الأدب النسويالدراسات الأدبيةنقد

مقاربة نقدية في رواية “نقطة الانحدار”

"القراءة" .. فعل مجابهة وتغيير

  • توطئة: 

إن أي حديث عن الرواية كجنس أدبي يحيلنا حتما على ما تحبل به من تناقضات تجمع بين الواقعي والمتخيل في حلة تغري المتلقي بالقراءة والتتبع، وفي ذات الوقت تزج به في متاهة إشكالات متشعبة، إذ كيف تجاوزت النصوص الروائية المعاصرة كل أشكال الكتابة الواقعية، وما بعد الواقعية إلى أشكال حداثية تتأسس على الانشطار الحكائي، وتداخل الأجناس والأنساق.

لعل مرد ذلك إلى كون الرواية جنسا مفتوحا على غيره من الأجناس الأدبية، تسمح لغته بأن يتخللها أنماط تعبيرية مختلفة، يسميها ميخائيل باختين ” ذاكرة النوع الأدبي”، باعتبارها ناقلة لدلالات اجتماعية ونفسية، تمتزج بسياقاتها الإنتاجية. وهو نفسه ما يجعل فعل التلقي يحظى بانسيابية، خاصة وأن للشعرية نصيبا في بناء أفق النص، إذ يلفي القارئ ذاته مشدودا إليه.

وأحيانا غارقا في تأمل التحولات التي تطرأ عليه، حيث يجد نفسه إزاءَ نوع جديد من الكتابة الروائية يُمَثِّل التطورُ هُوِيَّتَه، وهو ما أدى إلى ظهور إشكالية أعمق مرتبطة بتلقي النص الإبداعي في علاقته بالقراءة التي تهدف إلى استجلاء شيفراته. وهو ذاته جوهر نظرية التلقي. هذه الأخيرة ترمي إلى أن النص الأدبي يخضع لتطور تأليفي وتشكيلي في إطار النصية، وذلك لقدرته على التفاعل مع مختلف القراء، وهو ما يسمح بتعدد تأويلاته التي تصبح عبارة عن تراكمات نظرية ومنهجية.

ثم إن نظرية التلقي تهدف بالأساس إلى تجاوز التصور التقليدي للقراءة، والذي ارتبط بمضمون النص في مقابل قراء يتعاقبون عليه وكأنه حقيقة مطلقة. كما أعادت الاعتبار إلى المتلقي كشريك في العملية الإبداعية. ثم إن هذا النص الأدبي في حد ذاته يمتح من تجربة الكاتب، وتمرسه في نسج خيوط أحداثه، هذا الكاتب الذي يكون قد خبر دواليب اللعبة السردية، وامتلك مفاتيحها، وهو ما يجعله قادرا على استبطان أسئلة الذات والمجتمع، والتاريخ مستدعيا التخييل الذي يعانق هموم الذوات وهواجسها.


ولعل (نقطة الانحدار) من الأعمال الروائية التي استثمرت فيها الكاتبة فاتحة مرشيد مختلف أبعاد الكتابة السردية المنفتحة على تعدد الأصوات، وتنوع الفضاءات المكانية والزمانية، كما شحنتها بالمفارقات والتناقضات، حيث يلتحم عنصر التشويق بالمتعة، ويصبح فعل القراءة مشرعا على كل الواجهات، ذلك أن المروي الحكائي يتشعب متجاوزا، بل كاسرا افق انتظار القارئ. 

