أوكرانيا وروسيا .. حرب الذاكرة والكتاب والصورة
بدأ التراشق الثقافي بين روسيا وأوكرانيا منذ عقدين، خلال فترة حكم الرئيس الأوكراني، فيكتور يوشتشينكو (2005 ـ 2010)، والذي أثار موضوع الإبادة الأوكرانية المعروفة باسم “هولودومور”، أو القتل بالتجويع، التي تعرض لها الأوكرانيون أيام حكم جوزيف ستالين (1932 ـ 1933)، حيث تشير التقديرات إلى أن ما بين 2.2 و 3.5 مليون أوكراني قد ماتوا في هذه المجاعة، والبعض يطرح أرقامًا أعلى من ذلك بكثير.
وأصدرت وزارة الخارجية الروسية ستة آلاف وثيقة تنفي فيها المجاعة، وعدتها “نتيجة سياسة ستالين الإجرامية” ضد الفلاحين، وليس ضد أي مجموعة عرقية معينة. وتحاشى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أن يتحول الدفاع عن روسيا إلى إعادة اعتبار للستالينية، وجرى التوجيه بنشر الأسطورة القائلة بأن النخب هم الذين عانوا أكثر من غيرهم من عمليات التطهير التي قام بها ستالين.
وجاء موقف يوشتشينكو في إطار الفهم المتزايد لأوكرانيا ككيان سياسي متعدد الثقافات، والتقدير للثقافة الأوكرانية كأداة للقوة الناعمة، ومن باب الرد على النظرة الدونية للثقافة الأوكرانية باعتبارها ضيقة الأفق وقديمة وريفية، بالنسبة للثقافة الروسية التي يجري تقديمها على أنها عالمية وحديثة وحضرية.
وتوصلت بعض الشخصيات الثقافية، مثل الروائي الأوكراني الشهير أندريه كوركوف، الذي يكتب باللغة الروسية، إلى فكرة أن “أوكرانيا يجب أن تمتلك ثقافتها الناطقة باللغة الروسية، والتي تختلف عن العالم الثقافي للاتحاد الروسي”، وحتى لإنشاء معهد لدراسة اللغة الروسية الأوكرانية.
ومن يتأمل المشهد جيدًا يجد أن التاريخ والذاكرة الجماعية أصبحا مصدرًا مهمًا لشرعية النخب السياسية الأوكرانية في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي. ورأى هؤلاء أن بناء وترسيخ هوية وطنية جديدة هدفهم الأساسي، ونشأت حرب ثقافية جديدة منذ عقدين حول قضايا مثل حصص المحتوى باللغة الروسية في وسائل الإعلام الأوكرانية، والقيود المفروضة على استيراد الكتب الروسية، وحظر الشبكات الاجتماعية الروسية، وجولات الفنانين الأوكرانيين في روسيا، وعروض الفنانين الروس في أوكرانيا.
ولم يكن رد الفعل الأوكراني على الصراع من جانب واحد، فقد تم إغلاق المكتبة الأوكرانية الوحيدة في موسكو، على سبيل المثال، واعتقال مديرها بتهمة التطرف.
قبل ذلك، لم يتعرض الأوكرانيون للقمع، أو التمييز الثقافي، من قبل النظام السوفياتي، وتم استيعابهم في الثقافة الروسية؛ ولم يعاملوا أبدًا على أنهم “آخرون”، بل شاركوا بنشاط في بناء الإمبراطورية الروسية، ثم السوفياتية.
ومن هذا المنظور للغة والثقافة الروسية مكانة شرعية في أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، ولكن ذلك انتهى بين يوم وليلة، وقرر القادة الأوكرانيون الجدد طي هذه الصفحة، والعمل في اتجاهين، الأول هو فك كل ارتباط بالثقافة الروسية، والثاني هو بناء شخصية وطنية ثقافية أوكرانية تكون ملهمة سياسيًا، ومغذية لنزعة الانفصال عن روسيا. وهذه المفاهيم يجري العمل بها منذ عام 2019.
كان لضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا في إقليم دونباس، وتدخلها العسكري هناك، تأثير ضار على جميع جوانب العلاقات الأوكرانية- الروسية، ومنها الثقافة، واتخذت حكومة كييف جملة من إجراءات المقاطعة الثقافية التي لقيت دعمًا كبيرًا بين الأوكرانيين. وفي الواقع، جاءت المبادرة، والضغط القوي، في كثير من الأحيان، من المجتمع المدني.
ومنذ ذلك الوقت، ارتفع منسوب النزاع على قضايا الثقافة والذاكرة التاريخية والهوية، وبات هو الاتجاه السائد الجديد في أوكرانيا ردًا على ما يسمى بـ”العدوان الهجين” الروسي، والذي تضمن دعم القوى الراديكالية المعادية لأوكرانيا، والتحريض على الصراع الداخلي، واستخدام الأخبار المزيفة، ونظريات المؤامرة، واستغلال السرديات والرموز التاريخية في التعبئة المؤيدة لروسيا.
وأصبحت وسائل الإعلام أداة للدعاية، وصار يجري النظر إلى الثقافة الجماهيرية الروسية على أنها سلاح في حرب مختلطة، وفي كانون الثاني/ يناير 2015، أعلن البرلمان الأوكراني روسيا “دولة معتدية”، وهي صيغة مستخدمة في التشريع الجديد.
وتهدف إلى تقييد وصول المنتجات الثقافية الروسية إلى السوق الأوكرانية، وكانت الكتب والإنتاج التلفزيوني والسينمائي في طليعة الضحايا، ثم تطور الأمر ليشمل الفنانين والكتاب الروس الذين تعرضوا للمنع من إقامة حفلات، أو المشاركة في منتديات، أو معارض كتب في أوكرانيا.
