياء إلى خمسة أنواع:

“1-الشيء المألوف

2-الشيء “الديكوري”

3-الشيء المقدس

4-الشيء المتظاهر

5-الشيء الشاعري”[14]

يظهر بأن الشيء قد خرج على الأقل من دائرة الوحدة إلى دائرة التعدد اعتمادا على هذه التصنيفات، بحيث لم يعد فقط ذلك المألوف الذي ننظر إليه في حياتنا اليومية دون إعارته أدنى اهتمام اللهم إلا من وظيفته الاستعمالية: كأس للشرب أو ملعقة للأكل أو منزل للسكن أو سيارة للتنقل.


الحقيقة أننا نعي الشيء في ذاته ولا نفكر مطلقا فيما قد يحمله من دلالات لأننا ننطلق في نظرتنا إليه من أحكام قيمة لحظوية، نقف أمام قطعة أثاث أو ديكور معين فنحكم بجمال أو قبح ذوق صاحبهما، ونضع صحون الأكل ولا نفكر فيها كأشياء ذات دلالة رمزية، بل نفكر فيما هو موضوع فيها من أكل وننظر إلى عقد في جيد امرأة فنحكم بجماله أو قيمته المادية، أو ننظر إلى عصا أو صخرة أو شجرة أو قناع أو تمثال ونحكم عليه بالشيء المقدس عند الشعب الفلاني أو الفلاني.

ولكننا في جميع ما سبق لا نحمل أنفسنا عناء البحث في دلالة أي شيء من الأشياء: هل هذا الشيء الديكوري يدل على الرفض أو التمرد أو الإبداع أو التقليد، هل أواني الأكل تدل على فردية الإنسان أو اجتماعيته، وهل العقد ينحو ليعبر عن الوضع الاجتماعي، وهل القناع أو التمثال يدلان على معتقدات يختزلها الشيء ولا يكشفها إلا لمن يبحث عن جوهر الأشياء.


إن ما يتداعى في أذهاننا ليس الأشياء وإنما الصور الذهنية للأشياء والفكرة التي نكونها عنها. وهاته الأشياء لا تمثل الواقع ولكنها تمثل واقعا في حد ذاتها، فالمعنى كما يصلنا في الخطاب يخضع لعلاقة أو علاقات الأشياء مع غيرها من الأشياء الموجودة في السياق. إن الشيء في ذاته لا قيمة له إلا من خلال استعماله. إلا أن القيمة السيميائية الحقيقية له تكمن في إيحائه ودلالاته التي تخرج عن دلالة ما يحمله الشيء/اللفظ في المعنى المعجمي إلى معناه في تركيبه النسقي.


أكيد أن قيمة الشيء تنبع من القيمة الدلالية للفظ الدال عليه من معناه الذهني. فأهم شيء هو العلاقة بين الإدراك والشيء. ومن هذا المنطلق يرى ميخائيل باختين ازدواج المعنى من خلال محورين، محور أفقي يضم المرسل والمتلقي ومحور عمودي يضم النص والسياق: “إن هذين الأمرين يجتمعان ليكشفا عن أمر مهم الكلمة-النص فهي (فهو) ملتقى الكلمات –النصوص- إذ تقرأ ككلمة أخرى أو نص آخر”[15].


إننا لما ننظر إلى الشيء ونستوعبه في تشكلاته المادية ووظائفه المألوفة يجب أن نرقى به إلى مستوى الفكرة لنتأكد فعلا من أنه مفهوم حامل لكل الدلالات الممكنة المرتبطة بسياق وجوده، فللأشياء رمزية وجودها ما دامت تمثل عالما ذا بعدين، بعد موضوعي يعبر عنه الشيء، بعناصره المادية وبعد ذاتي يعبر عنه الشيء بعناصره الرمزية المتصلة بعلائقيته مع المحيط الثقافي والفكري والإيديولوجي والحضاري للإنسان.


فالرمز بهذا المعنى شيء ملموس يحل محل المجرد كرموز الرياضة التي تشير إلى أعداد ذهنية. وهناك وجه أكثر تعقيدا هو الشيء الملموس الذي يوحي عن طريق تداعي المعاني إلى ملموس أو مجرد كغروب الشمس مثلا الذي قد يدعو إلى التفكير في حالات الضعف والسكينة والشيخوخة، أو تصوير رجل هرم رمزا للشتاء. وتلعب العوامل النفسية بلا شك دورا هاما في تحديد الدلالة. فالصليب مثلا وهو رمز المسيحية قد يوحي بانفعالات وتأويلات مختلفة حسب اتجاهات الناس نحو المسيحية نفسها، فهو لا يجد نفس الصدى لدى اليهودي أو البوذي الذي نجده لدى المسيحي[16].


اهتم الأوروبيون حاليا، انطلاقا من وعيهم بقيمة الأشياء الرمزية بهذا الجانب في مختلف الدراسات الاجتماعية والنفسية والأدبية. فالنقد الأدبي لم يعد يأخذ الأشياء من جانبها المادي فقط، بل يتابعها في النصوص الإبداعية من منظور علاقتها بتوجهات الكاتب، فنجد على سبيل المثال ألكسان دريان في فصل (شاعرية الشيء) من كتاب الإبداع وإعادة الإبداع يعتبر الشيء الموجود في حياة الإنسان شهادة على الحضارات الإنسانية وأنه احتل موضعا هاما في الجماليات المعاصرة على اعتبار أنه لم يعد فقط مجالا لتمييز العديد من المنتجات بقدر ما أصبح في الحياة المعاصرة مدلولا لمجموعة من القيم الرمزية[17].


ونجد لورون Laurent في كتاب من أجل معرفة سارتر يوضح أن ما يثير قارئ كتابات سارتر هو أهمية الأشياء في كتاباته: ورقة بيضاء في أول صفحة من كتاب التخيل، الصخرة في الغابة، الذباب في الإنسان والعدم. وهو عندما يتحدث عن هذه الأشياء، فإنما من خلال علاقاتها الرمزية مع عالم الإنسان[18].


إن للأشياء سلطتها الرمزية التي تتجاوز حدود النص الإبداعي لتنفتح على كل العوالم الممكنة، يكفي أن نجد في نص روائي لفظة سور برلين أو حاملات الطائرات إيزنهاور أو المكوك الفضائي شالنجر أو زجاجة كوكاكولا.. لنخرج من إطار النص كمعطى مكتوب إلى إطار الدلالات الرمزية لهاته الأشياء التي يعبر عنها، ولكنها تتحداه بأن تجسد سلطة لقصة من خارج النص.


يكفي أن ننظر الآن إلى الأشياء في اللوحات الإشهارية وفي البرامج التلفزية والأفلام السينمائية من معروضات ومفروشات ولوحات فنية وملابس وسيارات وكل شيء من صنع الإنسان في العصر الحاضر لندرك أن الشيء في نهاية المطاف لم يعد أبدا اسما دالا على شيء مادي فقط. بل إنه أصبح مفهوما يجسد العديد من المدارك المتداخلة.


لما نقف على سبيل المثال أمام سيارة Honda أو Toyota ونعجب بها فإننا في نهاية المطاف نعجب بصناعتها ونرى فيها الدلالة على قوة الصناعة اليابانية ونتصور في أذهاننا ذلك الياباني القصير القامة المعروف بالجد والمثابرة والخلق والابتكار.. ولما ننظر إلى سيارة الليموزين Limauzine الأمريكية فإننا كأفراد عاديين تأسرنا جماليتها أو نرفضها كموقف طبقي باعتبار دلالتها الرأسمالية لأنها لا تمثل في أذهاننا شيئا ماديا مجردا، بل دلالة على الغنى الفاحش والأضواء والنجومية والسلطة. وهكذا دواليك في كل الأشياء المرتبطة بالأكل واللباس والسكن وحتى تلك المرتبطة بالأفراح والمآثم.


لقد تكرس مفهوم الشيء في حياتنا المعاصرة بشكل خطير حتى أن قيمة الإنسان أصبحت تقاس بالنسبة لعلاقته مع نوعية الأشياء، فالإنسان إما متخلف أو متقدم، متحرر أو محافظ، رجعي أو تقدمي، غني أو فقير، اعتمادا على مقياس علاقته بالأشياء التي أضحت هي الأخرى علامة على الخوف والطموح والفشل والسعادة والحب والكراهية، أي كل التلوينات الممكنة التي تصادف حياة الإنسان.

أصبح الشيء يمارس إغراءه المفهومي والرمزي وعلى أساسه تتم بلورة العديد من النظريات على مستوى النقد الأدبي، فهو لم يعد تشكلا ماديا فقط، بل إنه مفهوم يمكن أن يكشف على ضوئه العديد من الحقائق.


لما نقرأ النصوص الروائية المغربية ونجد الأشياء تحتل الفضاء الروائي أو حيزا منه فإننا لا نعاملها كأشياء عادية، بل ننظر إليها كنوع من الموقف والاختيار من لدن الكاتب ليصل بها إلى أطروحة معينة، أو موقف يمرر عبره مجموعة من الأخلاقيات والخطابات، إذن فاعتماد الكاتب على توظيف الأشياء في إبداعه لا يخضع مطلقا لدلالة الأشياء المادية حتى وإن كان لها نفعية استعمالية، وإنما لدلالتها الرمزية.


فعندما نواجه بأشياء من قبيل: (مصعد، سيارة، كأس، حذاء، دراجة، زبل، ألبوم للصور، قبر، الزعتر، الشيح، الحرشة، الملوي، الطريق المعبدة، الطريق المتربة، الإشارات الضوئية، الشمس، الفلوس، الكيمون، الشمعة، الإشارات الضوئية، السداري، الكتاب المقدس، شعر الساحرات، يلان، الصابون..) إلى غير ذلك في الروايات المغربية فإننا ندرك جيدا أن مقصدية الدلالة رمزية، وأن الشكل المادي للشيء ما هو إلى وسيلة لتوليد الدلالة المراد بلوغها ولو بقليل من التأويل.


ينقلب الشيء في الرواية المغربية من مجرد دلالته على تسمية إلى عنصر مهم في تحديد الصورة. مثلا ينتقل الكأس في رواية المباءة من شيء للاستعمال المادي إلى دلالة مشحونة بالإدانة والتداعيات، بل يصبح حديثا عن التاريخ غير المكتوب:


“هذه هي الكأس ذات التزاويق لم أشرب منها وقد رأيت فيها الارتعاشة وعروق يد نافرة زرقاء. رأيت فيها القبعات العسكرية وأحذية الجنود الشقر التي دقت طريق “الطالعة” و”العطارين” و”الرصيف” و”باب مولاي ادريس”. رأيت في الكأس الشعر الأشيب، وسمعت منها الضحكات و”المارسيلياز” ورأيت صليبا تكسر، ورصاصة تخترق المحراب وصدر الفدائي.

