واجب الذاكرة ( إيمانويل سامي)
يندرج كتاب ” التخييل الذاتي” لإزابيل كر (Isabelle Grell ( 1) (منشورات أرمان كولان، 2014)، عموما، في نطاق الكتابة عن الذات. يرصد حصيلة التخييل الذاتي ويستشرف آفاق جنس أضحى، مع مر الوقت، متداولا ومثار جدال بين النقاد. ” أدى التخييل الذاتي Autofiction- بصدور”الابن/الخيوط1977 “(2) لسيرج دبروفسكي- إلى تفجير الميثاق السيرذاتي ، وإحداث تحول عميق في العالم الأدبي مما أسفر عن موت الكاتب” ص10. نحن-إذا- حسب إزابيل كريل- في سياق ما بعد البنيوية أو السيرة الذاتية الجديدة.
كما يوجد عاملان (علم النفس والسوريالية) كان لهما دور بارز في تكون المفهوم على يد سيرج دبروفسكي. و”إن استبعدنا من اهتمامنا اعتماد البنيوية على الكتابة الشخصية، فإننا نغفل وجود اتصال أو تواطؤ بينهما لمواجهة التخييل الخالص أو هاجس العقدة”ص11.
إن التخييل الذاتي يندرج- وفق كريل- في إطار الكتابة الميتاتخييلية. لم تعد الكتابة متوقفة على الذات كما هو الحال في السيرة الذاتية، وإنما كتابة عن كتابة حول الذات. وهو ما تجلت معالمه في كتاب ” المرآة العائدة” لألان روب غرييه الذي يتضمن جملة من التأملات حول ابتذال الكتابة عن الذات، وما شخصه أيضا رولان بارث في كتابة ” رولان بارث بقلم رولان بارث” ، وما قدمته نتالي ساروت في شكل حوار مع ذاتها (الطفولة 1983) سعيا إلى تكريس سخريتها من الذات و تقويضها.
إن كان التخييل الذاتي ينزع إلى قتل الكاتب، فإن الأمر يتعلق بشخصية الكاتب الخيالية أي بالتشييد الجماعي ” للاسم الارستقراطي المزيف” ص 11أو لأي عمل سيرذاتي.، مما يؤشر على دخول الذات المتحررة أو المتحملة عهدا جديدا. وهكذا” يُدرك التخييل الذاتي بصفته سيرة ذاتية تستمد نسغها من التحليل النفسي” ص10، وتعبيرا عن لا وعي النص السيرذاتي أو عن ” وجهه الخفي”.
- الحصيلة المتناقضة:
أثار بعض النقاد ( فليب لوجون، جاك لوكارم، جيرار جنيت) جدلا حول المفهوم من 1979 إلى 2013 مبينين ما حققه من طفرات. قلب جذريا تصورات كايت همبرغر التي كانت تعتبر كل كتابة بضمير المتكلم بمثابة “وثيقة تاريخية”. اضطر كل من فليب لوجون ولوكارم إلى تقديم تصور مخالف . أثار الأول ” انحراف” الميثاق السيرذاتي عن مقاصده، واعتبر التخييل الذاتي ” تحولا” يجرف معه جنسا متقادما ألا وهو السيرة الذاتية. ويرى الثاني أن هذا الخرق يجسد ظاهرة جديدة تتسم عموما بالخصوبة.
اعتمد نقاد آخرون (جيرار جنيت، فانسون كلونا، ماري دريوسيك) على التعارض الأصلي بين لوجون ولوكارم. يعتبر جنيت التخييل الذاتي سردا مرجعيا مُميِّزا بين مقولتين: “تخييلات ذاتية حقيقية.. مغرقة في التخييل” ، وتخييلات مزيفة…أو بعبارة أخرى سيرة ذاتية محتشمة” ص19. اضطلع طالبه كلونا بتوسيع المفهوم في الأطروحة التي ناقشها عام 1990(التخييل الذاتي: بحثا عن إضفاء التخييل على الذات في الأدب ) حتى أضحى مقرونا بكل ما يضفي التخييل على الذات، كما استنتج أصنافا جديدة، من قبيل التخييل الذاتي الاستيهامي، والتخييل الذاتي المرآتي، والتخييل الذاتي المتطفل، والتخييل الذاتي السيري الذي يستوعب تجربة سيرج دروفسكي. ” إن الكاتب هو- دوما- بطل قصته…. لكنه بضفي التخييل على وجوده بمعطيات واقعية، ويظل أكثر اقترابا من احتمال الوقوع، وينسب للنص حقيقة ذاتية إلى حد ما” ص20.
