روايات الشتات الإفريقي ما بعد الاستعمارية
- ترجمة: د. أشرف زيدان // مراجعة: أ.د. جمال الجزيري
في العادة، تشير عبارة “روايات الشتات الإفريقي ما بعد الاستعمارية” إلى الأعمال التي كتبها المهاجرون الأفارقة وأنسالهم منذ خمسينيات القرن العشرين. وقد بدأ عصر التحرر من الاستعمار في قارة أفريقيا عام1957 باستقلال دولةغانا، وقد أدى الغليان السياسي في شتّى أنحاء أفريقيا خلال العقدين التاليين بالإضافة إلى حاجة بريطانيا في عمالة رخيصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية – أدى ذلك إلى موجات كبيرة من الهجرة إلى بريطانيا حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين.
واكتسبت الكتابات التي يكتبها ما يُطلَق عليهم “البريطانيون السود” أهميةً ومكانة متصاعدتين منذ الستينيات من القرن العشرين حتى الآن، ولعبتْ دورًا مهمًّا في إعادة النظر في مكوِّنات الهوية البريطانية في سياق مابعد الإمبريالية.
هناك مجموعة من العوامل التي تجعل إصدار تعميمات حول كتابات الشتات الأفريقي أمرًا صعبًا للغاية. فتفاوت أفريقيا الهائل ثقافيًّا ودينيًّا وعرقيًّا يعني أن تجارب الحياة للكتّاب المهاجرين الذين ينتمون لغرب أفريقيا مثل الكاتبة بوتشي إيميتشيتا (Buchi Emecheta) تختلف اختلافًا كبيرًا عن تجارب حياة المهاجرين من شرق أفريقيا مثل عبدالرزاق جورنه (Abdulrazak Gurnah).
ويمكن لتصنيفات الهوية المستخدمة في بريطانيا أن تسبب الكثير من اللَبْس؛ فحتى بداية تسعينيات القرن العشرين، كان من الشائع استعمال مصطلح “البريطانيين السود” بلا تمييز للإشارة إلى المهاجرين من إفريقيا، وجزر الهند الغربية/جزر الكاريبي البريطانية، وجنوب آسيا. وكان الكاتب سلمان رشدي، أشهر كاتب معاصر تنحدر جذوره من جنوب آسيا، يصف نفسه بهذا اللقب في مقالاته التي كان ينشرها في ثمانينيات القرن العشرين.
كما أن السِّيَرَ المعقدة للكثيرين من الكتّاب المغتربين تجعل مثل هذاالتصنيف صعبًا وفي العادة عشوائيًّا. فعلى سبيل المثال،ج. ف. ديزاني (G. V. Desani) ودوريس ليسنج (Doris Lessing) لا يتم تصنيفهما على أنهما ينتميان للشتات الإفريقي، مع أنّا الأول قد ولد في إفريقيا والثانية قضت جزءًا مهمًا من طفولتها هناك.
والعديد من كتاب جزرالهند الغربية البريطانية يعود نسبهم إلي عبيد أفارقة، ومنهم سام سيلفون (Sam Selvon) وجورج لامنج (George Lamming) وديفيد دابيدين (David Dabydeen) وكاريل فيليبس (Caryl Phillips). ومع ذلك، تم النظر إلى أدب جزر الهند الغربية أو الأدب الكاريبي على أنه ظاهرة منفصلة.
وربما يرجع ذلك، في جانب من جوانبه، إلى أنّ هجرة الكاريبيين كانت أكثر كثافة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان وصول سفينة ويندرش الشهيرة (SS Empire Windrush) وعلى متنها (492) راكبًا في عام 1948 من جزر الهند الغربية علامة مناسبة على بداية الأدب المعاصر للمهاجرين من جزر الهند الغربية في بريطانيا العظمى.
وقد ازداد تماسك الكتاب الكاريبيين في خمسينيات القرن العشرين من خلال تدشين هيئة الإذاعة البريطانية لبرنامج إذاعي بعنوان “أصوات كاريبية”، وهو برنامج كان يسلط الضوء على أعمال كتّاب مثل سيلفون، ولامنج، ونايبول.
لا يوجد تاريخ مماثل يعدُّ علامةً فارقة في تاريخ الكتّاب المهاجرين من أفريقيا، مع أنَّ عام (1555) يتم التأريخ به في العادة باعتباره أول عام تم فيه جلب أفارقة إلى بريطانيا. وتوجد أدلة تاريخية توحي بأنَّ الأفارقة كانوا موجودين في بريطانيا قبل ذلك بقرون من الزمان بصفتهم جنودًا في جيش يوليوس قيصر.
ولكن في عام 1555، تم إحضار خمسة أشخاص من أفريقيا إلى بريطانيا كي يتعلموا اللغة الإنجليزية ويعملوا كمترجمين في مجال تجارة الرقيق التي كان تتوسَّعُ بصورة هائلة آنذاك. وتكمن أهمية التأكيد على هذا التاريخ في أنَّه يربط وجود الأفارقة في بريطانيا بظهور الرأسمالية والإمبريالية. فقبل القرن العشرين، كانت قضية العبودية تسيطر على الأدب الذي كان يكتبه الأفارقة في بريطانيا.
وبالرغم من أن العبودية في بريطانيا العظمى تم إلغاؤها في عام1807، فإنَّ وجود أصوات تطالب بإلغائها في الولايات المتحدة الأمريكية أبقى القضية في صدارة اهتمامات بريطانيا حتى ستينيات القرن التاسع عشر ومابعدها. كتب كل من “أبوي” الأدب الأفريقي في بريطانيا، وهما إيجناتيوس سانتشو (Ignatius Sancho) وأولوده إيكويانو (Olaudah Equiano)، سيرةً ذاتية له: فكتب سانتشو “خطابات من المرحوم سانتشو الإفريقي” (عام 1782؛ والطبعة المشار إليها هنا نشرت في عام 1998).
وكتب إكويانو “قصة ممتعة لحياة أولوده إيكويانو، أو جوستافوس فاسا، كتبها بنفسه” (1789؛ والطبعة المشار إليها هنا نشرت في عام 2001). ويعتبر سانتشو وايكويانو قطبين متضادين؛ فسانتشو يؤمن بالانصهار في ثقافة الآخر، في حين أن إكويانو من المدافعين بشراسة عن الثقافة الإفريقية. وترى الناقدة ك. ل. إينِس (C. L. Innes) أنَّ القول بهذا التناقض بينهما مبالغ فيه، ولكنه يقدِّم لنا إطارًا أساسيًّا لفهم أدب الشتات الإفريقي فيما قبل القرن العشرين.
إنَّ نشر رواية “عندما تتداعى الأشياء” للكاتب تشينوا أتشيبي في عام 1958 نُظر إليه على أنه لحظة فاقة في تطور أدب ما بعد الاستعمار بوجه عام والأدب الإفريقي بوجه خاص. ومع أنّ أتشيبي قضى فترة قصيرة في بريطانيا العظمي، فإنَّ الموضوعات التي اهتمتْ بها روايته الأولى شكَّلَتْ كتابات الكتّاب الأفارقة المغتربين اللاحقين.
وربما كان أهم تطوُّر أضافته هذه الرواية هو تركيزها على الأسئلة التي يطرحها مفهوم الأمة في المستعمرات السابقة التي كانت تنتمي للإمبراطورية البريطانية: هل ستحاول هذه الأمم أن تستعيد مجتمعاتها التي كانت قائمة قبل فترة الاستعمار؟ أم أنّها ستحذو حذوَ الديمقراطيات الغربية؟ أم أنها ستخلق نوعًا من نظام الحكم الهجين؟ يتجلّى نقدُ المسيحية اللافت للنظر في مجمل أعمال تشينوا أتشيبي، وكذلك في أعمال الكثيرين من الكتّاب الذي حذوا حذوه.
فبينما كان إيكويانو والكتّاب الأفارقة الآخرون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يستحضرون بلاغةَ المسيحية ومرجعيتها لدعمهم في قضية إلغاء الرق، يميل الكتّاب ما بعد الاستعمارين في القرن العشرين إلى تسليط الضوء على إسهامات المسيحية في الترويج للإمبريالية البريطانية، وإسهاماتها في الحط ليس فقط من شأن المعتقدات الدينية لدى الشعوب المُسْتَعْمَرَة، بل والحط أيضًا من تقاليدهم وممارساتهم الثقافية.
