ضعف معرفة “إدوارد سعيد” بالفكر الإسلامي انعكس سلبا على مفهومِه الاستشراقي
في كتابه “وائل حلّاق وإدوارد سعيد: جدل ثالث” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) يحاول الباحث مهنا الحبيل (1963) طرح رؤيته الجدلية الخاصة في سياق علاقة الغرب بالشرق على أرضية فكرية فلسفية، تستند خصوصاً إلى التراث المعرفي الإسلامي، وفق معايير من خارج المؤسسة الأكاديمية التي تهيمن عليها أفكار الحداثة الغربية، بحسب اعتقاد المؤلف.
وهو في ذلك ينطلق أساساً من كتاب وائل حلّاق (1955) “قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي”، الصادر في طبعته الأصلية في العام 2018، وقد ترجمه إلى العربية عمرو عثمان لحساب “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” في 2019، علماً أنه مكرّس لنقد كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد (1935 – 2003)، الصادر في طبعته الإنجليزية عام 1978.
وتنبغي بداية ملاحظة أن كلاً من سعيد وحلّاق، من أصول فلسطينية، وانتسب كل منهما إلى العمل الأكاديمي (جامعة كولومبيا)، الأول أستاذاً للنقد الأدبي والأدب المقارن، والثاني أستاذاً للقانون وتاريخ الفكر الإسلامي.
وفي هذا السياق يرى الحبيل أن المحرك الفلسطيني لبعث أسئلة الحياد الاستشراقي والمعرفي، كان مشتركاً لدى سعيد وحلّاق، “غير أنه من الإنصاف الواجب إعادة التأكيد على هزال الإرث المعرفي عن الإسلام لدى الأول، مقابل الروح الحوارية والتحليلية التي تمتّع بها حلّاق، فضلاً عن المخزون النقدي المقارن” ص 106.
- بين الهامش والمتن
عموماً، يجد القارئ أن الحبيل، المتكئ على أرضية فكرية إسلامية، انشغل في معظم صفحات الكتاب بعرض محتوى كتاب حلّاق “قصور الاستشراق”، مؤيداً ما ذهب إليه إلى حد كبير، وبالذات في ما يتعلق بنقد ما طرحه إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، ليظل سؤال: إلى أي مدى نجح في طرح ما أسماه بالجدل الثالث؟
يقول الحبيل في مقدمة كتابه: “لقد رصفتُ رسالة الكتاب في تتابع وائل حلّاق نفسه، بحيث يعطي القارئ سلماً تراتبياً واضحاً لفهم الموقف الثالث، الذي عبرتُ عنه بين حلّاق وسعيد، وبين ما يمكن أن يتبينه القارئ كرأي إضافي أو نقدي أو تأييد بينهما،
ولكني عزوتُ مسار الكتاب لصالح المفهوم الأشمل لحوار الفلسفة الأخلاقية العالمي، وأين المأزق في هذا العالم، وكيف نفهم الطريق الجديد، ولذلك هو جدل ثالث كما أؤمن به، وكما أعتقد أن البشرية تحتاجه”.
ومما يبرزه الحبيل في هذا الصدد اتفاقه مع حلّاق في أن إدوارد سعيد ظل في هامش الاستشراق ولم يتقدم إلى المتن الفلسفي الذي تأسس عليه الاستشراق متمثلاً في الحداثة المادية. صـ 70. ويرى حلّاق أيضاً أن سعيد انتقد ظاهرة انحراف الاستشراق مع أنه هو نفسه جزء من تلك الظاهرة، فجاء عمله نوعاً من التواطؤ بين سلطتين.
ورأى الحبيل أن كتاب “قصور الاستشراق”، يعد مدوّنة لفارق زمني مفصلي في تاريخ الفلسفة، ففلسفته تتجاوز مسألة جدله مع إدوارد سعيد إلى فكرة تحرير جديد، “غير أنك تندهش من أن عدداً من الباحثين الإسلاميين لا يزال رهينة لفكرة الصراع المزعومة مع الإسلام، عبر كتاب “الدولة المستحيلة لحلاق نفسه” صـ 66.
ويضيف أن وائل حلاق “كان أكثر فهماً للإسلام من إدوارد سعيد بموقفه الجاف وغير الودي من المرجعية الإسلامية الفلسفية وحاجة العالم إليها، على الرغم من أنه نجح في إحراج الكتلة الاستشراقية المتعصبة وأسقط هالة القدسية عن الاستشراق الكولونيالي، أو روح الكراهية والازدراء التي نفذت للإنسان الغربي في موقع السياسة أو الأكاديمية ومشروعها المشترك” صـ 67.
- نقد الفلسفة الأخلاقية الغربية
يتألف الكتاب من ثمانية فصول: الشرق وسؤال التقوى الداخلي بين سعيد وحلّاق، الضرورة المعرفية لتفكيك التنوير الغربي، لماذا أقصت الحداثة عقل غينون؟ ميلاد المؤلف الجيد، زاوية النظر المختلفة بين حلّاق وسعيد، العمق الرأسمالي للحادثة، الإبادة والحداثة: رابط بنيوي أم سياسي؟ البحث الجديد عن المعرفة الأخلاقية.
ويمكن القول إن الفصل الأخير من الكتاب يحتوي على أهم ما يقصده المؤلف بالجدل الثالث، وهو يركز على ما أسماه “الفلسفة الأخلاقية الغربية… العجز الذاتي”، منطلقاً خصوصاً من رؤى كل من سعيد وحلاق، على حد سواء.
ويرى الحبيل في هذا الصدد أن الفرضيات المستقاة من تاريخ الحياة المعاصرة للعالم الحداثي، ومن نظريات الفلسفة والنطاق المركزي للأكاديمية الغربية، وعلاقتها بالقوة الرأسمالية، تمثل قاعدة على الأقل للبحث عن أسئلة الفشل الكبرى،
وأهم من ذلك زعم عقلانية هذه الأسس، ومن ثم فرض تفسير الحداثة على العالم. ويضيف أنه على الرغم من أن هذه الرؤية التي ذكرها حلاق هي محل اهتمام من تيارات عديدة للفلسفة الأخلاقية، لكنها تمثل حالة منظور جزئي أعور،
وكأننا نعود لوصف العمى المعرفي، الذي لا يتيح فرصة إعادة النظر في الإخلال الضخم في البيئة الاجتماعية، الذي يقوم على هذه المعادلة المعرفية التي أنتجتها الحياة الغربية، وتفرّع عنها المؤلف المعارض من داخل النطاق المركزي، فعرض فلسفته الأخلاقية من الهامش ولم يناقش المتن”.
ويرى الحبيل أن كل مدرسة من هذا الإرث الحداثي، ليبرالية أو ماركسية، تصنع تبريرها في إطار عقيدة التقدم التي كانت جوهر التبرير للزحف العنيف على الإنسانية، فيُحشد المسرح الكوني للفكرة العالمية بمهابة ضخمة تحيط المناهج التبريرية، بدءاً من نيكول ميافيلي، وتوماس هوبز، إلى هربرت ليونيل، وأدولفوس هارت، وجون رولز، وجوزيف راز.
ويضيف أن مهابة وصف ذلك الإرث بالعالمي، هي مهابة جاثمة تقدم نفسها بالثقل الفكري، الذي يزعم تفوقه المطلق فوق النقد، فهي القيم الحديثة، وهذا يكفي لتبرير الأساس الأخلاقي الذي يخوض فيه نقاد الحداثة من داخلها،
ومن ثم فإنه لا يمكن المضي في تحرير النقد، وفرزه داخل المدارس الفلسفية الأخلاقية للغرب، من دون العودة إلى تفكيك جذور هذا التشكل والمطلق العقلاني فيه، خصوصاً أن العامل البشري المستثمر لمسيرة المعرفة السيادية، التي قُدمت في ثوب عقلانية سيادية، لا تُمس بالنقد من خارجها، هو الذي يدير مصالحها النفعية عبر السيطرة والتحكم، ويخنق كل فكرة معرفية أخرى، في زاوية إدانة، وخطاب خارج العقل، كما فعلت الحداثة (لإقصاء) الإسلام.
ويلاحظ الحبيل أن رؤية حلّاق المتعلقة بأن الجامع بين المنظومات التراثية هو المشترك في التحقق من خطر عالمي يهدد الجميع، هي إدراك يستشعره العقل المجرد، فضلاً عن أن هذا الخطر تحقق بناءً على مفهوم نفي الإنسانية عن الآخر الذي انفردت به الحداثة الغربية،
كما أن المعرفة السيادية هي نتاج فكر حديث لا عهود تراثية قديمة، ومن ثم ينبغي بدء حوار نوعي، ليس في الجانب الإسلامي، باعتبار أننا أمام تراث مقابل تراث، وإنما معرفة مختلفة عن المعرفة السيادية للغرب.
ويستطرد، “ولكن هذا الحوار في أصل مقترحه، لا يقف عند الشرق المسلم، بقدر ما هو يقترح طاولة مستديرة بين المنظومات التراثية والدراسات التقليدية بين الجنوب والشمال، وهي خطوة مرحب بها في اتجاه الهدف الأول، وهو تحقيق أي فارق إنقاذي للحياة الإنسانية” صـ 164.
- نحو حقل أكاديمي جديد
ويختتم الحبيل بالتشديد على أن الأمر هنا ( في الكتاب) ليس أن نحسم من المنتصر في خلاف وائل حلّاق وإدوارد سعيد، لأن الكسب الأكبر هو للمعرفة، من فكر كلتا الشخصيتين والكتابين، “غير أنني لابد أن أؤكد أن الحصيلة النهائية لكتاب حلاق تتجاوز مسألة الردود والنقاش لرحلة إدوارد سعيد في الاستشراق.
وأهم جانب هنا هو أنها تفتح الباب لحقل أكاديمي جديد في موضوعه، ومنصة حواره التي يحتاجها عالمنا اليوم. وحين نعود إلى كتاب “الاستشراق” وتتبع سياقات المؤلف ذاته، والنظر إلى جوهر خلاف وائل حلاق مع إدوارد سعيد، سنجد أنه ينصب على الموقف من المرجعية المعرفية الأخرى.
خارج مصالح الغرب ومفهوم تمييزه، فالاعتبار هنا، هل الاستشراق كان فرعاً لهذه الحداثة؟ نلاحظ أن إدوارد سعيد في أكثر من موضع يقارب هذه القضية، لكنه لا يدخل فيها، فضلاً عن أن يتعمق. فحين يتناول إدوارد سعيد مناقشة المستشرق البريطاني هاملتون جب، ويعده الأكثر استحقاقاً للشجب مقارنة مع سابقيه من المستشرقين.
يركز على وضع الإسلام في قيمة اللامرئي (الغيب) ويشير إلى وجود سيادة وأسبقية للإسلام عن الحياة. وفي موضع آخر يتحدث عن موقف جب من عدم قدرة الشرق على بناء منظومة – قانون – للأشياء المرئية، ويقول إذا بدت هذه وكأنها (حقيقة) فهي عاجزة عن تفسير الإنجازات الفائقة التي حققتها العلوم الإسلامية، وبُني عليها القدر العظيم للعلوم الحديثة”.
ويلاحظ الحبيل في الخاتمة كذلك أن مشكلة سعيد، هي عدم عبوره الخط المعرفي الفاصل، والتقدم لفهم المقارنة المعرفية، وليست المشكلة في إدانة الاستشراق الذي سيظل سعيد متصدراً ومتميزاً فيها، كما أنه فتح الطريق لعبور نوعي احتاجه العالم لا الشرق وحسب.
ويضيف أن “المساهمة التي قدمناها في الكتاب والبعد الذي حررناه كرؤية للمؤلف يندرجان في ممارسة هذه الحرية المعرفية عبر السقف الجديد، لذلك لا يجوز للباحث أن يظل رهناً لحوار فكرتين إلا عبر دلائل فهم ناضج لرجحان إحداهما،
كما أن الرجحان هنا أو هناك لا يمنع من أن الفكرة الثالثة للمعرفة هي تتمة أو تصحيح، ولا بد من الإقرار هنا بأن ما قدمته هو تمهيد تأصيلي ورصف طريق أولي يحتاج بعده إلى إصدار تخصصي ينقل مفاهيم التراث وتجاربه الواسعة والمتعددة إلى المنظار القيمي، وهو منظار لا يقوم على صورة تراثية مستقاة بحسب ما يظن بعض أنصار الخطاب الديني أو خصومهم،
وإنما منظار معاصر، يدرك كيف تتحقق قواعد القيم، ومصالح الفرد والمجتمع الإنساني، في قوالب معاصرة تساعدهم على الوصول إلى كتلة التغيير المنشودة”.