الكأس قالت لي، أسرتها وألوانها العجيبة هي التي قالت لي وحافتها المتثلمة الشفاه التي رشفت منها والأيدي التي أمسكتها. تاريخ غير رسمي ولا مكتوب تكتبه هذه الكأس وأنا رأيت قاعة الاجتماعات العسكرية. وقامة المقيم العام المنتصبة. وتمثال ليوطي النصفي والرصاص الذي تدفق من عيون وضحكات “الكوم” و”لا ليجو” و”ساليكان” والمطر وعرائض العلماء وعيون الخيانة باعت واشترت وحضرت هنا وهناك.

أهذا هو تاريخ الكأس؟ ولماذا لا يمتد هذا التاريخ ويتوقف عند زمن صار منسيا؟(…) قد تمتد فيه ضحكة الماريشال ليوطي وقد لا يتوقف ذلك الزمن ويأتي إلى عصرنا. لكني أكره مثل هذه الكأس”[19].


نتبين أن الكأس في هذا المقتطف الروائي لم تعد كأسا بالمعنى المعجمي (الإناء العادي أو المزوق لشرب الشاي أو الخمر) بل تجسد عالما للمحاكمات والتداعيات والرفض والكراهية والقمع الاستعماري والتاريخ الذي لم يكتب. لم تعد الكأس فضاء للسائل وإنما مجالا لكل المتناقضات التي تتداخل فيها الذات مع الأجنبي ويتقاطع فيها المستعمر مع الوطني ويمتزج فيها الحب بالكراهية.

وتعطي الأشياء قيمة إضافية في تأطير صورة الآخر الذي يقدس موتاه ويهتم بقبور موتاه ويصنعها من الرخام ويضع عليها الزهور:

“وتذكر قبور النصارى والرخام الإيطالي. وأين هم النصارى الآن؟ حتى إلى المقبرة لا يأتون، قبورهم غريبة ليس لها أهل. انقضى زمن الورد. الصلبان والأكاليل المبعثرة وشرائط الحرائر الحمراء والصفراء وكتابة الأشعار والرائحة السوداء والمناديل الشبكية التي تغطي وجوه النساء”[20].

لا يقدم هذا المقتطف الروائي مجرد أشياء مادية، بل نسقا من الأشياء تكون فكرة عن طقوس الموت عند الأوروبي التي هي جزء من عقيدته المسيحية ولكنها تعبر على كل حال عن احترام الموت.


وتجسد السيارة ولعبة الغولف رمزا للتفوق: “الشيء الوحيد الذي فاته هو أنه يحبب له لعبة الغولف”[21]، هذه اللعبة التي تنتقل من مجرد رياضة أو لعبة ترفيهية إلى سلطة سياسية واقتصادية توضح صورة وكيفية ممارسة الفعل الغربي: “عند التفكير كان عليه أن يجتهد ويتعلم تلك اللعبة التي تسهل الاتصالات، بين الضربة والضربة تشيد شركات وتفسخ اتحادات”[22].

إذا كانت لعبة الغولف تمثل نوعا من السلطة الغربية وشكلا من أشكال الهيمنة في رواية الفريق، فإن الزبل أيضا يكرس مفهوم تميز الأوروبي عن المغربي في رواية الخبز الحافي حيث “مزابل المدينة أحسن من مزابل حينا. زبل النصارى أحسن من زبل المسلمين”[23]. هنا يقع التفضيل لأن البطل يجد شيئا صالحا للأكل في مخلفات النصارى لتبقى رمزا دالا للظروف المعيشية والاقتصادية المتيسرة التي يعيشها الأجانب في مدينة طنجة –المنطقة الدولية- على عكس الظروف الصعبة التي يعيشها المواطنون المغاربة. هكذا يكرس “الزبل” الذي هو عبارة عن قمامات وفضلات أداة للتمييز الحضاري والثقافي والاجتماعي.


وتنقلب إضمامة الصور مع محمد شكري من مجرد حاوية للصور إلى عالم واسع من التداعيات. عالم يسمح بتمرير شهوات الخادم أو رغباته المكبوتة تجاه مخدومته مونيك: “أخذت إضمامة صورها. تأملت صور عائلتها بسرعة. قلت لبعض صورها وهي طفلة: اكبري اكبري اكبري بسرعة. بدأت تكبر. في كل صفحة من الألبوم أقبلها. توقفت عند صورها الشاطئية خارجة من الماء أو مستلقية على الرمال مع زوجها أو وحدها.

ثلاث صور تبدو فيها عارية تماما: الأولى واقفة، منحنية قليلا إلى الأمام. واضعة يدا على يد أسفل بطنها. الثانية على ركبتيها جالسة فوق ديوان من الفراء، صدرها بارز، مستندة إلى الوراء بيديها، استثارتني(…) في الصورة الثالثة مستلقية على الديوان. رأسها يتوسد يديها ساقها اليمنى مقوسة قليلا. قال لي وضعها هذا: تعال”[24].


تكرس الأشياء في رواية المعلم علي مفهوم تقدم الغرب وتطوره ودليلا للحب الذي يكنه البطل لهذا الغرب، فلا يظهر الشيء ممثلا فقط لمدلول معين متفق عليه ولا يبقى محافظا على مفهومه المعجمي فحسب وإنما يمثل فضاء للارتباط العضوي بين الشيء في حد ذاته والجنس البشري الذي يمثله.

فتصبح الدراجة الهوائية الآتية من الغرب فرسا سحريا[25]، والحديث عن العمل في معمل الصابون “حديث جديد عن عمل نظيف وإنتاج سريع واختصاص في العمل وتدقيق في الوقت وتركيز على العمل داخل المعمل لا في المعمل والخارج معا”[26]، ثم آلات تسير بقوة سحرية لا تحركها قوة انجراف الماء في النهر كما كانت تحرك المطحنة فتدور، ولا تحركها يد قوية أو رجل مرنة كما تحرك آلات النسيج”[27].


وإذا كانت هذه الأشياء ترمز إلى تقدم الغرب وتطوره التقني فلننظر إلى صورة أخرى من نفس الرواية تكرسها مجموعة أشياء كلها تدين الاستبداد والهمجية الاستعمارية:

“وتدخل الحي جماعة من أصحاب القبعات البيضاوية والقبعات السوداء تقتعد على أنوف بعضهم نظارات سوداء في عز الليل وتغلف أيديهم قفازات حمراء وتقبع ستراتهم كتلة ضخمة في علاقة جلدية شديدة البأس”.

لم ينصب الاهتمام هنا على الإنسان وإنما على الأشياء التي تؤطره (القبعات، النظارات السوداء، القفازات الحمراء..) كتعبير عن دموية فرنسا من خلال دلالة الأشياء على التسلط والقمع.


أما في رواية إملشيل فيمثل المصعد الرقي الحضاري والتقني للغرب (أمريكا) وتكون السيارات والبنايات والواجهات والمآثر من الأشياء المكرسة لتقدم أمريكا وفي المقابل تخلفنا نحن حينما ينفتح مجال المقارنة: “وأسرعت لتستقل المصعد الذي بصق الجميع مرة واحدة عند أقدام بناية الأمم المتحدة ورفعت رأسك نحو السماء، تبحث عن كيف علقت بكل علوها. لأنهم باسم الله رفعوها. وانطلق عفريت السيارة الفارهة يتلمس طريقه بين عمارات نيويورك سيتي وورد ثيرد سنطرال وعنقك يدور فوق كتفيك وتسبقك عيناك لتنفذا من الزجاج وتلتصقان بالواجهات”[28].

لا تتوقف رواية إملشيل عن الانبهار بهاته الأشياء التي تقدمها، بل تبحث عن مساءلة الآخر، ماذا يحصل لو توقفت هذه المصاعد لحظة؟

“وكان السيد والتر فيلد وزوجته اليهودية لا يبخلان عليك بالشروح ذات الإعجاب الواضح بهذه الأعضاء الجنسية القائمة في مجامعة أبدية للسماء.

فكرت لو تتوقف المصاعد لحظة واحدة –ما تراه يحصل- وجدت الجواب عند السيد والتر فيلد الذي قال:

ـ مرة انقطع التيار الكهربائي عن مدينة نيويورك وكان الوقت ليلا. وفي ظرف وجيز أعلن العصيان المدني وتوقفت كل المصاعد ريثما تنهب المحلات التجارية الكبيرة من طرف رجال ولدوا لهذه اللحظة”[29]. إن المصعد الذي كان معبرا عن تقدم الغرب ورفاهيته الاجتماعية، ينقلب من قمة التكنولوجيا إلى كارثة اقتصادية واجتماعية. فلمجرد انقطاع الكهرباء يتوقف كل شيء وتسود الفوضى ويولد رجال لهذه اللحظة يمارسون السطو ويكسرون واجهات المتاجر ويسلبون محتوياتها. إنهم رجال يكبل حياتهم الكهرباء ويحررها الظلام.


ونجد في مقابل دلالة هذه الأشياء على تقدم الآخر، نحصل على أشياء مغايرة تدلعلى تخلفنا نحن. “قالت أوديل لهم الشمس والبحر ولنا المال والسلطة. كل أجزاء الكرة الأرضية تدور إلا هذا الجزء من العالم فهو متوقف أبدا، يشعرك بأن لا فائدة أن تدور هي حول الشمس أو تدور الشمس حولها.. يقطعون آلاف الكيلوميترات ليشاهدوا كيف كان جدهم آدم يرقص رقصة الدودة خارجا من أعماق الزمن ليغني لكل هؤلاء القادمين من وراء البحر الباحثين عن ذاتهم الثانية عن المرقص للثعبان، المؤنس للحيوانات المفترسة السابح في نهر النسيان الخارج من العالم والقرن اليوم يدشن المسيو رقصة الكدرة ويراقص الشيخة (هنا بنت الرشيد) أمام الغمز واللمز”[30].


ويمثل الضوء والسفينة والأسماء عند الميلودي شغموم رغم تجريديتها شكلا من الانبهار: “وكاد يغرقه الخوف عندما تنبه إلى أن تلك الأشعة الكثيرة لا يمكن أن تصدر كلها عن السفينة، ثم لبث أن ربط هذه الصورة بصورة أخرى في ذاكرته، صورة السفينة الإسبانية التي كانت ترسل أضواءها الباهرة(…) كانت السفينة وكأنها الشمس حطت في عمق البحر.. لم ير حميد من السفينة الإسبانية غير الأضواء.


لكن الرعدة الذي سبق أن اشتغل في السفن الإسبانية قال للذين بهرتهم تلك الأضواء ومنهم حميد: “تلك سفينة صيد إسبانية اسمها سانتا ماريا ومالكها اسمه السنيور خمنيث برادو إنه لا يصطاد إلا الحيتان العملاقة”. وبهرتهم الأسماء وطريقة نطقها بالدرجة أو أكثر التي بهرتهم بها الأضواء”[31]. ويستمر الانبهار بالأشياء الغربية في رواية الفريق ولو في سياق مختلف: “ذاق سرحان خيرات أسواق كاليفورنيا، التفاحة التي تزن رطلا وأكثر، حبة العنب التي تمثل برقوقة صغيرة، الخوخة التي تضاهي البطيخة”[32].

تمثل هذه المنتجات الفلاحية نموذجا لتفوق الآخر وتقدمه الفلاحي وفي المقابل تخلفنا نحن من خلال المقارنة: فحبة العنب هناك تمثل برقوقة صغيرة هنا والخوخة هناك توازي بطيخة هنا، ومن ثمة تفضيل ما هو موجود في أسواق كاليفورنيا على ما هو موجود في أسواق المغرب.

إننا ندرك سلطة هذه الأشياء على شخصيات رواية الفريق الذين يعتبرون الـ”هناك” نموذج الفلاحة ما دامت أرضه تحبل بتلك الخيرات، ففلاحوه هم الذين يحق لهم أن يسموا فلاحين ماداموا يحصلون على محصولات بهذا الكم.

وختاما لهذا الجرد الذي قمنا به للأشياء ودلالاتها في بعض الروايات المغربية نقترح دراسة نموذج متكامل من رواية أيها الرائي لمحمد عز الدين التازي حتى نوضح بشكل قاطع قيمة الدلالات الرمزية للأشياء.

تنفتح الرواية ليس فقط على الذات الوطنية في مواجهة الآخر، بل تعمم الرؤيا على كل إفريقيا لتجعل منها ومن خلال أشيائها واقعا في مواجهة واقع أوروبي مخالف.

“ـ كيف يعطوننا الكتب ونحن لا نعرف القراءة؟

ـ نتوسدها تحت الوسائد. هذه تمائم تدفع الشر.

مزق طامزير المأفون كتابه. كمش المزق ورمى بها جهة الأشجار. هذه الكتب لا علاقة لنا بها. أمي تحتفظ تحت وسادتها بأظافر جدها السابع عشر وأنا لا أفهم ما في هذه الأوراق. عندنا شعر مفرق الساحرات الأشيب. وقلوب الأطفال. ومهابل الجارات والأرواح التي في الحجارة والطير والشجر. بها ندفع عنا الشر. آه تركنا كل شيء وراء البحر، حتى الآلهة وبكى طمازير”[33].

إننا نصبح أمام تقابلات حضارية وثقافية وعقائدية. أوروبا المسيحية في مواجهة إفريقيا الوثنية وكل ذلك على مستوى الأشياء.

يدل الكتاب كشيء على العلم والمعرفة، ثم يدل على العقيدة عندما نعتبره كتابا مقدسا. فهذا الكتاب بمفهومه الثاني يصبح فارغ الدلالة أمام واقع يجعل القراءة ويعتقد في أشياء بعيدة عن العلم أو القراءة، ولكنها تكون من صميم ديانته هو، ومن صميم التخلف والأسطورة لذلك الآخر الأوروبي.

يعتبر التقابل على مستوى الأشياء في رواية أيها الرائي من صميم التقابل بين الحضارات، اختلاف يغذيه اختلاف الأصول والعادات ويساهم في هيمنته انعدام الثقة: “أخرجت أيدي الرجال الثالثة من تحت الأردية بعض الأشياء وقدمتها لطامزير. في يد تفاحة. وفي الأخرى قطعة جبن. وقدمتها لطامزير. وفي الثالثة قارورة خمر. كل الأيدي امتدت دفعة واحدة نحو طامزير.

أذهلته هدايا الأيدي الممدودة إليه ولم يعرف ما سيأخذ. وكيف يأخذها جميعا. تردد. نظر إلى عيون الأردية الحمراء الزرقاء وإلى هدايا الأيدي الممدودة. قال له القائد خذ. هذا لك هؤلاء إخوتك يعطونك. ارتعب طامزير أنا وعل نافر في الغاب. وهؤلاء الطلقة. أنتم الطلقة. لن أقترب. قال القائد:

ـ خذ هدايا هؤلاء الرجال

نظر إليه طامزير وهو يوشك أن يبكي

ـ خذ الهدايا ليست من عندهم.

فتح طامزير عينيه جيدا وقال:

ـ ومن عند من تكون؟

قال القائد:

ـ من عند الرب كما يقولون.

ـ الرب؟

ـ نعم

ـ ولماذا لا تكون من عند آلهتنا؟

ـ اسكت إنهم لا يؤمنون بها

ـ وأنا أفضل آلهتي على هذا الرب

ـ الآلهة تعطي الماء والصيد والكسافا واليام. والرب يعطي الخمر والجبن والتفاح.

ـ لن آخذ

ـ قلت لك خذ

ـ أخشى أن تكون سامة

ـ خذ ولا تخف”[34].

تمثل الصورة التقابلية على مستوى الأشياء وضعا أساسيا للتمايز الحضاري والفكري والعقائدي بين أوروبا اللاهوتية وإفريقيا الوثنية. فالإفريقي الذي يرفض التخلي عن دلالة أشيائه الرمزية يؤكد استحالة تأقلمه مع الدلالات الرمزية لأشياء أوروبا. وإذا كان طامزير يمثل الاستثناء الوحيد في الرواية فإن باقي رفاقه قد بهرتهم أوروبا الإغراء، أوروبا الأشياء الجذابة فأصبحوا حيارى أمام:

“العطر

الشعور الممشطة المسترسلة على الأكتاف

لا ضفائر

شعر كالحرير، وجنات محمرة بيضاء

معاطف وسراويل قصيرة

أرصفة المقاهي

الكراسي والطاولات المعدنية

المشروبات”.

ويعبر طامزير عن تهيبه وخوفه من هذه الأشياء:

“تركنا لباس الريش في الخيمة(…)

أوصتني أمي بأن أخاف. لحظة ودعتها قالت لي لا تصعد دمك إلى عينيك. أنت ذاهب إلى أرض البيض وهم يطلقون الرصاص حتى إذا مازحهم أحد أو أخرج لسانه. كن خائفا وحذرا كي تنجو من حبائل البيض. أريدك أن تعود إلي ومعك من المال ما نشتري به بعض الماعز ونبني دارا صغيرة. وإذا فكرت ألا تعود فافعل بنفسك ما تشاء. خذ هذه الخرزة وضعها في مكان خفي من جسدك وإذا ضيعتها فاعلم أنك ضعت.

ـ وأين هي الخرزة؟

ـ ما تزال معي

ـ هذا يعني أنك لم تضع بعد

ـ وأنت ماذا أعطتك أمك؟

ـ شعرة من مفرق إحدى الساحرات.

ـ السراويل القصيرة.

ـ الأحذية ذات الكعوب.

السيقان البيضاء.

الأرداف الثقيلة.

العطر.

الضحكة”.


كما هو الشأن بالنسبة لرواية المباءة تكثر رواية أيها الرائي من وصف الأشياء وهي في وصفها تقوي الانطباع باستحالة التواصل بين إفريقيا وأوروبا. أو المزج بين الحضارتين. إنها تكرس صورة إما أن تكون إفريقيا بكل أصولك ومعتقداتك وفي هذه الحالة لا يمكنك إلا أن تعود من حيث أتيت، أو تتخلى وتتنكر لأصولك وتعيش الحياة الجديدة، ولا يمكنك أيضا في هذه الحالة إلا أن تعيش مغتربا وإنسانا من الصنف الثاني في هذا الفضاء الغربي.

“سيفزعان منكم”[35] يلقي بكم البوليس خارج هذه الأرض”[36] “أريد أن ألمس جسدا أبيض. لا يمدون لنا أيديهم للتحية خوفا من أن يلمسوا سوادنا”[37] “لم نقترب لا نعرف لغتهم”[38] “كن خائفا وحذرا كي تنجو من حبائل البيض”[39].


تبدو أوروبا غير المسماة إلا بأشيائها مبهرة للإفريقي النازح من الأدغال الباحث عن العمل كأنها سدرة المنتهى فتصور له أشياؤها قمة الحضارة الإنسانية. إنها تعرض عليه “هو القادم من عصر البداوة” كل المغريات، فلنتأمل هذه اللوحات السردية التي تبرهن عن الفارق الكبير بين الشيء في ذاته ودلالته الرمزية بالنسبة لذلك الإفريقي.

العطر الفواح

الخمر

السجائر

الدجاج المشوي

القمرون

الحلوى

والخبز الأبيض

العيون الأيادي35

الشوارع

السيارات

الألوان

الأغراس الخضراء على الشرفات والنوافذ

والجدران

وجه يطل

نهدان عاريان متدليان من الشرفة

أسنان من ذهب

كرة العلك الملفوفة تتدلى

على الشفتين46

هذا ليل المدينة. الواجهات مضاءة

الخطى تعبة سكرانة. البطاطيس المقلي

الصلصة الطماطيمية

الدجاج الدائر بين نيران التنانير

الجعة. قبعات القش المحاطة

بخيوط من حرير بيضاء وصفراء، الأحذية الأنيقة. تنظر إلى أقدامنا الغليظة

السوداء.. بنات عاريات الأفخاد.

الضحكة. الدانتيل اللامع على الأكتاف

العطور. الصدور الناهدة.

الأضواء الخفيفة المنبتة من فوانيس

محمولة على أعمدة من حديد. خرجنا.

من درب ودخلنا آخر.57

السوق المركزي

الورد

الدجاج

الأسماك

التفاح والإجاص والموز

العطر

الكحل في الأهداب

الخدود الموردة البيضاء

الأرداف اللحماء

الضحكة

السيارات المارقة

الواجهات 40-41

يتبين لنا من خلال ملاحقة الأشياء في الرواية المغربية أنها تنزع في الجانب الذي ندرسه إلى إعطاء تصور عام للغرب الذي تفيد أشياؤه القوة والتقدم والرقي والعلم والحضارة وكذلك الوحشية والهمجية والاستغلال.