ونظر تشينوا أتشيبي إلى الرواية كشكل فني على أنها مهمّة ليس فقط في رسم صورة اللغة الإنجليزية وهويتها، بل ومهمة كذلك في (تقويض) الصور التي ترسمها الإمبريالية عن أفريقيا. ساعدت رواياتُ روديارد كيبلنج وجويس كاري (Joyce Cary) وجوزيف كونراد على ترويج صورة بين الطبقات الوسطى الإنجليزية تصوِّر أفريقيا على أنها أرض بلا تاريخ، يسكنها همج عنيفون وشهوانيون يمارسون الجنس بلا تمييز.
ويتّضح مشروعُ أتشيبي المتمثل في إعادة كتابة التاريخ الاستعماري من وجهة نظر المستعَمر من أول كلمة في روايته “عندما تتداعى الأشياء”، ألا وهي “أوكونكوو “. ففي رواية كونراد “قلب الظلام” (1902)، لايسمِّي المؤلف أي شخصية من الشخصيات المذكورة في الرواية، مما يدل على أنه لا يجرِّد سكان أفريقيا من تاريخهم الثقافي فحسب، وإنما يجردهم أيضا من تاريخهم الشخصي.
مال الكتَّابُ الذين ساروا على نهج أتشيبي- ومنهم أبناء جلدته الكاتبة بوتشي إميتشيتا والكاتب بن أوكري، ومن زنجبار/تنزانيا الكاتب عبد الرزاق جورنه – إلى الاختلاف عن جيل سفينة وندروش من الكتاب الكاريبيين من أمثال سيلفون، ولامنج، وفيك ريد (Vic Reid)، ويتجلى ذلك في اهتمامهم بتصوير العنف والحروب الأهلية في فترة ما بعد الاستعمار (ويُسْتَثْنَى من هؤلاء الكتّاب الكاريبيين الكاتب ف. س. نايبول؛ لأنه يصوِّر الحروبَ الأهلية في أعماله مثل “منحنى في النهر” (1979) و”نصف حياةٍ” (2001)، على الرغم من أن هذه الصراعات يتم تصويرها على أنها تحدث في أفريقيا). وصوَّر كلٌّ من أتشيبي وإيميتشيتا وأوكري أهوال حرب بيافرا (1967-1970)، وهي الحرب الأهلية النيجيرية التي هزت القارة بأكملها.
ولأن نيجيريا أكبر دولة إفريقية في تعداد السكان في أفريقيا وتمتلك احتياطيًّا كبيرًا من النفط، تم النظر إليها لفترة طويلة على أنها القدوة الكبرى للقارة ككل. وركزت أعمال مثل “قرى النمل في سافانا (1988) لأتشيبي ورواية “السفر إلى بيافرا” (1982) لإيمتشيتا ورواية بِن أوكري “طريق الجوع” (1991)، التي حصدت جائزة البوكر، على الحرب الأهلية بوصفها لحظة انقشاع الوهم لأن النزاعات العرقية حلَّتْ محل الكفاح في سبيل التحرر من الاستعمار.
وتُظْهِرُ رواية أتشيبي ورواية أوكري القلق الشديد النابع من أن الحرب الأهلية أظهرت فشل الأفارقة في تجاوز عصر الاستعمار، وفى تطوير هويات قومية من شأنها أن تتجاوز الانتماءات العرقية والقبلية الضيقة. فبدلاً من تعلن الدول، التي تحررت من الاستعمار، القطيعة الجذرية مع الماضي الاستعماري، يبدو أنها بات محكومًا عليها أنْ تعيش مرة أخرى في تلك النزاعات العرقية والقبلية التي زرعها الاستعمار البريطاني لكي يمنع ظهور مقاومة متَّحِدَة.
وتتساءل إحدى بطلات رواية أتشيبي “قري النمل في سافانا” قائلةً في نهاية الرواية: “ما الذي يجب أن يفعله الشعب كي يُرضي تاريخًا مفعَمًا بالضغائن؟” وهي بذلك تعبِّرُ عن حزنها على ما أصاب بلدها من دورة أعمال عنف لا تنتهي (ص: 204).
تصوِّرُ أعمالُ عبد الرزاق جورنه أيضًا عنفَ ما بعد الاستعمار في بلده الأصلي تنزانيا حيث أطاحت الغالبية السوداء بالنخبة العربية التي كانت موجودة في البلد منذ قرون. ويختلف جورنه عن أتشيبي في أنَّه أقل تركيزًا على الصراعات نفسها، إذ كان تركيزه على حالة المنفى التي تولِّدُها مثل تلك الصراعات؛ ويمكننا أن ننظر إلى هذا الاختلاف على أنه يميز كتّابَ الشتات الأفريقي.
يستكشف جورنه، منذ روايته الأولى “ذكرى الرحيل” (1987) فصاعدًا، تجاربَ الأفارقة الذين لا يشعرون أنّهم في وطنهم، لا في أفريقيا ولا في بريطانيا العظمي. ففي عالَم يبدو واضحًا أنّ العنف يستهلكه، يجد أبطالُ روايات جورنه أنفسَهم في حالة ترحال دائم: يستوي في ذلك حسن عمر الذي يعمل على سطح سفينة شحن في نهاية رواية “ذكري الرحيل” ويوسف الذي يهرب ليلتحق بالقوات الألمانية في رواية “الفردوس” (1994).
ويبدو أنّ جورنه يرفض أن يصوِّرَ لحظة مصالحة نهائية بين أبطال رواياته وعائلاتهم، أو بين الجماعات العرقية والدينية المتناحرة، أو بين الماضي الاستعماري والحاضر ما بعد الاستعماري. فلا يعرف القراء المصير النهائي لعمر أو يوسف. وفي روايات لاحقة له، مثل روايته “الإعجاب بالصمت” (1996)، يجد الراوي الذي لا نعرف اسمَه نفسَه دون مستقبل واضح بعد أن تركته شريكته الإنجليزية إيما وابنتهما المراهقة إيميليا.
والرسالة التي يتلقاها من عائلته في زنجبار تنتهي بالكلمات التالية: “عُدْ إلى الوطن”، وهي عبارة لا يمكن للراوي أن يقرأها إلا على أنها نوع من المفارقة القاسية : فطوال عشرين عامًا، لم يكلِّم الراوي عائلته عن إيما، والأوصاف التي كان يصف بها عائلته أمام إيما كانت مجرد اختلاق من جانبه.
أضافتْ بوتشي إيمتشيتا بُعدًا جديدًا لأساليب تصوير الكتّاب الذكور للحياة في بريطانيا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين: ألا وهو تجارب النساء الأفريقيات وصراعاتهن مع العنصرية ضد النساء في كل من بريطانيا وإفريقيا.
تصور المؤلفة في ثلاثيتها الروائية، المكوَّنة من “في الحفرة” (1972)، و”مواطِنَة من الدرجة الثانية” (1974)، و”ثمن العروس” (1976)، صراعات البطلة أده (Adah) في سبيل أن تتلقى تعليمها وأن تعول أطفالها. فالتعصب ضد المرأة في ثقافة الإبو (Ibo) واضح للعيان منذ الفقرات الأولي لرواية “مواطِنَة من الدرجة الثانية”: أصيب أبواها بخيبة أمل كبيرة عندما عرفا أن طفلهما الأول ليس ولدًا لدرجة أنهما لم يهتما حتى بتسجيل تاريخ ميلادها.
وتحاول أمها أن تمنعها من التعليم. وتجبرها أسرتُها على الزواج في سن المراهقة. ويستغلها زوجها فرانسيس لأنها عندها دخل خاص بها. وعندما تهاجر إلى بريطانيا أملاً في إيجاد حياةٍ أفضل إلا أنها تواجه قسوة متزايدة من زوجها وتواجه كذلك تمييزًا ضدَّها في وطنها الجديد لكونها امرأة من ناحية وذات بشرة سوداء من ناحية أخرى.
وتؤكد إيمتشيتا أوجه الاتصال بين التفرقة العنصرية (racism) والتفرقة بين الجنسين (sexism): فبعد أن تكتشف أده أنها في عيون الإنجليز “مواطنة من الدرجة الثانية”، ويتكشف لها ببطء أنَّ زوجها يرى أن “المرأة إنسانة من الدرجة الثانية”. فيُخْرِجُ زوجها إحباطَه الناتج عن المعاملة الوضيعة التي يتلقاها في بريطانيا العظمى على زوجته، فتتزايد إهانته وإساءته لها.
ونظرًا لأنه يغار من وظيفتها ومن استقلالها المتزايد، ومن تطلُّعاتِها الأدبية، يقوم بحرق الرواية التي كانت في مرحلة كتابتها (وعنوانها “ثمن العروس”)، كما يحرق جواز سفرها، ووثيقة زواجهما، وشهادات ميلاد الأطفال. وفى نهاية الرواية، نجد البطلة مضطرة إلى رعاية أطفالها الخمسة، ونجدها عاجزة عن أن تجعل النظام القضائي الإنجليزي يحميها من زوجها أو يجبره على أن يعول أسرته. ومع ذلك، تأمل في أن تتمكّن من بناء مستقبل أفضل لها ولأطفالها.
توظِّف إيمتشيتا – مثلها في ذلك مثل معظم كتَّاب جيلِها المغتربين الآخرين الأفارقة والكاريبيين من أصل أفريقي – تقاليد الواقعية الأدبية الغربية في كتاباتها. وهذا أمر له دلالة، لأنه بحلول الستينيات من القرن العشرين انخرط الكثيرون من الكتَّاب الإنجليز البيض مثل جون فاولز (John Fowles) وأنجيلا كارتر (Angela Carter) في التجريب على مستوى الأسلوب واللغة والصوت السردي مما تمخَّض في النهاية عما يُطلق عليه ما بعد الحداثة.
وهناك عدة أسباب وراء تفضيل الكثيرين للواقعية من الكتَّاب المغتربين في بريطانيا العظمى المهاجرين من البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار البريطاني من قبل. أولا، تتوافق التقاليد الواقعية بشكل جيد مع توقعات جمهور القراء الذين كانوا ينظرون إلى روايات وقصص كتَّاب ما بعد الاستعمار على أنها نوع من الشهادة الاجتماعية.
فكما توقع القراء أن يقدِّمَ إكويانو شهادته عن آثار للعبودية التي تجرِّدُ المرء من إنسانيته، فقد توقعوا من جورنه وإيمتشيتا والكتَّاب الآخرين فيما بعد الحرب العالمية الثانية أن يدلوا بشهادتهم عن آثار الاستعمار غير الإنسانية.
والتجريب المتلاعِب في العادة على مستوى اللغة وتقاليد الكتابة الذي كان من سمات أدب ما بعد الحداثة – كان يتم النظر إلى هذا التجريب على أنه لا يتوافق مع المسؤولية الملقاة على عاتق كتّاب ما بعد الاستعمار والمتمثلة في تصوير فظائع العنف الاستعماري والعنف ما بعد الاستعماري. ثانيا، استطاع كتاب ما بعد الاستعمار من خلال تقاليد الواقعية أن يُشْرِبوا الرواية البريطانية بلغةٍ وعباراتٍ مستمدة من بلدانهم الأمِّ.
وحظي سام سيلفون باحتفاء كبير لأنه “هجَّنَ” (creolizing) الرواية البريطانية من خلال النهل من اللغة اليومية التي يتكلم بها المهاجرون من جزر الهند الغربية. ويمكننا أن نجد جهودًا مماثلة قام بها كتّاب الشتات الأفريقي. منذ القرن التاسع عشر، أصر الكتّاب الذين أعلنوا أنفسهم بوصفهم كتّابا واقعيين من أمثال الكاتب الفرنسي ستندال (Stendhal) على أن الرواية يجب أن تقدم لغة وتجارب الحياة اليومية.
وقال ستندال: “الرواية مرآة تتمشى متنزهةً عبر طريق كبير” (ص: 342)، وليست تصويرًا رومانسيًّا للطبقة الأرستقراطية الرومانسية مليئًا بصور بلاغية معقدة وبالتصنُّع الفنّي. وقد التقط كتّاب من أمثال إيمتشيتا وجورنه هذه الروح بعد قرن من الزمان، وصوَّروا الظروف البائسة التي عاشها العديد من المهاجرين.
تبيِّن أكثرُ رواية حظيتْ بالاحتفاء من بين روايات بن أوكري (Ben Okri)، ألا وهي رواية “طريق الجوع”، أنّ الكتاب المغتربين أصبحوا أكثر تجديدًا على مستوى الشكل بصورة مطّردة. واحتفى النقاد برواية “طريق الجوع” بوصفها رواية تنتمي للواقعية السحرية أو ما بعد الحداثة، مع أنَّ أوكري ذاته قلل من أهمية مثل هذه التصنيفات.
وقال أوكري إنَّ كتاباته تمثل شكلاً من أشكال الواقعية التي تستلهم المعتقدات الثقافية والروحانية التي تبدو غريبة بالنسبة للكثيرين من القراء الإنجليز: “ولذلك فإن ما يبدو أنه كتابات سريالية أو فانتازية ليستْ في الواقع كتابات فانتازية؛ إنها ببساطة كتابات عن المكان في روح المكان.
أنا لا أسعى بأي شكل من الأشكال أن أقدِّمَ مؤثِّراتٍ غريبةً” (الاقتباس موجود في كتاب آرانا ورامي Arana & Ramey، ص: 147). وهذا الهدف المعلن لا يتعارض مع ما بعد الحداثة؛ فما بعد الحداثة، مثل الحداثة من قبلها، تنهلُ بغزارةٍ من ثقافات تلك المناطق التي كانت مستعَمرة. وتتبَّعُ روايةُ أكري مغامرات آذارو، وهو طفل أبيكو (abiku)، والأبيكو في لغة اليوربا ، أو الطفل الأوجبانجي (ogbanje) في لغة الإجبو ، يعني روح الطفل الذي يموت بعد مولده بفترة قصيرة، ويعود باستمرار إلى رحم أمه في دورة من الولادة والموت .
وقد صوَّرت أعمالُ الكتَّاب النيجيريين الطفل الآبيكيو/ الأوجبانجي، ومنهم آتشيبي وأوكري ووُلِيه شوينكا (Wole Soyinka). وبالنسبة لبِن أوكري، يقوم الأبيكو بدور الصورة المجازية التي تمثل نيجيريا ذاتها؛ فهي دولة ما بعد استعمارية “تموت” بسبب حرب بيافرا بعد “ولادتها” بفترة قصيرة، وهي الفترة المتمثلة في تحررها من الاستعمار في عام 1960. ويستكشف أوكري محاولة الإجابة على السؤال نفسه الذي استحوذَ على آتشيبي في رواية “قرى النمل في سافانا”، ألا وهو: يا تُرى، ما الذي يلزم لإنهاء دورة عنفٍ يبدو عليها أنها بلا نهاية؟
هناك دليل مهم على أنّ مصطلح “ما بعد الاستعماري” ربما بدأ في أن يعيش بعد وظيفته النفعية باعتباره مصطلحًا يصف كتابات الأفارقة المغتربين وأنسالهم. فمصطلح “ما بعد الاستعماري” يؤكد على الطرق التي ما زال الكتّاب من خلالها يتم تعريفهم على أساس العلاقة الدينامية بين المركز الاستعماري وهامشه.
ودون أن ينكر الكثيرون من الكتّاب الأصغر سنًّا (وخاصة الذين ولدوا في بريطانيا) أنّ أشكال االإمبريالية ما زالت موجودة، نجدهم أكثر اهتماما بتجاوز ثنائيات الأبيض/الأسود، والمستعمِر/المستعَمر، والمتحضِّر/الهمجي، التي كانت جزءًا لا يتجزأ من الدفاع عن الاستعمار البريطاني ونقده في أدب ما بعد الاستعمار.
فعلى سبيل المثال، تستخدم فيكتوريا آرانا (Victoria Arana) ولوري رامي (Lauri Ramey) (2004) مصطلح “فنانو الألفية الجديدة الطليعيون” لوصف كتّاب مثل أندريا ليفي (Andrea Levi) وبرناردين إيفاريستو (Bernardine Evaristo) وديران أديبايو (Diran Adebayo). ويصور عملا أديبايو “نوع من الأسود” (1996) و”حكايتي القديمة” (2000) مدينة لندن على أنها مدينة متعددة الثقافات تبدو مختلفةً اختلافًا جذريًّا عن صورة لندن التي نجدها في رواية “لندنيون يشعرون بالوحدة” (1956) التي كتبها سام سيلفون قبل ذلك بخمسين عامًا.
ومنذ تسعينيات القرن العشرين، أبدي جمهور القراء البريطانيين ككل إقبالاً متزايدًا على هذه الروايات والقصص المتعددة الثقافات. ولا شك في أن هذا الإقبال لا يختلف كليَّةً عن خيالات المستشرقين التي جعلت البريطانيين يلتهمون كتابات كيبلنج وكونراد. ومع ذلك، يبدو وبشكل متزايد أنَّ الإنجليز قَبلوا، إن لم يكونوا تبنُّوا، فكرة أنّ مفهوم اللغة الإنجليزية يُعاد خلقه بحيث يشمل الاتجاهات الثقافية لمن يستعملونها من الأفارقة والكاريبيين من أصل أفريقي والأسيويين الجنوبيين ومعاييرهم.
References and Suggested Readings
– Achebe, C. (1958). Things Fall Apart. London: Heinemann.
– Achebe, C. (1988). Anthills of the Savannah [1987]. New York: Anchor.
– Acheson, J., & Ross, S. C. E. (eds.) (2005). The Contemporary British Novel. Edinburgh: Edinburgh University Press.
– Adebayo, D. (1996). Some Kind of Black. London: Virago.
Adebayo, D. (2000). My Once upon a Time. London: Abacus.
– Arana, R. V., & Ramey, L. (eds.) (2004). Black British Writing. Basingstoke: Palgrave Macmillan.
– Ashcroft, B., Griffiths, G.,&Tiffin, H. (eds.) (1989). The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures. London: Routledge.
– Baucom, I. (1999). Out of Place: Englishness, Empire, and the Locations of Identity. Princeton: Princeton University Press.
– Bhabha, H. K. (1994). The Location of Culture. London: Routledge.
– Emecheta, B. (1972). In the Ditch. London: Barrie and Jenkins. (Rev. edn. published 1979.)
– Emecheta, B. (1974). Second-Class Citizen. London: Allison and Busby.
– Emecheta, B. (1976). The Bride Price. New York: Braziller.
– Emecheta, B. (1982). Destination Biafra. London: Allison and Busby.
– Equiano, O. (2001). The Interesting Narrative of the Life of Olaudah Equiano, or GustavusVassa, Written by Himself [1789] (ed. W. Sollors). New York: Norton.
– Fishburn, K. (1995). Reading BuchiEmecheta: Cross-Cultural Conversations. Westport, CT: Greenwood.
– Gikandi, S. (1996). Maps of Englishness: Writing Identity in the – Culture of Colonialism. New York: Columbia University Press.
– Gilroy, P. (1987). “There Ain’t No Black in the Union Jack”: The – Cultural Politics of Race and Nation. London: Hutchinson.
– Gurnah, A. (1987). Memory of Departure. London: Jonathan Cape.
– Gurnah, A. (1994). Paradise. London: Hamish Hamilton.
– Gurnah, A. (1996). Admiring Silence. London: Hamish Hamilton.
– Head, D. (2002). The Cambridge Introduction to Modern British Fiction, 1950–2000. Cambridge: Cambridge University Press.
– Innes, C. L. (2002). A History of Black and Asian Writing in Britain, 1700–2000. Cambridge: Cambridge University Press.
– Innes, C. L. (2007). The Cambridge Introduction to Postcolonial Literatures in English. Cambridge: Cambridge University Press.
– Lee, A. R. (ed.) (1995). Other Britain, Other British: Contemporary Multicultural Fiction. London: Pluto.
– Naipaul, V. S. (1979). A Bend in the River. London: Deutsch.
– Naipaul, V. S. (2001). Half a Life. London: Picador.
– Okri, B. (1991). The Famished Road. London: Jonathan Cape.
– Rushdie, S. (1991). Imaginary Homelands: Essays and Criticism 1981–1991. London: Granta.
– Sancho, I. (1998). Letters of the Late Ignatius Sancho, an African [1782] (ed. V. Carretta). New York: Penguin.
– Selvon, S. (1956). The Lonely Londoners. London: Allan Wingate.
– Stendhal. (2003). The Red and the Black: A Chronicle of 1830 [1830] (trans. B. Raffel). New York: Modern Library.