تبنت ماري داريوسك ( المختصصة في علم النفس) مفهوم جيرار جنيت، ثم عملت على تجاوزه. وتعتبر أول ناقدة أعطت الشرعية له. ركزت -في مقال لها ” ليس التخييل الذاتي جنسا جديا” (مجلة الشعرية، العدد 107، 1996)- على ” تعذر الصدق والموضوعية” في التخييل الذاتي، وأبرزت “قدرته على إثارة التشويش أو تعزيز التخييل الذي يستلهم حيويته من اللاشعور”ص19.
سعى كل من برونو بلانكمان وأرنو شميث وفليب كاصبيراني إلى إعادة تحديد الفضاء السيرذاتي حتى يستوعب التخييل الذاتي بين ثناياه. صنف بلانكمان ، في كتابه ” التخييلات الفريدة: دراسة حول الرواية الفرنسية المعاصرة 2002″، الرواية إلى فئات متعددة ، ومن ضمنها التخييل الذاتي الذي لا يعني إضفاء التخييل على الذات كما يصر فانسون كلونا، وإنما هو طريقة لتحديد ” أنظمة الحقيقة الحميمية مع الحرص على تهيئة فضاء الحرية وصون الذات باللجوء إلى لعبة الأقنعة ذات الوجهين وصور التخييل الملحة” ص23.
أضاف شميث في كتابه ” الأنا الحقيقية/ الأنا التخييلية : ما وراء الالتباس الما بعد حداثي2010″ مقولة سردية جديدة تشمل التخييل الذاتي، وسمها بالسرد الذاتي. وفي هذا الصدد اقترح تصنيف النصوص التي يغلب عليها الطابع المرجعي في خانة السَّرْد الذاتي Autonarration ، ووضع النصوص التي تتأرجح بين الرواية والسيرة الذاتية ضمن صنف “تخييل الواقع Fiction du réel”. وما على القارئ- في آخر المطاف- إلا أن يحدد الجنس الذي ينتسب إليه السرد. نشر كاصبراني عام 2008 مؤلفه الموسوم ب” التخييل الذاتي: مغامرة لغوية” مستعرضا فيه مختلف وجهات النظر عن المفهوم. استعار السَّردَ الذاتيَّ من شميث لتحديد جنس جامع يستوعب- في أقصى طرفيه -مقولتين معينتين: السيرة الذاتية بمعناها الحصري من جهة و الرواية السيرذاتية التي تحمل بين طياتها التخييل الذاتي الذي يرهص بتحول جديد من جهة ثانية. سعى جون لويس جونيل ، في خضم التعريفات ذات المنزع السردي- إلى تبني موقف جديد للمفهوم بدعوى زئبقيته، وهو ما حتم عليه استبدال المقاربة الشعرية والسردية بمقاربة سوسيولوجية خاصة. يرى طوماس كليرك ” يتطاير التخييل الذاتي إلى شظايا فيما يتعلق بقضية الحقيقي والمزيف”، وهو ما حفزه أكثر على الدفاع عن السيرة الذاتية المقننة عوض التخييل الذاتي الماكر” ص 26. دافع كلود بوركولان بإلحاح عن التخييل الذاتي، ودحض ما يزعمه الآخرون عنه بدعوى أنه رد فعل عن أزمة يعاني منها الأدب الفرنسي. ويعتبره بروكولان ” جنسا لقيطا بما توحي به الكلمة من معان إيجابية” لكونه يُشْرع الفضاء الفسيح إلى التجريب.
تهتم إزابيل أساسا ” بالجذامير التي استنبتها التخييل الذاتي في العالم والفنون”، وتحرص على تحديد المفهوم بالنظر إلى استعمالاته في مجالات شتى، وتوظيفه في ثقافات متعددة. واستعمل أرنو جونو تعبيرا مجازيا ” الفجوة السيرذاتية” لبيان أن التخييل الذاتي هو تعبير عن صدْع أنطولوجي، و نقصان في الوجود، و تعذر فهم الذات بالطريقة المثلى” ص27، مما يشي شكله بشروخ يصعب لأْمها.
- المعابد السيرذاتية:
رغم الأصداء الطيبة التي خلفها التخييل الذاتي في الأوساط الصحافية والجامعية على حد سواء، لم يخل من بعض الانتقادات التي همت، أساسا، طابعه النرجيسي والاستعرائي، وفجاجة أسلوبه. كثير من النقاد-أسوة بميشيل بوتي أو ميشيل أنوفراي- يأسفون لضحالة خياله، وعنايته بالجانب المرجعي، وتواضع أدائه اللغوي. في حين دافعت إزابيل غريل عما يحفل به التخييل الذاتي من قضايا جمالية، لا تقل قيمة عن الدور الذي تؤديه الأنا التخييلية.
يندرج اسم كامي لورون في مقدمة “الكتاب الملتزمين بالذات”. فبعد سيرتها الذاتية الأولى التي كتبتها حزنا على فقدان ابنها فليب، أصدرت مؤلفات أخرى ضمن التخييل الذاتي. وسار فليب فوريست في المنحى نفسه متخذا التخييل الذاتي ذريعة لسرد رحيل ابنته بولين ” الطفلة الخالدة” 1997، وكتب، فيما بعد، كتبا ودراسات حول ظاهرة الحزن في الأدب، وحول تصور اليابانيين للتخييل الذاتي.
وعلى عكس هؤلاء الكتاب، ظهرت مدرسة مغايرة، لا تتقيد بمعايير التخييل الذاتي، ولا تعتمد على اسم صريح. وغالبا ما تُسرد الأحداث بضمير الغائب أو باسم مزيف. إن تزييف فليب فيلان للأحداث أفضى به إلى إحداث علاقات ملتبسة، كما أدى به إلى الاختفاء والتموُّه والانمساخ مدخلا تنقيحات على السرد. وفي المضمار نفسه ،اهتم ريجين روبان في مؤلفه الصادر عام 1983 (La Quebecoite ) “بتخييل ذاتي خلاق يوطد الصلة بين سؤال الهوية وصعوبة تمثل الذات لهويتها” ص46.
تدرج إزابيل كريل فئة ثالثة” تعتبر التخييل الذاتي مختبرا للأنا”ص47. وتمثلها كلوي دولوم التي نشرت أول عملها عام 2000 (ظرابين أنتروبوس) ثم أعقبته ب ” صرخة ساعة رملية” 2001. حكت فيه وقائع درامية شاهدتا بأم عينيها لما كانت طفلة لم تتجاوز اثنتي عشرة سنة. أقدم والدها على قتل والدتها ثم انتحر. حفزها هذا الحدث المأساوي على استخدام التخييل الذاتي بغية استعادة ذاتها بطريقة استعارية. استعارت الاسم الشخصي من بطلة رواية ” زبد الأيام” لبوريس فيان والاسم العائلي من أحد مؤلفات أنطونين آرطو( l’Arve et l’aume).
لا يستسيغ كتاب آخرون الانتساب إلى التخييل الذاتي. ترفض آني إيمو حشر مؤلفاتها ضمن هذا الجنس. فهي تستخدم ذاتيتها والسرد الشخصي لإماطة اللثام عن ظواهر جماعية. وتؤثر – في هذا الصدد- أن يُصنف سردها في إطار ما تسميه ب ” السيرة الذاتية –الجماعية”. ترفض كريستين أنجو وضع ما تكتبه في خانة التخييل الذاتي. ينبغي- في نظرها- أن يقرأ كحقيقة خام يعمل النص على إضفاء أبعاد تخييلية عليها دون إيقاف زحف الواقع. ويدرج أرنو جونون أعمالها ضمن ما يصطلح عليه ب” السيرة الذاتية العبر تخييلية” ص51.
- عقيدة التخييل الذاتي:
ما المعتقدات المشتركة في كل التجارب التي قمنا بعرضها ؟ تبرر عيِّنة من الكتاب اختيارها الجمالي باستناده إلى النزوع الأخلاقي ( فوريست، إرنو، لوران) في حين يرى آخرون ، على نحو كريستين أنجو، أن الواقع الخام هو الذي يجعل كتابتهم جديرة بالاهتمام. أكثر من ذلك، تخلط كلوي دولوم بين المشروعيْن الأدبي والجنائزي مُستحضرةً الآثار المدمرة للتخييل الذاتي. ” ما فتئ التخييل الذاتي منذ أن ابتكره سيرج دبروفسكي يفضي إلى الموتى. لما اطلعت زوجته على عمله “الكتاب المحطم” وضعت حدا لحياتها. دفن والد كريستين أنجو شهورا معدودات بعد صدور ” زنى المحارم”. تعرض الموظف في البنك إلى ذبحة صدرية في رواق الروايات بمكتبة . لم يكن لي من هدف إبان كتابة ” منزلي تحت الأنقاض” إلا قتل جدتي . كانت فكرة رائعة وأقل صخبا من سكين كهربائي” ص60.
يتمرد التخييل الذاتي على الكتابة الأبيسية التي تفرض قيودا على الأبناء. وهو بذلك يؤشر على استراتجية موازية، و تشهد على شكل الانشقاق. يقلب التخييل الذاتي التاريخ المدمر طوعا مدليا بحقائق نخجل من الصدع بها. وفي هذا الصدد كتب يوكو أوطا ” مدينة الجثث” عام 1948 لاستعادة تجربة قصف الأمريكيين لهوريشيما. واستحضر ريفيران رورانكوا في مؤلفه “المُباد” 2006 ما عاشتة رواندا من رعب ودمار على إثر الإبادات والمجازر الجماعية. ولمواجهة الخطاب الذكوري تجرأت الكاتبة الغينية كيسو باري على إثارة فظاعة ختان النساء ، لأنه يهدد سلامتهن الجسدية.
وبالمقابل، توجد شريحة من الكتاب تدافع عن المثلية الجنسية التي تحرمها المجتمعات الأبيسية لبواعث أخلاقية وسياسية، ومن ضمنهم هرفي كيفير الذي أقام توازنا بين مرض السيدا واليهودية في فرنسا إبان عقد التسعينات، وعبدا لله الطايع الذي عاش في مجتمع يمقت هذا النوع من الجنس ، الذي مارسه خلسة طوال ثلاثة أعوام كما لو كان في السجن.
بالجملة، ينكب التخييل الذاتي على ما طرأ على الحياة الكونية من صدوع. وهي تتجسد في مواضيع على نحو الهوية المزدوجة ( بالنسبة للمستعمَرين)، وموت أحد الأقارب أو الأصدقاء، والمعاناة من مرض أكان نفسيا أم جسديا، أي كل ما يوحي بأن الفرد أضحى- في نظر الآخر- ملتبسا أو ضائعا.
الآفاق الجديدة:
ترهص حصيلة ” التخييل الذاتي” بآفاق واعدة. ومما يدهش- حقا- أن التخييل الذاتي استطاع أن يكتسح الفضاءات الفنية وغيرها.
أ- التخييل الذاتي والفنون: استأثر التخييل الذاتي باهتمام مختلف أشكال التعبير الفنية ( المسرح والرقص والفوتغرافية والتشكيل والرسوم المتحركة). ناهيك عن التمثيلات الذاتية الفرجوية والأيقونية على نحو ” الرقص الذاتي” ص85، والتجليات السيرية التي يمكن أن تتجسد في التصوير الفوتغرافي والتشكيل والرسوم المتحركة، وأخيرا السينما التي تستثمر التخييل الذاتي في شكل يوميات مُصوَّرة أو التوثيق الذاتي.
ب- التخييل الذاتي في العالم: من التجليات الجديدة للمفهوم قدرته على التوسع الجيوسياسي. أضحى ظاهرة كونية بمتغيرات وأسماء مختلفة. وما ظل – في نظر إزابيل كريل- ثابتا هو وجود ذات ” متحملة”.
عموما، إن كتاب إزابيل كريل- بحمولته الكثيفة والعميقة- يفيد الطلبة والباحثين لتمثل المفهوم من زوايا ومنظورات مختلفة.
ترجمة: محمد الداهي
هوامش:
-Isabelle Grell, L’Autofiction, Paris : Armand Colin, coll. « 128 », 2014.1
يوجد المقال في موقع مجلة أكتا فابولا (Acta Fabula)، وترجمته بعد استئذان صاحبه.
http://www.fabula.org/acta/document9607.php
2 – يوحي اللفظ (fils) بالمجانسة بين معنيين مختلفين: الابن في المفرد و الخيوط في الجمع. وقد تقصد المؤلف أن يكون العنوان ملتبسا، و محيلا إلى قراءتين مختلفتين. فهو يعني علاقة الابن بأمه من جهة، ويفيد الخيوط السردية المتشابكة من جهة ثانية. ولصعوبة إيجاد لفظ في اللغة العربية يحتمل المعنيين معا اضطررنا إلى إيراد اللفظين اللذين ( الابن/ الخيوط) يفيان بهما حرصا على تقريب الصورة أكثر للقارئ العربي