«السّرديات» مسارات وإبدالات
السّرديات هي علم السّرد الذي يهتمّ بوصف البنيات التكوينيّة للسردّ وتحديد منطق عملها، يلخص جيرالد برانس Gerald Prince أهدافها في «استكشاف ووصْف وتفسير آليات السّرد، والعناصر المتحكّمة في شكله واشتغاله»(1).
من منظور تاريخي تأسست السّرديات كاختصاص مستقل بذاته أواخر الستينيات من القرن العشرين في فرنسا، حين اقترح تودوروف مصطلح السّرديات في كتابه «نحو الديكامرون»، وهي الفترة التي تميّزت بالتأسيس الإبستمولوجي والعلمي لحقل السّرديات، حيث وضعت الأُسس النظرية لهذا العلم الأدبي على يد روَّاده المؤسسين، خاصة تودوروف وجيرار جينيه ورولان بارت، وأُرسيتْ قواعدُه وأجهزته المفهوميّة والاصطلاحيّة، التي اكتسبت صبغة كليّة وعالميّة.
ومنذ الثمانينيات من القرن العشرين أصبحت السّرديات أهم نظرية في الدراسات الأدبيّة والثقافيّة، مُؤَسِّسَةً ما سيعرف لاحقاً بالمنعطف السّردي في حقل العلوم الإنسانيّة.
غير أن النظر إلى تكون السّرديات من منظور تاريخي يكشف أن هذا العلم لم يكن وليد طفرة عرضيّة في سياق تاريخ النظرية الأدبيّة، بل تشكَّلَ وتطور في مجرى صيرورة تاريخيّة ديناميّة، تعدّدت فيها مساراته التاريخيّة وتنوّعت روافده النظريّة، بحيث يمكن القول بأن فترة التأسيس البنيوي في فرنسا كانت تتويجاً للجهود النظريّة التي سبقتها، لا سيما في روسيا مع الشكلانيين الروس، ومع النقد الأنجلو أمريكي خلال فترة الأربعينيات من القرن العشرين.
بناءً على هذا المعطى التاريخي يمكن أن نميّز في صيرورة تكوُّنِ السّرديات بين ثلاث لحظات دالّة: لحظة الأصول والجذور، ولحظة التأسيس، ثم لحظة التوسع والتطور. وهو التاريخ الذي نجده معتمداً لدى المنظرين الذي اهتمّوا بالبحث في جينيالوجيا السّرديات(2)
لقد جرت تحولات مفصليّة في حقل السّرديات، منذ لحظة تأسيسها في إطار النموذج البنيوي، خاصة بعد أن انتشرت في بقاع مختلفة من العالم (أمريكا، إنجلترا، هولندا، ألمانيا، إيطاليا…)، وأصبحت علماً دوليّاً، مما أدى إلى إنتاج تنظيرات وممارسات مختلفة ومتعددة للسرديات، كان للسياقات الثقافيّة المختلفة دورٌ حاسم في إعادة توجيهها نظرياً ومعرفياً، مما أتاح لها تطوير مجال حقلها بالتعديل والإضافة والتوليد. لذلك سيكون من المستحيل على فرد واحد رَسْمُ خارطة شاملة للتحولات النظريّة والنقديّة والثقافيّة التي جرت في حقل السّرديات، خاصة بعد أن تحرّرت من سلطة الإبدال البنيوي، الذي ظلت فيه محكومة بنزعة وضعيّة مبالغ في طموحاتها العلموية.
لفهم دلالة هذه التحولات المفصليّة في حقل السّرديات سنعمل في هذه الدراسة على رصد صيرورة تكونها، من منظور تاريخي إبستمولوجي، يهدف إلى توضيح جدليّة التأسيس والتحول في النماذج النظرية التي طورتها السّرديات. وهذا ما سيتيح لنا تحديد سلسلة الإبدالات المعرفيّة التي شكّلت مسارات انعطاف فارقة في صيرورة تطور هذا العلم، وانتشاره خارج حدوده العلميّة والجغرافيّة.
من أهم الأبحاث الحديثة التي سعت إلى الحفر في تاريخ السّرديات وإعادة النظر فيه نجد دراسة «تواريخ النظرية السّردية: بحث جينيالوجي في التطورات المبكرة» لديڤيد هرمان David Herman. تكمن أهمية هذه الدراسة في جدة منظورها؛ ذلك أنها تتبنى منهجاً جينيالوجيّاً في البحث التاريخي، يسعى إلى الكشف عن الروابط المتداخلة المنسيّة، وإعادة تأسيس الخطوط الغامضة والمجهولة للنسب في شجرة أنساب السّرديات، التي غالباً ما تجاهلها التأريخ التقليدي الخطي.
- 1 ـ الجذور/ شجرة أنساب جينيالوجيّة:
بعيداً عن أي منحى خطي يذهب ديڤيد هرمان في بحثه الجينيالوجي إلى أن السّرديات تطورت من تفاعل ابستمولوجي تاريخي مركّب بين تقاليد فكريّة متعدّدة، نشأت في فضاءات جغرافيّة وثقافيّة مختلفة: من حركات نظريّة ونقديّة، ونماذج تحليليّة ومدارس فكريّة، موزعة على امتداد عقود زمنية وبين قارات وأُمم مختلفة.
يرفض ديڤيد هرمان التصوّر التاريخي الذي يَعدُّ السّرديات نتاج تطور حتمي لإرث نظري واحد هو الشكلانية الروسيّة. وفي مقابل هذه النظرة الحتميّة ـ التي تسلم بتاريخ واحد للسّرديات ـ يرى أن ثمّة تواريخ مختلفة للسّرديات، حيث يكشف بالحفر الجينيالوجي في تاريخ السّرديات أن مرحلة الجذور التي مهّدت لتأسيس السّرديات تفاعلت فيها تقاليد فكريّة متنوعة، وأصول نظرية مختلفة، تطورت في فضاءات جغرافية متعدّدة، وصيرورات زمنية تحكّمت فيها «مُوَجِّهات التغيّر المتقاطعة والعابرة للحدود».
في ضوء هذه الرؤية الجينيالوجيّة يعيد ديڤيد هرمان رَسْمَ مسارات تطور السّرديات، ويقوم بإعادة وضْعها في شجرة أنساب معقدة، وفي شبكة من الانتسابات المعرفيّة: التراث الألماني، الإرث الشكلاني، التقليد الأنجلو ـ أمريكي.
- 1 ـ 1 : الحلقة المفقودة / التراث الألماني:
تغفلُ أغلبُ الدراسات التي تناولت الجهود النظريّة السابقة التي مهدت لظهور السّرديات ـ سواء في السياق العربي أو السياق الغربي ـ التراث النظري الألماني، وتربط أصول السّرديات ـ بصورة حتميّة ـ بالإرث الشكلاني الروسي. من هنا تأتي أهمية الكشف عن هذا الرافد؛ لأنه من جهة أولى يبرز دور التراث النظري الألماني في ميدان شعريّة السّرد منذ وقت مبكر، سابق على الشكلانيّة الروسيّة؛ ومن جهة ثانية يكشف استفادة الشكلانيّة الروسيّة وتفاعلها الخلاق مع هذا الرافد؛ إذ عمل الشكلانيون على تطوير مقاربته المورفولوجيّة باتجاه بناء نماذج نسقيّة للسّرد.
يصنف ديڤيد هرمان التوجه النظري الذي ميّز الإرث الألماني فيما يسميه بالشعرية المورفولوجيّة Morphological Poetics. وهي نظريّة تدرس العمل الأدبي بِعَدِّهِ وحدةً كليّة، وتسلّم بأن الأجزاء المتنوعة تشكّل كُلِّية مُبَنْيَنَة تخضع لنظام أعلى. بهذا المعنى المورفولوجيا هي «نظرية تشكيل البنيات المعقدة من الأجزاء الفرديّة»(3).
لقد كان هذا الاتجاه المورفولوجي في دراسة السّرد رائداً في ألمانيا في السنوات الأولى من القرن العشرين، لكن جذوره ترجع إلى تقليد واسع في الرومانسيّة الألمانيّة، ثم تطور أكثر مع المنظرين الشكلانيين الروس، وفي وقت لاحق في عمل مدرسة براغ البنيويّة التي استلهمت أبحاث الشكلانيين الروس.
ويرى ديڤيد هرمان أن العمل النظري التأسيسي في مورفولوجيا السّرد انطلق مع البيان التخطيطي سنة 1912 لعالم الفيلولوجيا الألماني Otmar Schissel von Fleschenberg، الذي قام بتحليل النظام الأعلى للبنيات السّردية من خلال التقنيات البلاغيّة الفنيّة، ودراسة الناقد الألماني Berard Seuffert الأنماط النسقية للحكايات الأدبيّة.
وفي هذا التقليد المنهجي ميز الباحثون الألمان ـ أمثال Schissel و Seuffert و Wilhelm Debelius ـ في الأعمال السّردية بين الترتيب Disposition (التنظيم المنطقي) وتأليف Composition العناصر البنيويّة المتضمّنة في الحكايات (التنظيم الفني)، وخلصوا إلى التفريق بين مظهرين في نماذج التركيب السّردي: نماذج الفعل Action، ونماذج تمثيل (تفعيل) Acting الشخصيّة(4).
يظهر من هذه الكشوفات النظريّة أن التقليد الألماني كان سباقاً في الحديث عن أنساق الحكي ونماذجه البنيويّة؛ ففي دراسته للرواية الإنجليزيّة سنة 1910، استبق الألماني Dibilius دراسة بروب المورفولوجيّة للحكاية الخرافيّة الروسيّة من خلال تعريف مفهوم «الدور» role بِعَدِّهِ شخصيّة في وظيفة محددة ضمن الكل. ومثل Dibilius يربط بروب الشخصية بالحبكة plot القائمة على الوظائف التي يقوم بها أفراد من خلال حكايات خاصة(5).
وفي السياق نفسه استبق Seuffert مفهوم العوامل Actants الذي طوّره غريماص عن عمل فلاديمير بروب، حيث درس نظام الشخصيات كمكونات للتأليف السّردي. وفي الاتجاه نفسه ركّز Schissel على تركيب الفعل Action بدلاً من الشخصيات في حدّ ذاتها، فقام بتحليل البنيات السّردية في التوزيع النمطي للمشاهد والحلقات وصف الحلقة والإطار بوصفها مبادئ تأليفيّة أساسيّة(6)
ويرى ديڤيد هرمان أن هذه الأعمال المبكرة في مورفولوجيا السّرد ستشكّل لاحقاً نظرية السّرد الألمانيّة في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، التي ظلّت مؤثرة في النسخة الألمانية من السّرديات في تطوراتها اللاحقة. في هذه الفترة تحضر أعمال نظريّة تأسيسية في شعريّة السّرد، منها «أشكال بسيطة» لِـ André Jolles، بالإضافة إلى عملين مهمين، اعتمد عليهما جيرار جينيت في بناء نموذج السّرديات المؤثر الذي صاغه في كتابه «خطاب السّرد» سنة 1972؛ هما: كتاب «زمن السّرد والزمن المحكي» لِـ Gunther Müller؛ نشر في طبعته الأولى سنة 1948، وأعاد طبعه سنة 1968 بعنوان: «الشعريّة المورفولوجيّة»، وكتاب «المكونات البنيويّة للسّرد» لمؤلفه Elberhard Lammert. هذه الدراسات الألمانية اللاحقة قام جيرار جينيت بتوسيعها موظِّفاً الإمكانية الوصفية لفكرة التركيب السّردي(7).
- 1 ـ 2: الإرث الشكلاني:
بالتوازي مع هذا الخط الألماني في شعريّة السّرد قام الشكلانيون الروس بتطوير فكرة «التركيب السّردي». ولعلّ ما يؤكد هذا التفاعل المعرفي بين الشعريّة المورفولوجيّة الألمانيّة والشكلانيّة الروسيّة ـ بحسب هرمان ـ أن أبحاث المنظرين الألمان كانت معروفة بشكل جيد في هذا الوقت في روسيا سنة 1920.
بفضل هذا التلاقح المعرفي ستعرف دراسة السّرد مع الشكلانيين الروس (1915/1930) تطورات مهمة، وسيمثل هذا الإرث أحد الروافد الأساسيّة في تأسيس السّرديات في مرحلتها البنيويّة. في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الأهميّة التأسيسيّة لكتاب «مورفولوجيّة الخرافة» للشكلاني الروسي فلاديمير بروب، الذي شكَّل نموذجاً ملهماً للسيميائي الفرنسي غريماس في بناء نظريته السّردية السيميائية:
«إن السيميائيّات الفرنسيّة أرادت أن تجد في مؤلف «بروب» نموذجاً يسمح لها بفهم أفضل للمبادئ المنظمة للخطابات السّرديّة في مجملها»(8)
وعلى غرار سَعْيِ فلاديمير بروب إلى بناء نموذج عام للبنى الحكائية العامة للحكي الخرافي، سعى الشكلاني الروسي ڤكتور شكلوڤسكي Victor Shklovsky إلى بناء نظرية للخطاب السّردي لا تقتصر على جنس سردي دون آخر، منطلقاً من متن سردي متنوع ومختلف في مرجعياته الأجناسية:
«وقد درس شكلوڤسكي ـ في بحثه عن القوانين التي تكون أساس البنية الأدبية ـ الأنواع السّرديّة كلها، من النكث والموروث الشعبي إلى تريسترام شاندي للورنس ستيرن Laurence Sterne وهَكلبَري فِن لمارك توين Mark Twain»(9).
يذهب شكلوڤسكي إلى أن ما يحدّد قيمة وأدبية السّرد ليس مضمونه الحكائي؛ أي الحكاية، ولكن الطريقة التي تروى بها أحداث الحكاية، وهو ما اصطلح الشكلانيون الروس على تسميته المبنى الحكائي:
«ويمكن تفسير نجاح قصص تشيكوڤ القصيرة بطريقة بناء مبناها؛ فالأدب الروسي لم يبذل إلَّا جهداً محدوداً لتحسين ذلك المبنى الحكائي. ولقد كان على غوغول أن ينتظر ـ لمدى سنوات ـ أحدوثات ليطورها في شكل رواية أو قصة قصيرة»(10)
تكمن أهمية هذا الكشف النظري في أن التمييز الشكلاني بين المبنى الحكائي Sujet والمتن الحكائي Fable ـ الذي أرساه توماشيڤسكي Tomchevski في دراسته الرائدة «نظرية الأغراض» ـ شَكَّل الأساس النظري الذي ستبني عليه السّرديات في مرحلة التأسيس نموذجها البنيوي P فقد «كان لهذا التمييز الدور البارز في إعطاء الدراسة الأدبية بُعدّاً جديداً؛ لأن كل الذين سيطورون أعمال الشكلانيين الروس سيحددون المبنى الحكائي موضوعاً.
وليس المبنى الحكائي سوى الخطاب، كما سنعاين ذلك مع تودوروف، الذي ينطلق من أعمال الشكلانيين مطوراً إياها إلى جانب الباحثين»(11)
سيمثل هذا التمييز النسقي ـ بين المبنى الحكائي والمتن الحكائي في نسق الحكي ـ نموذجاً مُلْهِماً للمنظِّرين في شعرية السّرد في المرحلة البنيويّة التأسيسية، حيث ستتم استعادته وإعادة صياغته، في إطار مشاريع نظرية سعت إلى بناء نماذج كلية للسّرد. في هذا الاتجاه مثلاً نلاحظ استلهام تودوروف ـ في دراسته «مقولات السّرد الأدبي»(12) ـ ثنائية المبنى الحكائي والمتن الحكائي في تمييزه بين مظهرين للسرد، هما القصة (المتن الحكائي) والخطاب (المبنى الحكائي).
كما أن تمييز توماشيڤسكي بين الحوافز المشتركة وبين الحوافز الحرة سيشكّل منطلقاً نظرياً لتمييز بارت بين الوحدات / الوسائط والوحدات / النواة في كتابه «التحليل البنيوي للسرد» سنة 1966.
إن الرهان التنظيري النسقي الذي وجَّه دراسات الشكلانيين الروس، يبلغ مداه التجريدي الأعلى عند فلاديمير بروب في كتابه «مورفولوجيّة الخرافة»؛ فقد كان واعياً بأن الإشكالية الحاسمة للبحث في الحكايات لا تكمن في الموضوع أو كمية المادة؛ بل في المسألة المنهجية، أي مناهج الدراسة. بينما تمتلك العلوم الطبيعية منهجاً واضحاً ودقيقاً ومعجم اصطلاحات موحداً، يلاحظ أن الدراسات في مجال الحكي تفتقد لمثل هذا المنهج.
هذا المأزق المنهجي كان حافزاً لفلاديمير بروب للقيام بمهمة صياغة منهج ملائم ودقيق في دراسة الحكاية الخرافيّة، اصطلح على تسميته بالمورفولوجيا. يكتسب هذا المنهج وجاهته ـ في مجال دراسة الخرافة الشعبية ـ من أنه يحدد موضوعه في وصف بنية الحكاية وليس التأريخ لها أو تصنيف موضوعاتها. ويتأسس هذا الاختيار المنهجي عند بروب على مسلَّمة إبستيمولوجية واضحة، ترى «أنه لا يمكن الحديث عن أصل ظاهرة ـ مهما كانت ـ قبل القيام بوصفها»(13).
وإذا كانت الخرافة قابلة لأن تدرس من المنظور التاريخي؛ فإن الوصف البنيوي لمجموع عناصر الحكاية الخرافية هو الشرط الضروري لدراستها من الجانب التكويني. إن الوصف البنيوي للمكونات البنيويّة للحكاية هو ما توفره المورفولوجيا:
«إننا سنعمل على مقارنة الأبنية الحكائية Sujet لهذه الخرافات فيما بينها، ولأجل ذلك سنعزل ـ في البدء ـ الأجزاء المكونة لها، متتبعين مناهج متميّزة، وبعد ذلك سنقوم بمقارنة الخرافة وفق أجزائها المكونة. وستكون نتيجة هذا العمل مورفولوجيا، أي وصفاً للخرافات بحسب أجزائها المكونة، وللعلاقات فيما بينها، وفيما بينها وبين المجموع»(14) وكما يلاحظ ديڤيد هرمان يربط فلاديمير بروب بشكل صريح مقاربته المنهجيّة بالشعريّة المورفولوجيّة الألمانيّة، خاصة عند غوته Goethe.
- 1 ـ 3: التقليد الأنجلو ـ أمريكي:
يقصد به إسهامات النقد الإنجليزي والأمريكي في مجال شعرية السّرد، التي يسميها ديڤيد هرمان بالشكلانية الأنجلو ـ أمريكية؛ لأن هذا التقليد الأدبي والنقدي كان واعياً بأهمية الشكل في بناء جمالية وفنية الرواية.
بهذا التوجه الفني يلتقي مع الأفق الأدبي والنسقي للشكلانيّة الروسيّة، ولذلك سيمثل هذا التقليد فرعاً مهماً في جينيالوجيا النظريّة السّردية الحديثة؛ لأن أثره المنتج سيتمخض عنه صياغة مفهوم أساسي في نظرية السّرد هو «وجهة النظر»، الذي سيكون ملهماً في نقاشات جيرار جينيت حول تمييزه بين مستويين للسارد: الصوت السّردي والرؤية السّردية.
ظهر هذا التقليد النقدي في الفترة نفسها التي ازدهرت فيها الشكلانية الروسية؛ ويمتد إلى إرث نظرية الرواية الذي بدأ مع مقدّمات الروائي الإنجليزي هنري جيمس Henri James لأعماله الروائية. وطوّره پـيرسي لوبوك (1921 ـ 1957) Percy Lubbock، وعمل واين بوث Wayne Booth لاحقاً على إعادة صياغته نظرياً. وقد تميّز النقد الأنجلو ـ أمريكي بنزعةٍ عضوية تتعامل مع الأعمال السّردية على أنها كليات عضوية، وهو بذلك كان متطابقاً مع نظريات المورفولوجيّة السّردية في كل من ألمانيا وروسيا.
بالمقارنة مع النزعة التنظيريّة ـ التي هيمنت على الشكلانية الروسية ـ كان التقليد الأنجلو أمريكي أقل اهتماماً بالتنظير، وأكثر نزوعاً إلى النقد التطبيقي الذي يعمل على قراءة النصوص واستنطاق بنياتها؛ هذا ما يؤكده جوناثان كالر «وهكذا، رغم أن التراث الأمريكي لم يكن مهتماً كثيراً بالتنظير لمقولاته، أو صياغة نَحْوٍ للحبكة Grammar of Plot؛ فإنه اعتمد على هذا التمييز الأساسي نفسه، الذي صاغته السّرديات الأوروبية صراحة، وهو التمييز الذي أرى أنه لا يمكن الاستغناء عنه في السّرديات»(15).
شكّلت مقالة هنري جيمس (فن الرواية) 1928 نقطة تأسيس مؤثّرة في نظرية الرواية الأنجلو ـ أمريكية، وتظهر النزعة العضويّة عند هنري جيمس في تأكيده على أن مكونات القصة تستمد خصائصها الوظيفيّة من النسق Gestalt الذي توضع فيه؛ لأنه لا يمكن فهْم الشخصيات والأحداث بمعزل عن الحبكة التي تقوم بعملية الربط بينهما، وتحدد دلالاتهما.
وفي الاتجاه نفسه سيؤسس پيرسي لوبوك ـ متأثراً بالنزعة العضوية لهنري جيمس ـ تصورُّه لنظرية القصة بحيث يرى أن العمل السّردي يمثل وحدة كلية، إذا تمّ حذف أو تغيير أي جزء منها فإنه يؤدّي إلى تدمير العمل بأكمله؛ لكن لوبوك سيتقدّم في نظرية الرواية، حين جعل قضية «وجهة النظر» حجر الزاوية في مقاربته، التي لم تحظ باهتمام هنري جيمس، حيث سيضع تمييزاً بين العرض Showing (مسرحة الأحداث) والحكي Telling (تصوير الأحداث).
إن الإسهـامـات الفعّـالة في الـنقد الأنجلو ـ أمريكي ـ التي ستؤثر في السجالات البنيويّة حول التبئير السّردي لاحقاً في السّرديات ـ ستأتي من أيان وايث في كتابه «بلاغة المتخيّل» الذي يمثل نموذجاً «للمقاربة الإمبريقية الأنجلو ـ أمريكية»(16)، التي تقوم على مسحٍ شامل لمتن واسع من النصوص التخييلية. وقد كان وايث سباقاً إلى إثارة قضايا التبئير السّردي من خلال دراسته مشكلات وجهة النظر، متسائلاً عن وضع السارد، ومن أي جهة يروي، حيث سيقيم تفرقة بين السارد والمنظور الذي يروي منه الأحداث.
ولقد كان جيرار جينيت ـ الذي يُعدُّ أبرز الرواد المؤسسين للسرديات ـ على اطلاع واسع بدراسات النقد الأنجلو أمريكي، لا سيما مفهوم وجهة النظر الذي يُعدُّ حجز الزاوية في عمل أيان وايث؛ وكان «جيرار جينيت… يرى وجهة النظر ذات أهمية تساوي أهمية بنية السّرد أو العقدة»(17).
ما نستخلصه ـ إذاً، من بحث ديڤيد هرمان في جينيالوجيا السّرديات ـ أن هناك تنوعاً كبيراً في الجذور التي شكّلت مرحلة الأصول في مسار تشكُّل السّرديات وتطورها. لم تكن هذه الروافد منفصلة بعضها عن بعض؛ لأنها خضعت لصيرورة من التفاعل المتبادل وانتقال الأفكار، وعرفت «مسارات تطورية متوازية بمعدلات متزامنة للتغيّر»(18).
وهذا ما يؤكد فرضية ديڤيد هرمان، التي تقول بوجود تواريخ متعددة للسّرديات وليس تاريخاً واحداً. وإن ما يجمع بين هذه الروافد المتنوعة ثقافياً وجغرافيا هو نسبها المشترك المتحدر من تقليد فكري مورفولوجي واسع، كان رائداً في تدشين تصوُّرٍ منهجي يهتم بالسّرد من زاوية الشكل والتركيب السّردي، وسيشكّل من ثم مرجعاً أساسياً لكل منظري السّرديات لاحقاً.
- 2 ـ التأسيس البنيوي/ أولية البنية
منذ أواخر الستينيات تأسست السّرديات في فرنسا كعِلْمٍ قائم بذاته في إطار البنيويّة. ففي سنة 1967 اقترح تودوروف مصطلح السّرديات، قبل هذا الإعلان ظلّت تسمية هذا العلم غير موحدة، وتخضع «لاستعمالات متعددة قبل أن يستقر نهائياً. شاعت هذه الاستعمالات التي تدلُّ على التذبذب قبل الاستقرار: نظرية السّرد، التحليل السّردي، التحليل البنيوي للحكي، بويطيقا السّرد، بويطيقا الحكي، نقد الرواية، التحليل اللساني للرواية…»(19).
وفي سياق التدقيق العلمي ـ في لحظة التأسيس المنهجي الفعلي للسّرديات ـ يذهب كثير من الباحثين ـ ومنهم ميك بال، وسعيد يقطين ـ إلى أن كتاب جيرار جينيت «خطاب الحكاية» (1972) «يشكّل الميلاد الحقيقي للسّرديات»(20).
إن هذا القول من الناحية العلميّة يبدو مبالغاً فيه؛ لأنه لا يمكن ربط تأسيس عِلْمٍ كامل بإنجاز فردي، بحكم أن أي علم يخضع في تكونه لصيرورة تاريخيّة متطورة، هي نتاج تفاعلٍ مركب لجهود متقاطعة وعوامل متعددة، إلى أن يستوي عِلْماً قائماً بذاته، وهذا ما توضحه صيرورة تكُّون السّرديات التي ترجع أصولها وجذورها إلى بداية القرن العشرين.
من المنظور التاريخي لا نعدُّ كتاب جيرار جينيت مؤسساً للسّرديات، ولكنه يشكِّل ـ في نظرنا ـ لحظة منهجية فارقة ومتميّزة في مرحلة التأسيس، التي ساهم فيها منظرون عديدون، أبرزهم رولان بارت وتودوروف. ويكتسب كتاب «جينيت خطاب الحكاية» لجينيت أهميته في هذه المرحلة التأسيسيّة من تدقيقه في المشاكل المنهجية؛ لأن جينيت خصصه لرسم الخارطة المعرفية والنظرية لحقل السّرديات، وتحديد موضوعه، ولذلك وضع له عنواناً فرعيّاً توجيهيّاً هو «بحث في المنهج».
رغبة من الرواد المؤسسين في تشكيل علم للسّرد، اتخذت السّرديات من اللسانيات نموذجاً لصياغة أدواتها ومقولاتها في الوصف والتحليل؛ لأن اللسانيات برهنت ـ من خلال التحليل التزامني للغة ـ على تقديم حلول للمشاكل التي يثيرها الطابع غير المتجانس للسّرد بوصفه موضوعاً للسّرديات. في مواجهة تعدد أشكال السّرد واختلاف أجناسه وتجلّياته يتساءل رولان بارت: أين يمكن البحث عن نموذج عميق ومشترك ينظم كل هذه التجليات المتنوعة:
«وإزاء لا نهائية السرود وتعدُّد وجهات النظر التي يمكن أن نتحدّث عنها (تاريخية، سيكولوجية، اثنولوجية، جمالية، إلخ…) إزاء ذلك يجد المحلل نفسه في وضعية دوسوسور تقريباً؛ إذ وجد نفسه أما لا تجانس (L’hetéroctile) وهو يبحث ضمن الفوضى الظاهرة للرسالات عن مبدأ للتصنيف ومصدر للوصف»(21)
متأثرةً بالنزعة الوضعية للسانيات عملت السّرديات على بناء نموذج صوري في الوصف والتحليل، وعلى غرار تمييز اللسانيات بين اللغة والكلام، وتحديد موضوعها في اللغة، استلهمت السّرديات هذا التمييز اللساني، في تحليل مشكلة عدم تجانس موضوع الحكي وتعدد أشكاله وأجناسه، وعملت على صياغة نموذج بنيوي مشترك.
غير أن مشكلاً منهجياً سيواجه علماء السّرد في بناء هذا النموذج البنيوي: أين يجب البحث عن بنية السّرد؟ وما المنهج الذي ينبغي اعتماده لاستخراج هذه البنية؟ هل ينبغي اعتماد المنهج الاستقرائي، والانطلاق من دراسة كل أشكال السّرود والمحكيات؟ إن هذا الرهان لا يخلو ـ في نظر بارت ـ من طوباوية، فضلاً عن أنه يبدو مستحيلاً. فكيف يمكن القيام بمسح شامل لكل الأشكال اللانهائية للسّرد وتصنيفها؟ لتجاوز هذه الإشكاليّة المنهجيّة اعتمدت السّرديات ـ على غرار اللسانيات ـ المنهج الاستنباطي:
«فماذا يمكن إذن القول عن التحليل البنيوي المواجه لملايين السّرد؟ إنه محكوم عليه إذن وبالضرورة باتباع إجراء استنباطي، وهو مضطر بادئ ذي بدء لتصور نموذج افتراضي للوصف…، ثم النزول بعد ذلك شيئاً فشيئاً انطلاقاً من هذا النموذج باتجاه الأنواع التي تشارك فيه وتنزاح عنه في الوقت نفسه؛ إنه فقط في مستوى هذه التوافقات والانزياحات وبمساعدة أداة وحيدة للوصف، حيث سيقف هذا النموذج على تعددية السّرود وتنوعها التاريخي والجغرافي والثقافي»(22)
هكذا ـ على غرار اللسانيات ـ تفادت السّرديات مشكلة عدم تجانس الموضوع السّردي، حين اعتمدت التمييز اللساني بين اللغة والكلام، وتعاملت مع السّرد على أنه نوع من اللغة بالمعنى اللساني؛ أي أنه نسق بنيوي يخضع لقواعد كلية عميقة؛ بالمقابل عدّت السّرود والتجليات السّردية المتحققة ـ نصياً وتاريخياً ـ تمثِّل مستوى «الكلام». وعلى أساس ذلك ستحدد موضوعها في النسق السّردي، وليس في تنويعاته الأجناسية ومظاهره النصيّة، وتحققاته التاريخيّة (الرواية، القصة القصيرة، الخرافة والأسطورة..).
وإذا كانت اللسانيات لا تتجاوز مستوى الجملة في نماذجها الوصفية؛ فإن استعارة نموذج الوصف اللساني وتطبيقه في السّرديات سيخضع لعملية إعادة صياغة ابستيمولوجيّة، تأسّست على قاعدة التماثل بين بنية الجملة وبنية الخطاب، «وذلك استناداً إلى أن التنظيم الشكلي نفسه هو ما ينظم ظاهرياً كل الأنساق السيميائيّة مهما اختلفت موادها وأبعادها: هكذا سيصبح الخطاب «جملة» كبيرة (ولا تكون وحداتها بالضرورة جملاً)، تماماً مثلما ستكون الجملة في استعانتها ببعض المواصفات، «خطاباً» صغيراً»(23).
تأسيساً على فرضية التماثل اللسانية عدَّت السّرديات السّرد «جملة كبيرة»، مما يسوغ ـ ابستيمولوجياً ـ إسقاط مقولات التحليل اللساني للجملة على لغة السّرد: الأزمنة، والمظاهر، والصيغ والضمائر؛ لأنها ـ بحسب بارت ـ «توجد مكبرة ومحولة بما يلائم السّرد». على أساس هذا التعديل الملائم للتحليل الجملي يَعدُّ رولان بارت «السّرد مجرد مجموعة من الجمل». وإذا كانت الجملة توصف لسانياً على عدة مستويات (الصوتي، الصواتي، النحوي..)؛ فإن هذا الإجراء اللساني سيتم تطبيقه في تحديد مستويات الوصف الإجرائي للسّرد.
انطلاقاً من هذا الإسقاط اللساني يميّز بارت في العمل السّردي بين ثلاثة مستويات للوصف هي: مستوى «الوظائف» بالمعنى الذي تحمله عند بروب وبريمون، ومستوى «الأفعال» بالمعنى الذي صاغه غريماس عندما اقترح مفهوم العوامل للحديث عن الشخصيات، ومستوى «السّرد» وهو يماثل مستوى «الخطاب» عند تودوروف.
لا توجد هذه المستويات منفصلة؛ بل تخضع لعلاقة تراتب؛ لأن أي واحد منها لا يمكنه أن ينتج المعنى بمفرده، حتى وإن كان من الممكن تقديم وصْف مستقل من الناحية الإجرائية لكل مستوى على حدة؛ لكنها لا تكتسب دلالتها في النصِّ إلا من اندماجها في النسق السّردي، ولذلك ينبه بارت إلى ضرورة مراعاة هذا التعالق بين المستويات في عملية الوصف والتحليل، «وعلينا أن نتذكّر أن هذه المستويات الثلاثة ترتبط في ما بينها تبعاً لصيغة إدماج متتالية: فليس لوظيفةٍ ما من معنى ما لم تجد لها مكاناً في الفعل العام لعاملٍ ما، وهذا الفعل نفسه يستمد معناه الأخير من كونه مسروداً وموكولاً إلى خطاب له سننه الخاصة»(24).
إن اقتراح مستويات للوصف البنيوي من أجل الإحاطة بسنن النسق السّردي كان سمة موجهة لكل الباحثين في السّرديات في هذه المرحلة البنيويّة التأسيسية. في هذا الاتجاه يقترح تودوروف مستويين لوصف وتحليل مكونات الخطاب السّردي، هما مستوى القصة ومستوى الخطاب: «للعمل الأدبي في مستواه الأعم مظهران: فهو قصة وخطاب في الوقت نفسه.
بمعنى أنه يثير في الذهن واقعاً ما وأحداثاً قد تكون وقعت وشخصيات روائية تختلط من هذه الوجهة بشخصيات الحياة الفعلية. وقد كان بالإمكان نَقْل تلك القصة ذاتها بوسائل أخرى… غير أن العمل الأدبي خطاب في الوقت نفسه، فهناك سارد يحكي القصة، أمامه يوجد قارئ يدركها. وعلى هذا المستوى ليست الأحداث التي يتمّ نقلها هي التي تهمّ، إنما الكيفية التي بها أطْلَعَنا السارد على تلك الأحداث»(25).
يشتمل مستوى القصة عند تودوروف على مكونات الأفعال والشخصيات والعلاقات، بينما ينطوي مستوى الخطاب على زمن السّرد ومظاهر السّرد وأنماط السّرد. وفي هذا المنحى التصنيفي نفسه يميّز جيرار جينيت بين ثلاثة مستويات في العمل السّردي(26): القصة Histoire؛ وتحيل على المدلول أو المضمون السّردي، والحكاية récit بمعناها الحصري، الدالّ أو الخطاب أو النصّ السّردي نفسه، والسّرد Narration الدالّ على الفعل السّردي المُنْتِج، وبالتوسع: على مجموع الوضع الحقيقي أو التخييلي الذي يحدث فيه ذلك الفعل. هذه المستويات ـ كما يؤكد جينيت ـ مترابطة ومتداخلة فيما بينها:
«ومن ثَمَّ فالقصة والسّرد لا يوجدان في نظرنا إلا بواسطة الحكاية؛ لكن العكس صحيح أيضاً؛ فالحكاية (أي الخطاب السّردي) لا يمكنها أن تكون حكاية إلا لأنها تروي قصة»(27)
لذلك لا يمكن دراسة هذه المستويات التي تتوزع عليها عناصر العمل السّردي إلَّا من خلال تعالقاتها المتبادلة، بحيث سيكون تحليل الخطاب السّردي هو دراسة العلاقات بين الحكاية والقصة، وبين الحكاية والسّرد، وبين القصة والسّرد.
تكمن أهمية هذه المستويات المقترحة على مستوى تحليل السّرد في أنها تمثّل عمليات وصفية إجرائية، تمكِّننا من تعيين مواقع القضايا السّردية وترتيبها؛ بالإضافة إلى هذه الأهمية الإجرائية، فإنها تمكِّننا ـ على المستوى النظري ـ من «اعتبار السّرد بمثابة تراتبية للعناصر أو الأركان والمقتضيات Instances. ولا يتوقف فَهْمُ السّرد فقط على تتبع مجرى الحكاية أو القصة واسترسالها، بل يتوقف أيضاً على التعرف فيها على «طوابق» وعلى إسقاط التسلسلات الأفقية «للخيط» السّردي على محور عمودي ضمنياً»(28).
ومهما يكن من اختلاف في عدد المستويات المقترحة في نماذج الوصف والتحليل، من قبل الباحثين في السّرديات البنيويّة، وأيضاً اختلافهم في المصطلحات والمقولات، بحكم أن لكل دارس منهم مقولاته ومصطلحاته، فإنهم يتفقون على التمييز البنيوي الأساسي بين القصة والخطاب:
«هناك تنوع مهمّ بين هذه الموروثات، وبطبيعة الحال فإن كل منظّر من هؤلاء ينفرد بمفاهيمه ومقولاته، أما لو اتفق هؤلاء المنظِّرون على شيء، سيكون اتفاقهم على أن نظرية السّرد تتطلب تمييزاً بين ما أسميه القصة؛ وهي متوالية الأفعال أو الأحداث، منظوراً إليها بمعزل عن تحققها في الخطاب، وبين ما أسميه الخطاب، وهو التمثيل الخطابي أو السّردي للأحداث»(29).
وإذا كان جينيت يميّز بين القصة والمحكي récit، ويميز هذين المستويين عن مستوىً ثالثٍ يسميه السّرد Narration؛ فإن ميك بال ترى ـ من خلال الطريقة التي يستخدم بها جينيت مقولاته ـ أنه «في النهاية… يميّز فقط بين مستويين؛ هما المستويان أنفسهما اللذان ميَّز بينهما الشكلانيون الروس»(30)؛ أي القصة والخطاب. ويتفق سعيد يقطين(31)مع وجهة نظر ميك بال؛ حيث يرى أننا عندما نتأمل العلاقات بين ثلاثية جيرار جينيت (القصة والحكي والسّرد) نجد أنفسنا أمام تقسيم ثنائي بين القصة والخطاب؛ لأن كلا المفهومين المحكي récit والسّرد Narration في نظرية جينيت يحيلان على المعنى نفسه، الطريقة التي تروى بها القصة.
رغم هذه الاختلافات في المصطلحات والمقولات، يتفق هؤلاء الباحثون على أن موضوع السّرديات البنيويّة هو دراسة الخطاب؛ أي الكيفية التي تقدّم بها القصة، وطريقة تمثيل الأحداث، والزاوية التي يروي بها السارد الأحداث.
تأسيساً على ما سبق، يمكن أن نلخّص خصائص المشروع العلمي للسّرديات خلال هذه المرحلة البنيويّة التأسيسيّة في أربع خصائص:
ـ اتخاذ السّرديات اللسانيات البنيويّة (خاصة دوسوسور) نموذجاً في الوصف والتحليل، وذلك بهدف إضفاء طابع العلم على مشروعها المعرفي، خاصّة بعد ما برهنت نماذج الوصف اللسانيّة على صحتها العلمية في مجال دراسة اللغة.
ـ ارتباطاً بالخاصّية السابقة عدّت السّرديات السّرد نوعاً من اللغة Langue بالمعنى اللساني عند دوسوسور؛أي نسقاً من أشكال وقواعد منظمة، «وتجاهلته بوصفه كلاماً Parole، بوصفه لغة تستخدم بفاعلية في سياقات ثقافيّة ملموسة»(32)
ـ سعت السّرديات إلى بناء نحو السّرد على غرار نَحْوِ اللغة، بمعنى الكشف عن البنية العميقة لكل السّرود والحكايات، التي تنطوي على نسق ضمني من القواعد والخصائص المشتركة والمجرّدة.
ـ عملت السّرديات على بناء نماذج في تحليل السّرد، وصفية وتصنيفية، وليست نقدية أو تأويلية؛ فهي لا تدرس الأعمال السّردية بغرض نقدها وتأويل معناها، وإنما تدرس شروط إمكان «السّردية» Narrativité التي تجعل الخطاب السّردي ممكناً.
يتبيّن لنا من هذه الخلاصات أن المنهج اللساني البنيوي مارس دوراً حاسماً ومهيمناً في تشكيل المشروع النظري للسرديات. لقد شكّل للسّرديات نموذجاً إرشادياً في بناء موضوعها السّردي وصياغة نماذج التحليل والتفسير ومستويات الوصف، مكّنتها من إنتاج نسق من المفاهيم الواصفة، برهنت على كفايتها التحليليّة والإجرائيّة، بحيث أصبحت موضع اتفاق على نطاق عالمي واسع، يعترف بأهميتها في تزويد المحلل بمعرفة علمية بأنساق السّرد وآليات اشتغاله.
والأهم من ذلك أن هذه المعرفة السّردية العلمية لم تَبْقَ حكْراً على المشتغلين داخل مجال الدراسات الأدبيّة، بل انتشرت وأصبحت مؤثرة في نماذج البحث والتفكير في كل مجالات المعرفة في العلوم الإنسانيّة.
وإذا كان من غير الممكن إنكار هذه الكشوفات المعرفية للسّرديات في مرحلتها التأسيسيّة البنيويّة، التي أصبحت كلاسيكيّة؛ فإن هذه الحقيقة التاريخيّة لا ينبغي أن تنسينا المفارقات الابستمولوجيّة التي شابت المشروع المعرفي للسّرديات البنيويّة.
صحيح أن النموذج اللساني وفّر للسّرديات قاعدة علمية صلبة في بناء نماذج تفسيرية، وصفيّة وتصنيفيّة ملائمة، مكّنتها من أن تصبح علماً للسّرد، إلا أنه من جهة ثانية قَلَّص من مغامرتها الاستكشافية؛ حيث عمل تقييد ممارستها بمحدودية نماذجه الصورية والشكلانية، وحصرها في أفقٍ تقنيٍّ شكلاني محض.
ترجع هذه المعضلة ـ في نظرنا ـ إلى أن إسقاط النموذج اللساني البنيوي على دراسة السّرد في مشروع السّرديات ينطوي على مفارقة إبستمولوجية كبرى، هي المماثلة بين اللغة والسّرد، التي أغرت علماء السّرديات ببناء نَحْوٍ للسّرد على غرار نَحْوِ اللغة، «بواسطة نقلٍ تماثليٍّ للوحدات الصغرى للسان (فونيمات، ليكسيمات) إلى الوحدات الكبرى التي تتجاوز الجملة، مثل الحكاية والفولكلور والأسطورة»(33)
المفارقة الابستمولوجية تكمن إذاً في المشروع البنيوي للسّرديات في إسقاط النموذج اللساني على أنساق عبر لسانية (الرواية، الحكاية، القصة القصيرة…) تتجاوز الجملة. ولذلك فإن أي نحو للسّرد لا يمكن إلا أن يكون إسقاطاً آلياً لنحو اللغة على النصوص، مما سيؤدي بالضرورة إلى اختزالها إلى مجرد مواد لسانيّة قابلة للاختبار. إن هذا التَّلْسِين للنصوص ـ أي التعامل معها على أنها مواد لسانية ـ يُفقد النصوص فرادتها النصيّة، بوصفها علامات عبر لسانية، تعتمد في بنيتها الداخلية على أنساق تتجاوز اللغة، مثل الرمز والتخييل:
«ولأن لأنحاء اللغات هذه القدرة التوقعية، فبالامكان اختبارها على معطيات جديدة في اللغة. أما فيما يخصّ نحو نصٍّ مفرد فلا نقد على معطيات محتملة يمكن اختبار التحليل على أساسها. نظرياً يمكننا نحو نص من وصف نصٍّ إلى حدٍّ ما، لإنتاج نصٍّ آخر لا يتميّز عنه أسلوبياً. لكن عملياً من النادر التمكّن من هذا كليّاً؛ لأن الأعمال الأدبيّة متفردة بشكل كبير، ولأن بنيتها الداخلية تعتمد على عوامل ليست لسانيّة بشكل خالص»(34)
بسبب هذه المفارقة فإن أنحاء النصّ، وضمنها نحو السّرد ـ في سعيها البنيوي إلى بناء أنساق صورية عامة للنصوص والأنظمة الدلالية ـ كانت تضحي بخصوصية النص، التي تكمن في اختلافه؛ أي في فعل خرقه للنسق. فالنصّ ليس مجرّد تطبيق لخطاطات نسقية جاهزة؛ إنه استراتيجيّة ديناميّة مفتوحة على الانزياحات والاقتباسات. وهذا ما انتبه إليه بارت في مرحلته ما بعد البنيويّة:
«وهذا ما كان يرغب فيه المحللون الأوائل للمحكي: إرجاع كل محكيات العالم (وهي كثيرة) إلى بنية واحدة. لقد كانوا يفكّرون في استخلاص نموذج من كل حكاية، وتأسيس بنية سرديّة كبرى ـ انطلاقاً من هذه النماذج ـ يمكن إسقاطها (من أجل التحقّق) على كل محكي. إنها مهمة شاقة وغير مرغوب فيها في النهاية؛ لأن النصّ يفقد اختلافه…. اختلاف لا يتوقف، ويرتبط بلا نهائية النصوص واللغات والأنساق: إن كل نصّ مسرح لهذا الاختلاف»(35).
- 3 ـ الإبدال الثقافي/ ما وراء البنية:
كما سبق وأكدنا إن أهمية الإبدالات المعرفية التي حققتها السّرديات ـ في مرحلتها البنيويّة التأسيسية ـ لا ينبغي أن تحجب عنا محدودية هذا النموذج، سواء بالنظر إلى مفارقاته الابستمولوجية، أو بالنظر إلى تعقّد مفهوم السّرد وتشعّب مرجعياته اللسانيّة والرمزيّة والثقافيّة والإيديولوجيّة، وأيضاً بالنظر إلى ما ستعرفه النظريّة الأدبيّة من تحولات جذرية في سياق تطورها واستجابتها للتحولات الاجتماعيّة والتاريخيّة.
يمكن أن نشخِّص مسارين للتطورات الحديثة في السّرديات: مسار داخلي انبثق من داخل النظرية السّردية الحديثة، ومسار خارجي انبثق من حقول علمية موازية للسّرديات داخل العلوم الإنسانية، طوّرت رؤى وتصورات جديدة لمفهوم السّرد. وفي سياق هذا التطور كانت التأثيرات متبادلة بين المسارين.
وقبل أن أتطرّق لآفاق التطور الحديثة التي عرفتها السّرديات ينبغي أن أؤكد أن الوعي بضرورة تطور السّرديات وتجديد ممارستها انطلقا من داخل النسق؛ أي من داخل السّرديات؛ وقد تعرّضت سابقاً للنقد الذي وجهه بارث للسّرديات البنيويّة في مرحلته ما بعد البنيويّة، وسأقف هنا عند مثالين دالّين، هما تودوروف من السياق، الفرنسي وميك بال من السياق الإنجليزي.
منذ أواخر الثمانينيّات من القرن العشرين استشعر تودوروف الضرورة الملحَّة إلى تطوير الشعرية التي تأسست السّرديات في إطارها البنيوي، وهذا ما دفع تودودروف، ـ وهو أحد مؤسسي السّرديات البنيويّة ـ إلى إعادة النظر في أهم مسلَّمة بنيوية تأسست عليها السّرديات البنيويّة في مقدّمة كتابه «الشعرية».
في هذه المقدمة النقديّة يقوم تودوروف بمراجعة نقدية شاملة لوضعية الدراسات الأدبية خلال الثمانينيات. وفيما يشبه الانقلاب على النموذج البنيوي ـ الذي كان يَعُدُّ الأدبية مسألة لغويّة وكونية ـ ينتهي تودوروف إلى خلاصة مضادة، حين يؤكد أن «الخصوصيّة الأدبيّة ليست من طبيعة لغوية (ومن ثَمَّ كونيّة)؛ وإنما من طبيعة تاريخية وثقافيّة»(36)
ستشكِّل هذه الخلاصة الجذرية تحولاً مفصلياً في المشروع النظري لتودوروف من الشعريّة البنيويّة إلى ما أسميه بالشعريات الثقافيّة. إن التسليم بأن الخصوصيّة الأدبيّة ـ من طبيعة تاريخيّة وثقافيّة ـ يتعارض جذرياً مع المشروع النسقي للسّرديات التي تركّز رهانها الأساسي على بناء أنساق بنيويّة كلّية للسّرد، كانت تعدّها بمثابة أنساق كونيّة، تستمد خاصيتها الكونيّة من الطابع الكوني لنحو اللغة، ومن ثَمَّ تتعالى على السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة.
في سياق هذا التحول ـ الذي تعمّق مع الإبدال الثقافي الذي رسّخته الدراسات الثقافيّة والنظريّة ما بعد الكولونياليّة ـ انخرط تودوروف ـ خاصة بعد تعرفه على أعمال الناقد الثقافي إدوارد سعيد ـ في مشروع جديد، تاريخي وثقافي، شكَّلت أفقه الفكري قضايا السّرد والغيرية الثقافيّة وصور الآخر، ودور السّرد في ممارسة السلطة والهيمنة.
وقد دشن هذا المنعطف الثقافي في كتابه «فتح أمريكا»(37)، الذي يُعَدُّ «عملاً رئيساً في مجال تحليل الخطاب، ويتناول بشكل مباشر وظيفة وقوة الكتابة في الوضع الكولونيالي عند السيطرة على وسائل الاتصال، وليس السيطرة على الحياة والممتلكات أو حتى على اللغة نفسها»(38).
نعاين في هذا الكتاب تحولاً في تعامل تودوروف مع مقولات النموذج البنيوي؛ إنه يمارس تكييفاً لأدوات السّرديات البنيويّة، يدفعها إلى العمل في سياق تحليل ثقافي أوسع يهتم بقضايا التمثيل والهوية والآخر والسلطة.
على سبيل المثال يوسّع مفهوم التمثيل السّردي، الذي يُعْنَى بالطريقة التي تروى بها القصة في النموذج البنيوي، ليدلّ على التمثيل الثقافي الذي يُعْنَى بفحص تصورات الإسبان للهنود، وكشف دور القوة الكولونيالية في بناء التمثيلات والصور الثقافيّة. هذا التكييف الثقافي للمصطلح أتاح لتودوروف الانتقال من جماليات السّرد إلى سياسات التمثيل، ومن التحليل السّردي إلى التحليل الثقافي؛ أي الشعريات الثقافيّة.
باحثة أخرى من داخل السّرديات البنيويّة، عملت على تطويرها باتجاه الأفق الثقافي هي ميك بال. وتكمن أهمية ميك بال ـ في مسار تطور السّرديات البنيويّة ـ في أنها تمثل حالة بينية متداخلة بين السّرديات في مرحلتها البنيويّة الكلاسيكية ومرحلتها ما بعد الكلاسيكية؛ أي مرحلة التحول، ومن ثَمَّ فهي تعكس ـ في ممارستها النظرية ـ هذه التحولات الثقافيّة التي طرأت في حقل السّرديات:
«يمكن تتبع التطور الفكري لميكي بال في النسخ الثلاث المختلفة لكتابها علم السّرد (1985، 1997، 2009)، التي تعكس بإتقانٍ تحول الحقل»(39)
إن انتقال ميك بال من السّرديات البنيويّة إلى الدراسات الثقافيّة، أو ما تفضل هي تسميته بالتحليل الثقافي، كان مؤسساً على وعي ابستيمولوجي بالأصول النظريّة المؤسسة للسّرديات، ولم يكن مجرد انتقال عرضي، ذلك ما يؤكده سعيد يقطين: «إن ميك بال تمثل امتداداً للسّرديات الكلاسيكية وتطويراً لها في آن. لقد واكبت التطور، وكانت مؤهلة له منذ بداية اشتغالها بالسّرديات»(40)
طورت ميك بال خلال ممارستها للسّرديات منظوراً ثقافياً ـ لتحليل السّرد، سعت من خلاله إلى تجسير العلاقة بين السّرديات والدراسات الثقافيّة التي تُفضِّل تسميتها بالتحليل الثقافي Cultural Analysis. إن ما يبرر هذا التوسيع في نظرها لحقل السّرديات ـ باتجاه الانخراط في التحليل الثقافي ـ هو الطبيعة الثقافيّة للسّرد، التي تتجلّى في الحضور الطاغي والشامل للسّرد في كل مجالات الثقافة.
وبسبب ذلك لا يمكن للسرديات أن تظل محايدة إزاء هذا التجلّي السيميائي والثقافي الطاغي للسرد. وهذا ما يفرض منطقياً إدماج مقولات وأدوات التحليل السّردي في دراسة الموضوعات الثقافيّة، فكل شيء في الثقافة يملك مظهراً سردياً، أو على الأقل يمكن فهْمُه وتأويله كنص سردي.
وبالإضافة إلى الهيمنة الواضحة للأجناس السّردية الأدبية على السّرديات البنيويّة، يشغل السّرد مكانة مهمة في مواقع وخطابات خارج المعتمد الأدبي، تتضمّن القانون، الصور المرئية، الخطاب الفلسفي، التلفزيون، الحجاج، التدريس، والكتابة التاريخيّة.
وإذا كان السّرد حاسماً في هذه الممارسات الثقافيّة التي تعدُّها ميك بال ـ كلياً أو جزئياً ـ ممارسات سرديّة؛ فينبغي على السّرديات اقتحامها. بهذا التوسيع في مجالات وموضوعات التحليل السّردي تتجاوز ميك بال الأفق الأدبي الضيق للسّرديات التي ظلّت تقليدياً محصورة بمقولات القصة / السّرد، غالباً في السّرد الأدبي، وفي الرواية بشكل خاص.
وإذا كانت السّرديات، البنيويّة في مرحلتها البنيويّة الكلاسيكية قد اهتمت بالتنظير على حساب استنطاق النصوص، من أجل بناء نماذج عامة للسّرد؛ فإن ميك بال ترى أنه لا تنظير من دون تحليل النصوص؛ أي لا نظرية من دون ممارسة. إنها لا تغفل أهمية عمليات التصنيف والنمذجة من أجل تنظيم حقل البحث من الناحية الابستمولوجيّة والمنهجيّة؛ لكنها تتساءل: ما جدوى التنظير إذا لم يؤد إلى فَهْمٍ أفضل للنصِّ وتأويله.
إن تطبيق عدد من المقولات والخطاطات التحليلية على نصٍّ محدد يكون مجدياً فقط بعد التبصر في طبيعة النص قراءةً وتأويلاً. ولذلك تؤكد لا توجد صلة حتمية بين نموذج التحليل الذي نختاره وفهْم النصوص؛ بمعنى أن أي نموذج نظري لا يضمن في ذاته فهْماً ملائماً مسبقاً للنصِّ؛ لأن الفهم ممارسة فردية مرتبطة بالمحلل؛ أي بالذات القارئة، وليس مجرد تطبيق لأدوات نظرية وخطاطات جاهزة.
يحتاج الفهم إلى معرفة وخبرة بالنصوص. إنه نتاج نشاط القراءة التي تشتبك مع النصوص، وليس مجرد تحليل بالمعنى التقني، يُخضِع النصوص لنماذج وصفية ونمذجات تصنيفية جاهزة، يتمّ إسقاطها بشكل مسبق على النصوص. وعلى الرغم من تأكيد ميك بال على أهمية وجدوى أدوات للتحليل، فإن الفهم في تصورها ليس عمليّة تنجز بطريقة أداتيّة؛ إنه ممارسة تأويليّة، استنطاق للنصوص.
لا يمكن للسّرديات في نظر ميك بال إلا أن تكون تحليلاً ثقافياً، في عصر أصبحت الثقافة فيه تشمل عدداً من الإنتاجات المختلفة والأنظمة الدالّة في اللغة، الصور Images، الأصوات، والإشارات… هذه الأنظمة لا يمكن أن تفهم في ذاتها، ومن منظور التحليل البنيوي للسرد فقط؛ لأن التفكير في الثقافة هو تأمل فكري سردي. وهذا التأمل هو نفسه جزء من كيان الثقافة، وليس مجرد وصف محايد، أو تحليل تقني محض.
بهذا التموضع الثقافي ـ الذي يجعل الباحث في السّرديات يمارس عمله النظري من داخل الثقافة وليس خارجها ـ تكون السّرديات ممارسة ثقافيّة، وفي الواقع النتاجات السّردية تنتمي كليّاً إلى مجال الثقافة. ولذلك ترى ميك بال أن افتراض الموقف الأداتي للسّرديات البنيويّة يتعارض مع هذا المنظور الثقافي للسّرد.
إنه يعزز الوهم النمطي للفكر الأنواري بأن الذات يمكن أن تظلّ على مسافة انفصال من موضوع دراستها؛ لأنه يتوهم أن هذا التعالي هو ما يضمن للذات الوصول إلى فهْمٍ أفضل. وتنتقد ميك بال هذا التصور الأنواري للمعرفة بأنه مثالي؛ لأنه ينزع إلى تقديم المفاهيم على أنها وصف لِـ «أشياء»، معظمها عناصر مثل الكلمات، والشخصيات، وأساليب الكلام، إنه يُشَيِّئُ المفاهيم والمعرفة الإنسانية. على خلاف ذلك تلحّ على أن السّرد موقف ثقافي والسّرديات منظور ثقافي:
«إن ما أقترحه ـ ونحن في أفضل حال في عصر الدراسات الثقافيّة ـ تصورٌ للسّرديات يتضمن النصّ والقراءة، الذات والموضوع، الإنتاج والتحليل، في فعل الفهم. بكلمات أخرى: أدعو إلى نظريّة للسّرد، تمكٍّن من فهْم اختلافات موقع السّرد في أي تعبير ثقافي، من دون منح الأفضليّة لأي وسيط، أو صيغة، أو استخدام»(41)
بهذا المنظور الثقافي للسّرد المؤسس على معرفة عميقة بالسّرديات والسيميائيّات، وعلى خبرة في ممارستها السّردية والسيميائيّة، تجسد ميك بال في ممارستها مسار تطور في السّرديات متعدد الأبعاد:
ـ نظرياً: من النموذج البنيوي إلى التحليل الثقافي (الدراسات الثقافيّة).
ـ منهجياً: من الوصف إلى التأويل، ومن البنية إلى الدلالة والقارئ.
ـ على مستوى موضوع الدراسة: من المعتمد الأدبي (السّرد الأدبي: الرواية، القصة القصيرة) إلى الثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي الواسع في الدراسات الثقافيّة (السّرد الشعبي، الإشهار، الرسم، التصوير، الرقص، الموضة…)
إذا كان كل من تودوروف وميك بال يمثلان نموذجين دالين للتطورات التي حدثت من داخل السّرديات البنيويّة، فهناك مسار آخر للتطور عرفته السّرديات في علاقتها بالحقول المعرفية الأخرى في العلوم الإنسانيّة.
في هذا السياق تعرض الباحثة مونيكا فلوديرنيك Monika Fludernik بتركيز على أهمّ التطورات التي عرفتها السّرديات من البنيويّة إلى الحاضر. ويمكن أن نلخص أهمّ اتجاهات التطور التي عرفتها السّرديات في أربعة آفاق: الأفق التداولي، الأفق النسوي، الأفق الإيديولوجي، والأفق المعرفي. إن ما يجمع بين هذه الاتجاهات الجديدة في السّرديات، هو تحررها من النموذج البنيوي الذي أغرق التحليل السّردي في نزعة شكلانية مجرّدة، استبعدتْ كل ما يتعلّق بالمرجع والسياق والوظيفة.
ولذلك ستعمل هذه الاتجاهات الجديدة في السّرديات على أن تعيد لمفاهيم الوظيفة والدلالة والسياق والثقافة مكانتها اللائقة في بناء تصورها لمفهوم السّرد. هذا الانفتاح على ما وراء البنيّة، دفعها إلى تطوير مقاربات سياقية وتأويلية وثقافيّة للأعمال السّردية، ومن ثَمَّ لم يعد التحليل السّردي في هذه الاتجاهات الجديدة مقيداً بنماذج الوصف البنيويّة المجردة.
في هذا السياق دشَّنت السّرديات التداولية أفقاً جديداً في النظرية السّردية، تزامن هذا التحول مع الطفرة التداولية ـ التي حدثت في مجال اللسانيّات، وأدت إلى استبدال اللسانيّات البنيويّة التي شكّلت نموذجاً للسّرديات البنيويّة ـ باللسانيّات الاجتماعيّة ونظريّة أفعال الكلام، وتحليل المحادثة. وقد عملت هذه الاتجاهات اللسانيات التداوليّة على طرح قضايا الدلالة والسياق في دراسة اللغة.
في اتجاه انفتاح السّرديات على سياقات تداولية واجتماعيّة وثقافيّة. في هذا المنحى شكّلت البحوث التي أنجزها لابوڤ William Labov في مجال تحليل سرد المحادثة سنة 1970 مرجعاً أساسياً في السّرديات أواخر السبعينيات في أعمال (Harweg 1975، Ehlich 1980، Quasthoff 1980، Srempl 1986)(42).
وقد كان لهذه الأبحاث التداوليّة تأثير حاسم في بلورة اتجاه جديد في السّرديات يعرف بالسّرديات التداوليّة في أعمال (داڤيد هرمان 1997، 2002، مونيكا فلوديرنيك 1991، 1993، 1996). هنا يتركز البحث على دراسة القصص والحكايات فيما وراء البنية، في سياقات اجتماعيّة وثقافيّة أوسع:
«في تحليل المحادثة والخطاب، تُحكى قصة السّرد مرة أخرى بلهجة مختلفة، أكثر سوسيولوجية، وهنا تتحول البؤرة أكثر إلى السّرد في سياق حكيه إلى حقيقة أن القصص منتجات جماعيّة أو تعاونيّة، لا تحدث فقط في ظل ظروف اجتماعيّة معينة؛ لكنها أفعال اجتماعيّة أيضاً»(43)
بالإضافة إلى ما أحدثته السّرديات التداوليّة من تغيير في منظور تحليل السّرد، وإحلال السياق محل البنيّة، والوظيفة محل الشكل؛ كان لاهتمامها بالسّرد اليومي، وبدراسة الحكي في سياق عمليات الاتصال الاجتماعي، دورٌ مؤثر في توسيع طبيعة المتن الذي تشتغل عليه السّرديات، فلم يعد مقتصراً على السّرد الكتابي الأدبي (الرواية، القصة القصيرة)، بل أصبح يتضمّن السّرد الشفاهي وقصص الحياة اليومية.
ومع صعود الدراسات النسوية منذ أواخر الثمانينيات انخرطت السّرديات في قضايا النسوية، وبدأ اتجاه نسوي داخل السّرديات يتبلور، انبثقت عنه السّرديات النسويّة. يمكن الإشارة هنا إلى أهمية أعمال سوزان لانسر Susan Lancer (1986، 1988) التي خاضت سجالاً حاداً حول عمى السّرديات عن مقاربة قضايا الجندر Gender.
تركز سوزان لانسر التي تعدُّ من أهم مؤيدي التوجه الجندري في السّرديات (لانسر 1992، 1995، 1999) على تحليل عملية البناء الجندري Genderization لصور السّارد(44). في هذا المنظور النسوي يجري تكييف مقولات التحليل السّردي البنيوي (وضعيات السّارد، التبئير..) لتستخدم في التحليل الثقافي لصور الجنس والجندر؛ إنها تخضع لاستخدامات النقد النسوي.
إن الوصف الصريح لأفعال وصور السّاردين يجري تحليله في ضوء البناء الجندري الضمني لأنماط السلوك وسنن اللباس.. ولم يقتصر أثر النقد النسوي على إعادة توجيه السّرديات نحو قضايا الجندر والجنس، بل ستصبح هي ذاتها (السّرديات) موضوع نقد نسوي، حيث سعت فلوديرنيك إلى مراجعة وإعادة كتابة تاريخ النظرية السّردية من منظور نسويّ.
النموذج الثالث لتطور السّرديات كان مؤثراً وواسع النطاق، ولم يكن بعيداً عن الأفق الثقافي للمنظور النسوي، لكن هذه المرّة سيكون مدعوماً بتوجه إيديولوجي. انبثق هذا الاتجاه الثقافي مع صعود الدراسات الثقافيّة والنظريّة ما بعد الكولونيالية.
وإذا أخذنا على سبيل المثال السّرديات ما بعد الكولونيالية Postcolonial Narratology؛ وجدْنا أنه يتركز الاهتمام فيها على دراسة أثر القوة الكولونيالية في تشكيل سلطة السّرد والتمثيل الثقافي للآخر. كيف تمَّ استخدام السّرديات الكبرى في دعم الممارسات القمعية للكولونيالية ضد الشعوب الأصلية المستعمَرة. وتكمن أهمية هذه الاستقصاءات النقدية في أنها كشفت أوجه الدعم المتبادل بين الخطاب الكولونيالي والخطاب السّردي في الثقافة الأوروبيّة:
«تحاول السّرديات ما بعد الكولونيالية وصف تقنيات سردية معينة في نقل البنيات الاستشراقية أو الأبوية Patriarchal الضمنية، وكيف أن القصص ـ باختيارها للتبئير وبنية الحبكة أو استخدامها للخطاب الحرّ غير المباشر أحياناً ـ تقاوم هذه البنيات، تدمرها أو تفككها. وأخيراً تهتمّ السّرديات ما بعد الكولونيالية بالتقنيات السّردية التجريبية التي تحتفي بالهجنة الثقافيّة والتحرير الرمزي للتابع Subaltern»(45).
تطور آخر عرفته السّرديات في اتجاه العلوم المعرفية، من خلال انفتاحها على اللسانيات المعرفية والدراسات المعرفية التجريبية، نشأ عنه اتجاه يعرف بالسّرديات المعرفية Cognitivisit. ويؤكّد هذا الاتجاه المعرفي في السّرديات أن السّرد خاصية مكونة للهوية الإنسانيّة، إلى حد أن «برونر» Bruner يذهب إلى القول «بوجود ميولات فطرية للفهم السّردي. وسواء أكان مهيّأً بيولوجياً أم لا، لا يمكننا التنقيص من أهمية الحكايات في حياتنا؛ حيث إنها تمثل آليات لجعل ذواتنا مفهومة ومعقولة»(46).
تدرس السّرديات المعرفية دور السّرد في الخبرة الذاتية للإنسان وفي منحه خبرة معرفيّة من خلال مستويين أساسيين: «على المستوى الأول تركز على طُرق إدراك الإنسان للأفعال والأحداث من وجهة نظر معرفيّة. وعلى المستوى الثاني تحلل البنيات السّرديّة (كما هي في النصوص)، وكيف تخضع للنماذج أو الأطر المعرفية الأساسيّة»(47).
من خلال عرْضنا بتركيز لأهم التطورات الحديثة في حقل السّرديات والنظريّة السّردية، تظهر لنا أهمية التحولات التي طرأت على حقل السّرديات؛ لقد أسهمت هذه التطورات في توسيع حقل السّرديات، في منهجه ومدونة موضوعاته.
ومن جهة ثانية كشفت الطبيعة الثقافيّة للسرد التي تجعل منه خاصّية ملازمة للوجود الإنساني، فيما ينتجه من خطابات ثقافيّة وفي ممارساته الثقافيّة الدالة. ومن الناحية الابستمولوجيّة تبرز هذه التطورات الحديثة ثلاث خصائص مُنْتِجَة اتسمت بها السّرديات في صيرورة تطورها، هي: الانفتاح والديناميّة والامتداد خارج حدود حقلها.
صحيح أن هذه التوسّعات في حقل السّرديات لم تخلُ من توترات إبستمولوجيّة، تتصل بإشكاليّة انتقال المفاهيم وحركية انتقال الأفكار بين السّرديات وحقول المعرفة الأخرى، لكننا يمكن أن نقول بأن هذه الدينامية كانت محكومة بنمط من التبادل المنتج بينها وبين التخصصات الأخرى.
إذا كانت حقول المعرفة الإنسانيّة استفادت من مفاهيم التحليل السّردي في تطوير مقاربتها لموضوعاتها؛ فإن السّرديات استفادت من الاستخدامات المتعددة لمفاهيمها في هذه الحقول، خاصة حين تمَّ تطبيقها على مدونات سردية جديدة، ظلت مستبعدة من مجال بحث السّرديات، مثل السّرد اليومي وقصص الحياة اليومية وحكايات الناس العاديين.
وهذا ما ترتب عنه تحطيم التمييز التراتبي بين السّرد الأدبي والسّرد اليومي، وبين سرود الثقافة الرفيعة وسرود الثقافة الدنيا أو الشعبيّة:
«وصار الخط الفاصل الذي كان يبدو شديد الوضوح بين عالم القصص الخياليّة وغير الخيالية ضبابياً. فقد التمييز بمجرد التحرر من الازدواجيّة والثنائيات، كما تكتب سينثيا برنشتاين Bernstein: رغم أن أية قصة تصنف على أنها طبيعيّة أو أدبيّة، شفهيّة أو مكتوبة، بسيطة أو معقدة، إلا أن هذه التصنيفات ليست ثنائيات متناقضة، ليست سوى أطراف لاحتمالات بلا نهاية»(48).
- المراجع والمصادر والهوامش:
(1) Gerald Prince, Narratology The Form and Functioning of Narrative, Mouton Publishers, Berlin-New York-Amsterdam, 1982, p. 163.
(2) David Herman, Histories of Narrative Theory: A Genealogy of Early Developments, in A Companion to Narrative Theory, Edts James Phelan and Peter J. Rabinowitz, Blakwell Publishing, 2005, USA/UK/Australia, p. 19.
– Monika Fludernik, Histories of Narrative Theory (II): From Structuralism to the Present, Ibidem, p. 36.
(3) David Herman, Histories of Narrative Theory: A Genealogy of Early Developments, p. 23.
(4) المرجع السابق نفسه.
(5) المرجع السابق نفسه.
(6) المرجع السابق، ص 24.
(7) المرجع السابق نفسه.
(8)أ. ج. غريماس، السيميائيّات السردية، ترجمة سعيد بنكراد، ضمن «طرائق تحليل السّرد الأدبي»، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1992، ص 183.
(9)والاس مارتن، نظريات السّرد الحديثة، ترجمة د. حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998، ص 29.
(10)جماعة من المؤلفين، نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة ابراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت/الرباط، 1982، ص 130.
(11)سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي: الزمن، السّرد، التبئير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، 1989 ص 29.
(12) تزفيطان تودوروف، مقولات السرد الأدبي، ضمن كتاب طرائق تحليل السرد الأدبي، ص 39.
(13)فلاديمير بروب، مورفولوجيّة الخرافة، ترجمة وتقديم، إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الدار البيضاء، 1986، ص 20.
(14)المرجع السابق، ص 33.
(15) Jonathan Culler, The Pursuit of Signs, Semiotics, Literature, Deconstrution, Cornell University Press, Ithaca- New York, 1981, p. 170-171.
(16) Roger Webster, Studying Literary Theory, Arnold, 1996, p. 52.
(17) ولاس، مارتن، نظريات السّرد الحديثة، ص 30.
(18) David Herman, Histories of Narrative Theory p. 26.
(19) سعيد يقطين، السّرديات والتحليل السردي الشكل والدلالة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت، 2012، ص 26.
(20) المرجع السابق، ص 28.
(21)رولان بارت، التحليل البنيوي للسّرد، مرجع مذكور، ص 10.
(22)المرجع السابق نفسه.
(23)المرجع السابق، ص 11.
(24)المرجع السابق، ص 14.
(25)تزفيطان تودوروف، مقولات السّرد الأدبي، مرجع مذكور، ص 41.
(26) جيرار جينيت، خطاب الحكاية بحث في المنهج، ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الثانية 1997، ىص 38 ـ 39.
(27)المرجع السابق، ص 40.
(28)رولان بارت، التحليل البنيوي للسّرد، مرجع مذكور، ص 13.
(29) Jonathan Culler, The Pursuit of Signs, Semiotics, p. 169.
(30) Jonathan Culler, The Pursuit of Signs, Semiotics, p. 170.
(31) سعيد يقطين، السّرديات والتحليل السردي، مرجع مذكور، ص 52.
(32)جينز بروكميير ودونال كريو، السّرد والهوية: دراسات في السيرة الذاتية والذات والثقافة، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015، ص 13.
(33) Paul Ricœur, Du Texte à L’action, Essais d’herméneutique II, Paris, Ed Seuil, 1986, p. 151.
(34)Elizabeth Closs Draugott and Mory Louisse Pratt, Linguistics, Harcourt Brace Jovanocich. INC. 1980, p. 28.
(35)Roland Barthes, S/Z, Ed Seuil, Paris, 1970, p. 9.
(36)تزفيطان طودوروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال، ط 2، 1990، ص 16.
(37)تزفيتان تودوروف، فتح أمريكا: مسألة الآخر، ترجمة بشير السباعي، سيناء للنشر، ط 1، 1992، القاهرة.
(38)بيل اشكروفت وآخرون، الرد بالكتابة، ترجمة شهرت العالم، المنظمة العربية للنشر، ط 1، 2006، ص 140.
(39)جينز بروكميير ودونال كريو، السّرد والهوية، ص 14.
(40)سعيد يقطين، السّرديات والتحليل السّردي، ص 74.
(41) Mieke Bal, Narratology Introduction to the Theory of Narrative, Second Edition, University of Toronto Press, Toronto Buffalo, London, 1997, p. 222.
(42) Monika Fludernik, Histories of Narrative Theory (II) , p. 44.
(43) جينز بروكميير ودونال كريو، السرد والهوية، ص 26.
(44) Monika Fludernik, Histories of Narrative Theory (II) , p. 45.
(45) Monika Fludernik, Histories of Narrative Theory (II) , p. 45.
(46) Kennet J. Gergen, Realites and Relationships: Sounding in Social Construction, Cambridge, Massachusetts – London Harvard University Press, 1997, p. 186.
(47) Monika Fludernik, Histories of Narrative Theory (II) p. 49.
(48) جينز بروكميير ودونال كريو، السّرد والهوية، ص 15 ـ 16.
محمد بوعزة | أستاذ السّرديات والدراسات الثقافيّة، جامعة مولاي إسماعيل، المغرب.