لقد لعبت الأشياء دورا أساسيا في تشكيل عالم الغرب وإعطاء تصور عام عنه. تصور تلعب فيه المقارنة الجلية تارة والخفية تارة أخرى بين الذات والآخر دورا بارزا في تشكيل الغرب الروائي، وذلك عن طريق العديد من الآليات المعرفية التي تسمح بمسح شامل للآفاق التي يعيشها هذا الآخر.


لم توجد الأشياء في الرواية المغربية بشكل اعتباطي وإنما قامت بدور وظيفي، خدمة البناء الأطروحي للرواية فلم تعد ديكورا خارجيا يرسمه الكاتب ليجعل منه خلفية جمالية، بل أصبحت الأشياء تقوم بدور إيجابي هام، إنها تحضر وتسيطر وبموازاة ذلك لها خلفيات ومحركات رمزية.

فلما يوظف الكاتب الأشياء فإنما يفعل ذلك انطلاقا من علاقة الأشياء الدائمة والواضحة مع عالم الإنسان المبدع الذي لا يستعمل الأشياء أو ينظر لها من زاوية التحليل العلمي أو الوجهة الموضوعية للحقيقة. ولكنه يوظفها مأخوذة من عالم الواقعية الإنسانية وحاملة لوجهة نظر سيكولوجية أو إيديولوجية أو حضارية. إنه يتعامل معها بشكل رمزي وليست كقيمة مادية محسوسة.


ونحن نشتغل في دلالة الأشياء لا يمكننا أن لا نأبه بحضور اللباس في الرواية المغربية كنوع من الدلالة أو كشيء رمزي يمثل منطلقا للعديد من المقارنات.

نعم، يشكل اللباس شكلا من أشكال الهوية الوطنية. فهو يؤكد على الأنا الوطني في مقابل الآخر الأجنبي من خلال تأكيد التفرد بخاصية حضارية لا يشترك فيها شعب مع الآخر إلا بمقدار ضئيل. إننا نحكم انطلاقا من اللباس بأن هذا الشخص اسكتلاندي أو إسباني أو فرنسي أو إنجليزي أو مصري أو مغربي.. إلا أن اللباس في الرواية المغربية يحيد عن هذه الوظيفة ليدخل مجال المقارنة بين الذات والآخر.


إنها مقارنة بقدر ما تجعلنا متخلفين، تجعل من الآخر متقدما وبقدر ما تدخلنا إلى عالم الغرائبية أو ما نصطلح على تسميته بالفلكلورية تجعل من الآخر واقعيا. ويصبح اللباس المغربي حاملا لدلالة الكسل والخمول: “نعم لبست الثياب الفضفاضة، الثياب الواسعة التي تكفي لكساء عشرة من الأطفال في مثل حجمي، الثياب التي تقعد بي عن الحركة وتغريني بالكسل، وتقتل في جسمي النشاط قتلا كأنها أغلال الروح، كأنها أصفاد للطفولة، كأنها تسرع بي إسراعا مخيفا إلى أرذل العمر.. وأنا ما أزال بعد في زهرة طفولتي”[40].


وإذا كان هذا موقف الفتى الذي عاش طفولته في إنجلترا من اللباس المغربي فإن موقف جده سيكون على النقيض من اللباس الأوروبي: “اقترب يجب أن تخلع هذه الثياب الضيقة وتستبدل بها ثيابا واسعة فضفاضة”.

إن الأمر عند الجد لا يقتصر فقط على خلع الثياب الضيقة واستبدالها، بل “وصاح جدي في غمرة الصمت: غيروا هذه الثياب، إنها ثياب الكفرة، هيا افعلوا شيئا لأراه في ثياب المسلمين. ثم أقبل وهو يضحك ليقول: سأعلمك، سأعلمك كل شيء أيها الصغير حتى تصبح جديرا بأن تنتسب إلى الإسلام والمسلمين”[41]. أما عند العم فاللباس لا يصل إلى مستوى الكفر ولكنه يدخل مجال الغرابة أو الاختلاف غير المرغوب فيه: “هذا هو الفتى الذي نشأ في بلاد الإنجليز. ألست ترى ثيابه؟ ألست تشعر بأنه فتى غريب؟”[42].


إن دلالة اللباس من خلال الموقفين (الجد/العم)، (الحفيد) تعبر عن عقليتين مختلفتين واحدة تمثل الأصالة والأخرى تمثل الانفتاح على الغرب، ولكن هل تبرير الموقفين يتم بشكل موضوعي؟ يجعل الجد اللباس الأوروبي دليلا للكفر. فهو يحكم انطلاقا من خلفيات دينية ومن واقع تاريخي ساد في المغرب.. يتم من خلاله التمييز بين مسلم وغير مسلم وبالتالي يكون الإيما من نصيب المسلم والكفى من نصيب كل من يدين بديانة غير الإسلام.


يمثل موقف الجد الانغلاق الكلي على الذات ورفض كل ما هو أجنبي، بل الأنكى من ذلك الحكم على هذا الأجنبي بالكفر من خلال شكل من أشكال هويته وهو اللباس. أما موقف الانفتاح الذي يمثله الحفيد في الرواية فيجعل اللباس المغربي دليلا على التخلف  ومدعاة إلى الكسل والتبلد. وبمعنى آخر فإن التأثير الغربي يبدو واضحا في موقف الكاتب إلى الحد الذي لا يمكن معه التأليف بين موقف الجد والحفيد:


     اللباس الأوروبي=الكفر        اللباس المغربي=      ـ القعود عن الحركة

                                              ـ الإغراء بالكسل

                                             ـ قتل النشاط في الجسم

                                             ـ أغلال للروح

        موقف الجد                       موقف الحفيد


ومع هذا التمييز يجب الاحتياط من موقف الطفل/الكاتب لأنه موقف متغير، حيث أعطى للباس المغربي صورة سلبية وحمله دلالة التخلف ومع ذلك يصبح نفس اللباس مدعاة للزهو والفخر وهو يرتديه في إنجلترا: “ولما كنت أنا المسافر فقد انتصر لي الجميع فكان الجلباب المرموق من نصيبي، وتمكنت من أن أزهو به على لذاتي في مانشستر”[43].


يتوزع اللباس إذن بين ال”هنا” وال”هناك”، فيمثل في المغرب دلالة الكسل والخمول لأن الكاتب لا يتميز به عن غيره من المواطنين. أما هناك في إنجلترا فاللباس المغربي يصبح مدعاة للفخر والزهو لأن الكاتب يتميز به عن أقرانه في مدينة مانشستر.

                      اللباس المغربي

        هنا (المغرب)                     هناك (إنجلترا)

       الكسل، الخمول                     الزهو والفخر

       أغلال الروح                                 الغرائبية

       المشترك: الكل هنا يلبس                  التميز: الكاتب

        نفس اللباس                      الشخص الوحيد

                                           الذي يلبس الجلباب بين

                                                           الأطفال في مانشستر 

        دلالة اللباس المغربي بين ال”هنا” وال”هناك”


ولا يظل اللباس عند عبد المجيد بن جلون في هذا المستوى الثقافي فيحكم على الجنس الأدبي أو الممارسة الأدبية انطلاقا من شكل اللباس، فينكر على شوقي شاعريته بل ينكر عليه حتى إسلامه انطلاقا من شكل اللباس الذي يرتديه، “وزادت حيرتي إذا كان هذا الرجل مسلما فلماذا يرتدي بزة النصارى؟ وإذا كان نصرانيا فلماذا يدعى أحمد؟”[44].


ويرتبط قول الشعر في تصوره بالعرب الأقدمين وبالخيام وبالنوق وبالأطلال. فلم يكن يخطر بباله أن الشاعر العربي قد يرتدي اللباس الأوروبي: “كانت دهشتي أعظم عندما قيل إنه شاعر لأني كنت مؤمنا.. أن الشعر خاص بالعرب الأقدمين الذين كانوا يقيمون الخيام ويسيرون خلف النوق، ويذرفون الدموع على الأطلال فكيف تخلف عن عصرهم هذا الرجل ذو البزة الفرنجية والوجه الحليق وربطة العنق؟”[45].


[1] – بطرس البستاني، القطر المحيط.

[2] – جروان السابق، قاموس الجيب، دار السابق لبنان.

[3] – منير البعلبكي، المورد، دار العلم للملايين.

[4] – جبور عبد النور، سهيل إدريس، المنهل، دار العلم للملايين.

[5]  – Larousse.

[6]  – André Laland, Vocabulaire : Technique et critique de la philosophie.

[7] – الجاحظ، الحيوان، ص25.

[8] – الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، ص323.

[9] – منهاج البلغاء، ص18-19.

[10] – الاستربادي، شرح الشافية، ج1، ص125.

[11] – بيار غيرو، علم الدلالة، ترجمة أنطوان ابو زيد، منشورات عويدات، سلسلة زدني علما، ع.153.

[12] – عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، ص13.

[13] – إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، ص75.

[14]  – Alexan Drian, Création, Recréation, Mediation, 1976, p141.

[15] – ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، ص53.

[16] – يمكن الاستئناس بما ورد عن هذا الموضوع في معجم مصطلحات الأدب لمجدي وهبة، ص552.

[17] – س، ذ، ص.143.

[18]  – Laurent, Pour connaître Sartre, p8.

[19] – محمد عز الدين التازي، المباءة، ص143.

[20] – نفسه، ص96.

[21] – عبد الله العروي، الفريق، ص45.

[22] – نفسه، ص45.

[23] – محمد شكري، الخبز الحافي، ص9.

[24] – م، س، ص59.

[25] – عبد الكريم غلاب، المعلم علي، ص256.

[26] – نفسه، ص266.

[27] – نفسه، ص280.

[28] – سعيد علوش، إميلشيل، ص86.

[29] – نفسه، ص86-87.

[30] – م،س، ص86-87.

[31] – الميلودي شغموم.

[32] – عبد الله العروي، الفريق، ص95.

[33] – محمد عز الدين التازي، أيها الرائي، ص50.

[34] – م،س، ص22.

[35] – عز الدين التازي، أيها الرائي، ص23-24.

[36] – نفسه، ص29.

[37] – نفسه، ص30.

[38] – نفسه، ص45.

[39] – نفسه، ص23.

[40] – عبد المجيد بنجلون، في الطفولة، ص116.

[41] – نفسه، ص137.

[42] – نفسه، ص145.

[43] – م،س، ص287.

[44] – نفسه، ص254.

[45] – نفسه، ص256.


المصدر

محمد التعمرتي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى