نقد

جغرافية الأدب العربي (1/2)

يمكن لقارئ عربي، من المغرب مثلا، أن يقرأ لكاتب من عُمان، ولآخر من سوريا أن يقرأ لكاتب من موريتانيا. لكن قارئا من فرنسا لا يعرف غير اللغة الفرنسية لا يمكنه أن يطلع على ما يكتب بالعربية أو الإيطالية. وهذا القارئ الفرنسي الذي يعيش في الألفية الثالثة لا يمكنه الاطلاع على كتابات في القرن الثامن عشر، أو بدايات القرن التاسع عشر، كما كانت تكتب بلغته الفرنسية، إلا بصعوبة كبيرة. لكن من يتقن اللغة العربية في هذا القرن يمكنه أن يقرأ ما وصلنا من كتابات بها، وهي تمتد إلى ما قبل ظهور الإسلام، أي يمكنه أن يتعامل مع نصوص تتعدى ستة عشر قرنا من الزمان. وهذه ميزة ينبغي أن لا نفتخر بها فقط، ولكن أن ننطلق منها بهدف تطوير البحث في اللغة العربية ودراسة ما قدم بواسطتها.

لكن هذا الفارق الكبير بين الآداب العالمية، والأدب العربي لا يوازيه حضور على مستوى الاستكشاف والبحث المتواصل والمتطور بتطور الدراسات الأدبية والإنسانية والاجتماعية. يتواصل البحث في الآداب الغربية القديمة والحديثة باطراد، وفي كل سنة تظهر دراسات تعاود النظر في تاريخ آدابها، وجغرافيتها من منظورات علمية متعددة. لكننا في عالمنا العربي نجد توقفا على ما أنجز في فترات سابقة، وكأننا قدمنا كل ما ينبغي تقديمه بصددها، وقلنا الكلمة الفصل فيها، ولا مزيد لمستزيد. وليس في هذا إلا تأكيد واقع جامعاتنا وكلياتنا في علاقتها بمنجزنا الثقافي والحضاري.

لا يمكننا وصف هذا الواقع إلا بالركود الذي يعني نوعا من الجمود والفقر المعرفي والعلمي. لا يتوقف هذا الواقع على الدراسة الأدبية فقط، ولكنه يتسع ليشمل اختصاصات أخرى، في ثقافتنا العربية، تتصل بالتاريخ والجغرافيا والدراسات الإنسانية والاجتماعية بعامة. وعكس هذا ما نجده في الاهتمام بالآداب العالمية؛ فحيثما ظهرت تصورات جديدة تمس جوانب من التاريخ أو الحفريات أو الأنثروبولوجيا أو المعلوميات وسواها من الاختصاصات نجد لها صدى في الدراسات الأدبية، وبذلك يحدث التطوير والتجديد، ويمكننا تأكيد أن الركود والجمود الذي يعتري علاقتنا بآدابنا القديمة لا يمكنه إلا أن يصيب دراساتنا لأدبنا الحديث والمعاصر. لا أحد يماري في أن البحث في آدابنا العربية القديمة والحديثة متواصل في كلياتنا التي تقدم في المغرب، مثلا، دراسات عن المعري وعن محمود درويش، وفي الأردن أبحاثا عن ابن عربي ومحمد شكري، لكن المقصود هو تطوير الدراسات بما يتلاءم مع الميزة التي سجلناها عن الآداب العربية وما فيها من غنى وما تزخر به من ثراء.

لقد فرض توزع الإبداع العربي على جغرافيا واسعة اتسعت باتساع رقعة الإسلام أن ظهرت هذه «الجغرافية الأدبية» منذ القديم في تاريخ أدبنا العربي.

قبل أن يتكرس الاعتزاز بـ«الآداب الوطنية» في محيطنا العربي كانت دراسات الآداب العربية في مختلف العصور والبيئات قائمة في مختلف جامعاتنا، بل إن الضيم كان يعتري الإحساس بالهوية الوطنية حين يُرى التركيز منصبا على ما هو خارج الحدود الوطنية مع إهمال تام، أو شبه إهمال، لما يجري داخلها، سواء في التاريخ أو العصر الحديث. وأتذكر جيدا كيف طرحنا مرارا، في المغرب، مسألة إدراج مؤلفات مغربية ضمن مقررات «دراسة المؤلفات» في الثانوي، وعدم الاقتصار على النصوص غير المغربية. لقد صار الاهتمام بالآداب الوطنية يحتل حيزا كبيرا من الحضور، سواء على مستوى الدراسات أو تشكيل المختبرات، وليس في هذا أي عيب، بل إن الاعتناء بالأدب الذي يتصل بالقطر الذي ينتمي إليه أولى به أبناء القطر نفسه لما يمكن أن تتاح لهم من إمكانات تعوز من يعيش خارج القطر.

يدفعنا هذا السياق إلى استحضار ما يمكن أن نسميه «جغرافية الأدب العربي». لقد صرنا نتحدث عن الأدب العربي متصلا بفضاء جغرافي محدد، لكن هذه الجغرافية الخاصة متصلة اتصالا وثيقا بجغرافية أعم هي جغرافية العالم العربي، وبدون وضع أي جغرافيا خاصة في نطاقها لا يمكننا أن نسهم في تطوير دراساتنا الأدبية العربية الخاصة والعامة، وبذلك يتعذر علينا فهم واقع الأدب العربي ضمن الأدب العالمي، باعتباره يتصل بجغرافيا أعم وأشمل.

لقد تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة في الدراسات العالمية اختصاصات تتصل بما يعرف بـ«الجغرافية الثقافية» التي هي فرع من الجغرافيا البشرية. ويمكن للجغرافية الأدبية أن تكون فرعا منها لأنها تمكننا من وضع الأدب في سياق البيئات التي يتشكل فيها، ويتطور في علاقته بما يوازيه من جغرافيات محلية أو قارية أو إنسانية. لقد فرض توزع الإبداع العربي على جغرافيا واسعة اتسعت باتساع رقعة الإسلام أن ظهرت هذه «الجغرافية الأدبية» منذ القديم في تاريخ أدبنا العربي. فرأينا تصنيفات تهتم بالآداب الخاصة حسب الأقاليم الجغرافية: كتاب «يتيمة الدهر» و«خريدة القصر»، و«المطرب في أشعار المغرب»، وما يؤكد ما نذهب إليه أن كتاب «الخريدة» اعتنى كل من المصريين والشاميين والعراقيين والإيرانيين بإخراج وتحقيق القسم المخصص بشعراء البلدان التي ينتمون إليها، أي أنهم وزعوا بينهم تركة كانت مشتركة لتغدو خالصة لهم دون غيرهم. وعمل مؤرخو الأدب الحديث العمل نفسه. تجديد النظر في «جغرافية الأدب العربي» مدخل لتطوير دراساتنا الأدبية.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى