شعريّة الجنون قراءة في السرد النسويّ المُعاصِر
- شعريّة الجنون قراءة في السرد النسويّ المُعاصِر
الكتابة والهويّة بالنسبة إلى المرأة وجهان لعملة واحدة، ربّما لأنّ الكتابة تُتيح للمرأة أن تتطابق مع ذاتها؟ وربّما لأنّ الكتابة أداة تمرّدها الوجوديّ، وربّما بالكتابة يُتاح لها أن تنجو من الاغتراب. من هنا كانت كتاباتها – في معظمها – بمثابة رحلة وجوديّة للبحث عن الذّات!
وإذا كانت ذاتيّة الفرد – في الفلسفات الحديثة – مشكلة كبرى، فإنّ ذاتيّة المرأة – وكما يطرحها السرد النسوي المُعاصر – ما زالت إلى اليوم تَطرح سؤالها: مَن أنا؟ أيُّ برهانٍ لديّ على تحقيق ذاتيّتي؟ ليس لي ذاتيّة، ما زلتُ أنا كما يتوقَّع الآخرون مِنّي.
ومثل هذه الكلمات تعبِّر عن مُعاناةٍ وجوديّة كانت وما زالت هي إشكاليّة المرأة/ الكاتبة منذ أكثر من قرن من الزمان، حيث لا زالت المرأة لا تستطيع أن تتطابق مع ذاتها، أو بمعنىً آخر لا تستطيع أن تتأكّد من نفسها/ حريّتها إلّا من خلال صورتها في مرآة الآخرين.
فالتطابُق مع الآخرين لا مع ذاتها، وضرورة ألّا تكون مختلفة يُخرس الشكوك التي تهدِّد ذاتيّتها بالعزلة. حينئذ ستحصل على الأمان الاجتماعي، ولكن ليس قبل أن تدفع الثمن غالياً بالتنازل عن تلقائيّتها وفرديّتها؟!
إن وعي المرأة/ الكاتبة لم يُنقذها! فقد تمسّكت بفرديّتها، وبكونها مختلفة، لكنّها ما زالت تفقد الشيء نفسه، فهي لا زالت لا تعيش تلقائيّتها؛ وما معنى حريّتها؟ لقد تحرَّرت من كلّ الروابط، ثمّ ماذا؟ لقد أفضى بها ذلك إلى قَيدٍ جديد، إلى تبعيّة جديدة، فما معنى حريّتها؟ هنا تظهر إشكاليّة التطابُق مع الذات في السرد النسوي المُعاصر؛ أي مع تفاقُم الوعي بالانشطار، الأمر الذي انعكس سلباً على سيرتها الذاتيّة، بل على صورتها الفنيّة في نصوصها السرديّة إجمالاً.
وتظهر علامات تشظّي الذات على الصورة الفنيّة للمرأة في النصوص السرديّة النسويّة – بصفة عامّة – وعلى سبيل المثال، نجد الفتاة في نصّ “أوراق النرجس“ لسميّة رمضان كأنموذج لنصوص السيرة الذاتيّة: حيث نجد الفتاة في “أوراق النرجس” تقترب من المرآة وتحملق ربّما لتتعرّف إلى ذاتها المغتربة عنها بينما تحذّرها صديقتها آمنة فتقول: “متبصّيش لروحك في المراية كتير.. اللّي يبصّ لروحه في المراية كتير يتجنّن”.
لكنّها لم تتعرّف إلى ذاتها بعد، ولا تثنيها مُطارَدة آمنة لها بقولها: “طول عمرك، موراكيش غير البصّ في المرايات”. فالتعرُّف إلى الذات هو مرفأ سعادتها وفي الوقت ذاته هو مكابدتها الوجوديّة، تقول لنفسها: “ألتفتُّ فالتفتَ وجهي في المرآة، فوق التسريحة. مياه المرآة متعرّجة تتماوج.. تتطلّع إليّ.. تراوغني كالزئبق.. أراها ولا أراها”.
وفي “اعترافات امرأة مسترجلة” للكاتبة سعاد زهير تعترف الشخصيّة الروائيّة بفقدان هذه الذات، ولكنّها لا تيأس بعد، ستفعل كلّ شيء، لتكون، لتحيا، لتتطابق مع هذه الذات، ربّما حينها تجد سعادتها، تقول: “وجدتني أقذف بنفسي بلا تردُّد في مغامرةٍ جنونيّة”.
ولا يختلف الوعي بهذا الانقسام عن الذات وعن المجتمع والآخرين، فالمرأة تعي انقسامها وعزلتها، ويظهر هذا من خلال إصرار بطلات ” نوال السعداوي” على التفرُّد والاعتزال، فنجد أنّ بهيّة شاهين – في “امرأتان في امرأة” – لا تنتمي للمُجتمع..
ولا تنتمي إلى أحد، وتصرّ على أن تكون “اللّا”؛ ذلك أنّها و”فؤادة” في رواية “الغائب” – للسعداوي أيضاً – تُدرك “أنّ في أعماقها شيئاً يؤكّد أنّها ليست واحدة من ملايين… وأنّ فيها شيئاً ما ليس في الآخرين… وأنّ الناس كائنات من غير نَوعها وهي شيء آخر”.
وحين كانت “فؤادة” “تضع يدها في جيب المعطف كأنّها تبحث عن شيءٍ ما مهمّ داخل نفسها، تكتشف فجأة أنْ ليس لنفسها شيء مهمّ.. ابتلعت لعاباً مرّاً، وحرَّكت لسانها الجافّ، وهي تقول: نعم، أنا لست شيئاً”.
هكذا يؤسِّس الوعي الضدّي لديهنّ وعياً إشكاليّاً، ينعكس على صورة الذات لديهنّ في صورةِ اغترابٍ عن الذات، ويتجلّى هذا الانشطار في رؤية الذات الأنثويّة إلى الذات والعالَم.
تعاني الشخصيّة النسائيّة في “ليل الغرباء” لغادة السمّان، وفي “أوراق النرجس” لسميّة رمضان من ثنائيّة الثقافة، وثنائيّة الحضارة، بخاصّة حين تتحرّك الشخصيّة في إطار حضارتَين (العربيّة والغربيّة)، إذ تبدأ المُعاناة الوجوديّة إزاء حركتَيهما في دوائر من الثنائيّات المُتعارضة.
تحكي راوية “أوراق النرجس” عن هذه الإشكاليّة: “بين هنا وهناك أقف مشدوهة، أنظر إلى صورتي في مرايا السحرة، الأوراق البيضاء عليها حروف عربيّة، وصور المصوّرين على أوراق بيضاء أيضاً تحتها تعليقات بحروفٍ لاتينيّة، فأجدني هنا وهناك، ولا أجدني لا هنا ولا هناك”.
وفي “ليل الغرباء” تطلّ مُدن الشرق.. يافا.. بيروت.. من شبّاك الذاكرة وتبدو كعصافير تُعشّش في القلب، وعبر تيّار الوعي تنساب مشاعر الحنين والدفء والبراءة في مقابل مُدن المنفى الاختياري: لندن وباريس.. حيث نجدها مُدناً تجسِّد العقم والقسوة: “في المدينة هنا أحسّ أنّ فيها شيئاً يركلني”.
تعكس هذه المُفارقة أزمة الذات وهي تعاني صراعاً بين ثقافتَين أو حضارتَين لدى غادة السمّان وسميّة رمضان اللّتَين تطرحان المحنة الحضاريّة أو مشاعر التأزُّم الوجودي، وحيث ينجح تدفُّق المونولوج الداخلي لديهما لتغدوَ الكتابة بمثابة انفتاحٍ للّاوعي.
في “أوراق النرجس” تتوقّف الراوية فجأة “في منتصف الطريق، وقد تلبَّسها نَوع غريب من الجنون يضطرُّها إلى المحو وإعادة الكتابة كلّ مرّة من جديد”، وهي بذلك تؤكِّد لنا أنّ بيت القصيد في “أوراقها النرجسيّة” يكمن في أنّ الكتابة لا تثبت ولا تنتهي، لأنّ النصّ برمّته ضدّ الثبات، وضدّ النهايات.
- القوّة الانقباضيّة والانفجار اللّغويّ
ترى “جوليا كرستيفا” Julia Kristiva أنّ كثيراً من النساء/ الكاتبات يستطعن أن يطلقْنَ ما أسمته بالقوّة الانقباضيّة للّاوعي من أجل إحداث انفجارٍ لغوي، لأنهنّ يمتلكن روابط قويّة بكيان “الأم” في المرحلة ما قبل الأودبيّة، وأنّ هذه القوّة الانقباضيّة تتشابه مع التقلُّص اللّاإرادي للرحم في حالات الولادة.
فيما تُشير “إلين شوالترElaine Showalter “ في كتابها “A Literature of Their Own“ إلى فكرة “الطرس” (palimpsest) الذي يُمحى ويُكتب عليه من جديد، والتي أطلقتها كلٌّ من جيلبرت وسوزان جوبار للفْتِ الانتباه إلى القصّة الخرساء، التي تختفي في حنايا القصّة المُهيمِنة على السطح كوسيلة لقراءة المسكوت عنه، والمُخبَّأ بين السطور، بخاصّة في ظلّ تأكيد إلين شوالتر على أهميّة قراءة تلك المنطقة المخبّأة بين السطور، لإخراج المرأة من صمتها، والتأكيد على جماليّات التواصُل عبر الكتابة.
تقول إلين شوالتر في كتابها المذكور “هنالك بعض الدلائل الإثنوغرافيّة التي تشير إلى أنّ النساء في ثقافات مُختلفة قمْنَ بتطوير شكلٍ خاصّ من التواصل اللّغوي يُقاومن به الصمت المفروض عليهنّ في الحياة العامّة … فالكشف عن الأسلوب التعبيري الذي يُحدِّد معالِم التكوين الذاتي للأنثى في الأدب يتطلَّب أن نرى المعنى في ما كان فراغاً في السابق. أن نسمع القصّة التي غرقت في المجهول”.
وفي إطار الشعور بالعجز والوحدة والضياع، يخيِّم الضباب على شعور ليلى بطلة قصّة “يا دمشق” للكاتبة “غادة السمّان” ليكون مرادفاً لمشاعر الفقد والوحدة والنفي في المكان “فالضباب ينبع من الأرصفة، ومن النوافذ، ومن العيون والأفواه”..
وفي قصّة “فزاع طيور آخر” يكون المطر هو برد الوحدة المعبِّر عن رماديّة الأيّام، تقول: “السماء تمطر برداً رماديّة وسأماً”، وفي قصّة “المواء” يكون المواء هو المعادل الموضوعي للذات الأنثويّة التي تهوي من الجوع إلى الأمن والانتماء، تقول: “المواء لا يهدأ.. صار وحشيّاً.. بدأ يتعالى من أعماقي حارّاً مشبوباً.. أغلق فمي كي لا أسمعه، لكنّه يعلو ويعلو ويتدفّق من مسامي، من رقبتي، من عينَي شبه المغمضتَين”، فالمواء هنا هو مواء الذات أو عويلها، تقول: “القطّة في أعماقي تموء”.
إنّ جماليّات التجارب الفنيّة هنا، المُوازية سرياليّاً للجنون، تجعل من لغة النصوص لغةً أقرب إلى لغة الحلم، وخصوصاً من خلال تحريكها منطقة اللّاوعي. ففي “أوراق النرجس” لسميّة رمضان، يتفاقم الحسّ الوجودي، ويُصبح توتُّر الذات مقدّمة للاختلاف، بل مقدّمة للانقلاب على المجتمع ككلّ.
لذلك لم يكن غريباً أن توصم المرأة بالجنون، وأن تودع في المصحّات النفسيّة أكثر من مرّة. فالمجتمع حين يحول بينها وبين التجربة إنّما هو يحول بينها وبين ذاتها؛ لذا فهي ترفض أيّ صورة رسمها الآخرون عنها، كما ترفض أن تكون مجرّد صنيعة صَنَعَها الآخرون: “أفرغ من حقيقتي، من روحي وأُحشى بالاحترام، أصير عروساً من القماش محشوَّة بالقشّ”.
وهنا تظهر جماليّات استثمار السيكولوجيّة الأنثويّة، وعفويّة التدفّق. فإذا كان المُجتمع يعمل على إقصاء الذات الأنثويّة بإقصاء حقّها في الكلام، وبنفي تلقائيّتها، فإنّ الجنون يأتي كمُعادلٍ موضوعي تخييلي للذات، وكمقدّمة حقيقيّة لإعلان الانفصال عن الروابط الأوّليّة.
هكذا تعي الذات عزلتها، ويصبح الرضوخ لرغبة الجماعة هو الدواء والداء، الترياق والسمّ، ويُصبح للعدم جاذبيّة مبرَّرة داخل الذات. جاذبيّة يصعب مقاومتها لأنّها تأتي بالاسترخاء المريح، تقول: “موتي يا أنا، موتي، عنيدة أنتِ ومتشبّثة، كافرة، مُتطاوِلة، شيطانة متعاظمة، تظنّين أنّكِ جُبلتِ على الاختيار… موتي يا أنا”.
وهنا تصل نرجسيّة الذات إلى ذروتها (الموت)، وهو ما يبرّره “إيريك فروم” بقوله: “إنّ حدّاً أدنى من النرجسيّة يصون الحياة، وحدّاً أقصى منها يدمِّر الحياة”. وتتقارب صورة الذات مع صورة “شبح المرأة المجنونة” (The Mad Woman) التي تحدّثت عنها أديبات القرن التاسع عشر، من منظور “ساندرا جلبرت” و “سوزان جوبار” (Sandra Gilbert and Suzan Gubar).
وهي المرأة التي ترفض أن تكون ناكرة للذات، وتسلك حسب رغبتها، ولها قصّة تحكيها باختصار، كما تعترض على الدور المفروض عليها سلفاً (Toril Moi: Sexual Textual Politics) ويظلّ انشطار الذات هنا سرّاً يوشي بعجز الشخصيّة – فنيّاً – عن إحداث أيّ تغيير حقيقي في المُجتمع.
د. سوسن ناجي – كاتبة وناقدة من مصر