وتحوّلت الكتب الروسية إلى قضية سياسية ساخنة في صيف 2014، عندما أعلن منظمو معرض الكتاب الأقدم والأكثر شهرة في أوكرانيا، منتدى الكتاب في مدينة “لفيف”، جنبًا إلى جنب مع المبادرة المدنية حركة المقاطعة الاقتصادية، أن الناشرين الروس غير مرحب بهم في هذه المدينة الواقعة في الغرب، والقريبة من الحدود البولندية، وجرى ربط ذلك باستمرار المواجهة في دونباس. وبرر مجلس بلدية المدينة قراره بمقاطعة الناشرين الروس طالما استمرت الحرب ضد أوكرانيا.
وجرى التعامل مع الكتاب مثل أي سلعة أخرى، وشراء السلع المنتجة في روسيا يعني تمويل قتل الأوكرانيين، واحتلال الأراضي الأوكرانية. أثار الأمر انقسامًا بين الكتاب الأوكرانيين المشهورين، ومنهم من برر مقاطعة الكتب الروسية بكون “دور النشر في روسيا اليوم هي مؤسسات دعاية، وبالتالي فهي “جيش خفي” لحرب المعلومات، كما كانت الحال في ظل الاتحاد السوفياتي”.
وانتقد آخرون المقاطعة، ودافعوا عن نهج أكثر انتقائية، مثل حظر الكتب ذات المحتوى المعادي لأوكرانيا فقط. ونتيجة للحملة، لم يشارك الناشرون الروس في معرض الكتاب.
وبعد عام واحد، في تموز/ يوليو 2015، انضمت الدولة الأوكرانية إلى “حرب الكتاب”، وقامت بمنع 38 كتابًا روسيًا بمحتوى مناهض لأوكرانيا في “قائمة السلع المحظورة من الدخول” رسميًا إلى المنطقة الجمركية لأوكرانيا.
تم تبرير القرار من خلال “ضرورة منع استخدام الاتحاد الروسي لحرب المعلومات وأساليب التضليل ضد المواطنين الأوكرانيين، ونشر أيديولوجية الكراهية والفاشية وكراهية الأجانب والنزعة الانفصالية”، عند القوميين الروس، مثل: ألكسندر دوغين، وإدوارد ليمونوف، وسيرجي غلازييف.
وفي حين تم الترحيب بالقرار في أوكرانيا كإجراء طال انتظاره، حذر بعض نشطاء حقوق الإنسان من أن هذا قد يكون الخطوة الأولى نحو الرقابة.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2016، اعتمد البرلمان الأوكراني قانونًا “بشأن دخول المطبوعات الأجنبية ذات المحتوى المناهض لأوكرانيا إلى السوق الأوكرانية”. وينص القانون، الذي دخل حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير 2017، على “الحصول على إذن لاستيراد الكتب من روسيا والأراضي المحتلة مؤقتًا في أوكرانيا”.
والأمر ذاته في ما يخص منح التصاريح من قبل لجنة الدولة للبث التلفزيوني والإذاعي، بعد تقييم المحتوى من قبل “مجلس الخبراء” الذي تم إنشاؤه خصيصًا لهذا الغرض. وهكذا أصبح توزيع الكتب الروسية من دون إذن جريمة بموجب القانون المدني يعاقب عليها بغرامات.
ومع ذلك، يحق للمواطنين العاديين إحضار ما يصل إلى عشرة كتب روسية إلى أوكرانيا من دون إذن خاص. بالإضافة إلى ذلك، حظر القانون “الترويج والدعاية للدولة المعتدية” (أي روسيا) في وسائل الإعلام المطبوعة.
أما المواد التلفزيونية والموسيقية والفنية الروسية فتعرضت للمقاطعة الأولى في ربيع 2014، وأعلنت بعض دور السينما في كييف، ولفيف، وأوديسا، أنها ستمتنع مؤقتًا عن عرض الأفلام الروسية.
وبعد هزيمة الجيش الأوكراني في دونباس، تم إطلاق حملة مقاطعة الأفلام الروسية، التي بدأها نشطاء نظموا حشودًا سريعة، وعروضًا مسرحية في الشوارع، وأعمالًا احتجاجية أمام المكاتب الحكومية ودور السينما التي تعرض أفلامًا روسية.
وشرع النشطاء أيضًا في مراقبة محتوى القنوات التلفزيونية الأوكرانية، وبعد ذلك تم فرض القيود على الفنانين الروس الذين يتجولون في أوكرانيا. وأثرت هذه الإجراءات على الممثلين، وصناع الأفلام، ومغنيي البوب، والموسيقيين، الذين أيدوا ضم شبه جزيرة القرم، أو أدلوا بتصريحات مناهضة لأوكرانيا. وما بين آب/ أغسطس 2014، وتشرين الأول/ أكتوبر 2018، تم حظر حوالي 780 فيلمًا ومسلسلًا روسيًا.
كان يمكن للمرء أن يتوقع أن فوز فولوديمير زيلينسكي وحزبه “خادم الشعب” (سلوها نارودو) في كل من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية سيحدث تغييرًا في السياسة الثقافية لأوكرانيا، في ما يتعلق بالقيود المفروضة على الثقافة الروسية، وذلك لأنه كان فاعلًا وممثلًا ناجحًا ذائع الصيت في البلدان الناطقة بالروسية، وكانت شركته الترفيهية Kvartal 95 Studio تحقق أرباحًا في روسيا، ولكن القيود المفروضة على الثقافة الجماهيرية الروسية بقيت سارية حتى اليوم!