عهِد القارئ الكاتبة فاتحة مرشيد تلج عالم الطابوهات المحرمة، والمسكوت عنها كاشفة النقاب عن موضوعات ساخنة، تشخصن واقعا رازحا تحت وطأة صراعات حامية بين ما كان، وما هو كائن وما يفترض أن يكون. لذلك يجد القارئ نفسه وهو يتصفح إصدارها الأخير أمام سيل من التساؤلات حول محتوى موضوع روايتها (نقطة الانحدار) وكيف عالجته؟ وهل نجحت في أن تستجلي انكسارات ذوات شخوصها، وأن تبوح بالجراحات المثخنة خلف الظلال؟ وأن تستدرج القارئ إلى معترك حيث يلتحم بالكاتب والنص؟

في هذا الإطار سأحاول من خلال مقاربة رواية (نقطة الانحدار)، عبر استبدال علاقة القراءة بالفهم بعلاقة القراءة بالتأويل. هذه العلاقة التي خضعت بدورها لمقاربات نقدية ومعرفية مرتبطة بتطور النظرية النقدية ذاتها من جهة، ومن جهة ثانية تتيح عملية القراءة سبل تجديد فهم القارئ خاصة عندما يصطدم بجملة من البياضات والفراغات التي تورطه، وتدعوه فَنِّيا إلى مجابهة النص الأدبي حيث تنبثق الفجوة النصية كأفق لفهم الوجود الإنساني. هكذا يصبح التأويل هو الوسيط بين الذات القارئة الناقدة والمتلقية باعتبارها محللة ومفككة، وبين تجليها في النص عبر ذات الكاتب الروائي والعالِم بتفاصيل النص الإبداعي.


  • القراءة كفعل مجابهة: 

إن قارئ رواية (نقطة الانحدار) لابد وأن يكتشف تشخيص الكاتبة لمظاهر المعاناة الإنسانية، لتتشكل عنده فكرة حول دلالة المجابهة التي اكتنفت النسيج الروائي، ذلك ان الكاتبة في الرواية سعت عبر فعل الكتابة إلى تحليل البنى الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية لمجتمعين متضادين ومتناقضين، المغرب من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية، محاولة استنطاق هذه الفروقات، وموضحة التشظي الذي عاشته الشخوص عبر لغة واعية ومتمردة على أوضاع متردية خاصة في بلد يتصدر العالم كقوة سياسية واقتصادية،

تقول على لسان السارد حميد:( لم أكن أتصور أني سأصادف على أرصفة بلد يتحكم في حاضر العالم ومستقبله، أناسا مشردين منهم من هو نائم في ركن على الرصيف، ومنهم من يتسول واضعا أمامه ورقة كتب عليها” أنا جائع” ومنهم من يتسكع حاملا متاع حياته على ظهره، والغريب في الأمر أن لا أحد يبدو منزعجا من صرخة الفقر هاته وسط ناطحات السحاب…/ لا أحد في الولايات المتحدة الأمريكية محصن ضد التشرد/ كان يعيش في سيارته هنا بهذا المرآب/ مورين امرأة أمريكية الأصل في الخمسين من عمرها وجدت نفسها في الشارع/  ). 

إن رواية نقطة الانحدار رامت منذ الفصول الأولى الكشف عن أسباب هذا التشظي مستدعية عبر فعل الكتابة الحلم كوجه من وجوه مجابهة الوجع المركب، ليتحول فعل القراءة بدوره إلى مجابهة ذات الانكسارات والخيبات التي سكنت الذوات.

إن الكتابة الروائية عند فاتحة مرشيد في تجسيدها لفعل المجابهة نلفيها تعكس مجتمعين مهزوزين ومعقدين من حيث العلاقات التي تجمع الشخوص ببعضهم البعض من جهة، وكذا ارتباطهم بالواقع الذي ينتمون إليه من جهة ثانية. لذلك جاءت لغة الرواية مكثفة، تقول: (على متن طائرة العودة إلى المغرب غمرني شعور غامض وكأن شيئا جديدا استقر بداخلي أو كأن نافذة انفتحت في صدري على عالم آخر/ كمن يقيم حصاد أيام كثيفة الدلالات/ بقينا هكذا بكثافة الشوق ما يقارب الأبدية/ احتبس ضجيج العالم في شاشات…

وانتقل العنف إلى داخل البيوت… أوهام كثيرة أسقطتها الجائحة/ من قال إن نيويورك ستنهار تحت الجثث/ الهلع وفقدان الإحساس بالأمان أسقط التضامن الذي كان بين المشردين أنفسهم …)، نلحظ من هذه المقاطع السردية أن التجربة النفسية  التي عاشتها شخصيات الرواية، وما اعتراها من التحول، إذ كثيرا ما التبست بدواخلها المشاعر بين الحب والحنين والألم المستمر الذي أفقدها الإحساس بالزمن والمكان، غير أن هذه المظاهر لم تمنع السارد (حميد) من أن يعيش لحظات تحالَف فيها بتلقائية مع رغبة حليمة في الحرية، وعشقه القديم الجديد لها، لحظات من الحب الذي يأتي بكل السحر المعتق، فكيف لا يستسلم له وهو الذي طالما استسلم ليأس كئيب.

إنه إحساس مزدوج يدفع القارئ إلى مجابهة مزدوجة بين المشاعر المتناقضة للشخصية البطل والتماهي معها، وبين الرؤية الفنية التي حفت بها الرواية، والتي تمارس غواية الانفلات من ربقة التفكيك، فالقارئ خلال عملية القراءة يجد نفسه في مجابهته لبنى النص الروائي محاولا التواصل الفعال مع عناصره ينفلت منه، عبر استدعاء لغة الانزياحات والأساطير، تقول الكاتبة:(كان كفنيق نهض من رماده)، بينما يحاول هو الإمساك به لتفكيك عناصره، وهو ما يستدعي من القارئ أن يتسلح بترسانة من الآليات التي تمكنه من مجاراة البؤر  اللغوية والدلالية للنص الروائي،

تقول:(دخل كوكب الأرض في حالة انتظار بدون مواعيد… علِق الزمن ومعه اليقينيات… ودخل كل فأر بشري إلى جحره، كزمن الحروب لم يبق في الشوارع غير المحاربون البواسل من عاملي الصحة والأمن والنظافة) يفصح هذا المقطع السردي عن تعابير عابرة إلى النص من خارج مجال الأدب، هي تعابير ذات صبغة عسكرية (محاربون بواسل/ الأمن/ زمن الحروب…) يبدو أن اللغة قد توسلت بتعابير غير أدبية للتعبير عن لحظة وجودية، وهو ما يجعل القارئ في مجابهة التأويلات المتعددة والمقصودة منها. 

أما فعل الكتابة فيصبح وسيلة لكشف الألم الذي يسكن الذاتـ يقول السارد حميد:(قضيت عمرا أحلم بلحظة كالتي عشتها بين أحضان حليمة/ نحن بضآلة الغيوم يا صديقي حين تعبث بها الرياح، وبقوتها حين تزمجر رعدا.. بحنانها حين تمطر حبا وبقسوتها حين ترحل مخلفة وراءها الجفاف. غيوم نحن نتوحد أحيانا ونتفرق أحيانا.. وحركاتنا منتظمة كانت أم بهلوانية لا تسقط السماء..

ومع ذلك لا شيء يعوض الصداقة). إن مفهوم المجابهة هنا يحيل على لحظة تفاعلية بين النص والقارئ، فتبدو الكتابة الروائية طريقة للتمرد، تجابه واقعا مأزوما، برؤية مجزأة، ساعية إلى خلق واقع بديل يجسده محتوى النص، بينما القارئ في مجابهة ذات الواقع الذي يعيشه يقوم بتجميع تلك الرؤية في صيغة انتقادية مؤسسة على المجابهة المزدوجة.


  • القراءة كفعل تغيير

لن يسلم القارئ من التغييرات والتحولات النفسية والفكرية التي تكتنفه مع قراءته لرواية (نقطة الانحدار)، ذلك أنه سيلفي نفسه منغمسا في تفاعله مع النص متجردا، من كل واقعه، محتفظا بمعارفه، فاسحا المجال لهذا التفاعل البين نصي في إذكاء العملية التواصلية. إن نقطة الانحدار تعبر عن صوت المهاجرين الحالمين المنكسرين، والمهمشين والمنخدعين بالحلم الأمريكي من خلال موضوعات (الحلم والحب والموت والخيانة والتضحية). 

إن الكاتبة في روايتها هاته طالعتنا على غير عادتها بحبكة مغايرة جعلت من صراع الغالي المهاجر المغربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية محورا، هذا الأخير صنع لنفسه مجدا في منطقة المال والأعمال (السيليكون فالي) غير أن هذا الحلم سيتبدد، وسيتحول إلى سراب يجد معه الغالي نفسه قد تحول من رجل أعمال ناجح إلى هومِلْس مشرد يعيش في سيارته، يقول: ( ثمة إدمان آخر يعذبني … إدمان لا يعرفه إلا من كان تْرَايِدَر ناجحا بِوُول ستريت، إنه إدمان الإثارة التي يخلقها تسرب الأدرينالين في عروقك كلما ربحت…

فما كان علي إلا أن أبدل الوُول ستريت بالكازينو فخسرت… هو انحدار دون هوادة/ أردت أن يكون لي وزن في عالم المال والأعمال/ تصعد السلم درجةً درجةً، وقد تقفز على بعض الدرجات… يحدث أن تتكسر درجة فجأة.. تسقط من أعلى وبقدر ما كانت الدرجة عالية يكون السقوط مدويا)، تعكس المقاطع السردية ما عانته هذه الشخصية نفسيا، ذلك أن في هروبها نحو تحقيق الحلم الأمريكي، تجد نفسها تهوي إلى نقط الانحدار، حاولت جهدها الخروج منها، وإعادة ترميم الجراحات لتقع فريسة فايروس كورونا فيختطفها الموت، تقول الكاتبة على لسان السارد حميد:( أَبَعْدَ أن تَنُوء الحياة بوطأتها عليه، تسلمه إلى الموت، يوم نجح في ارتقاء المنحدر؟ أهي أمريكا التي تشبثت بالغالي؟).

لابد وأن يكتشف القارئ من هذا المقطع السردي وغيره، عبثية الحلم الذي كان ينشده شخوص الرواية، فعامل الفَقْد حول المصائر لتضيع الأهداف. إن موت (الغالي) وما خلفته الجائحة في النفوس، استدعى من الكاتبة طرح إشكالات عميقة، هل ستستفيد البشرية من هذا الدرس؟ وهل سيتغير وعيها؟ وهل ستُغَيِّر من سلوكنا؟ لا أعلم وحده المستقبل كفيل بالإجابة على هذه السؤال.


  • خاتمة

إن الكتابة الروائية في رواية (نقطة الانحدار)، تجعل القارئ يقف عند هدم معالم الواقع الكائن، واقع التناقضات، والتفكك، والاضطهاد، والإقصاء، والتعنيف الذي تحاول الشخصيات تجاوزه، وهو واقع مُنتَقَد، وتدفعه إلى تمييزه عن الواقع الممكن، عبر عملية القراءة الواعية بجدلية الهدم والبناء. ذلك أن الشعور العميق بالدونية يظل مصدرا للمجابهة والتغيير.

عتيقة هاشمي

عتيقة هاشمي، أستاذة الثانوي التأهيلي بالرباط المغرب، حاصلة على شهادة الدكتوراه وحدة التكوين (الإنسان والمجال في العالم المتوسطي) تخصص : (قضايا وظواهر نقدية وأدبية في المغرب الأندلس ) جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الرباط، المغرب. حاصلة أيضا على ماستر في شعبة اللغة العربية، تخصص (التفاعل الثقافي الأندلسي المتوسطي) جامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط المغرب. عضوة الاتحاد الدولي للغة العربية، عضوة شباب الائتلاف من أجل اللغة العربية، عضوة المكتب الوطني لجمعية التنمية المغربية للقراءة (شبكة القراءة بالمغرب)، عضوة مجلس إدارة الاتحاد العربي للثقافة. عضوة مجلس إدارة مجموعة تغريدات نخلة العراقية ُنشرت لها الكثير من المقالات والدراسات النقدية في مجلات وجرائد مغربية وعربية ودولية ورقية وإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى