نقد

ثقافة التحجيم

قبيل امتحانات البكالوريا لهذه السنة اتخذت إجراءات صارمة وقاسية ضد الغش في الامتحان. وبعيد الامتحانات قدمت إحصاءات عن تراجع النسب المئوية للغش. لست أدري لماذا نناقش بعض الظواهر، ولا نتناقش حول أسبابها الدافعة إليها. ليس الغش في الامتحان سوى صورة عن الفساد الشائع في مختلف مرافق الحياة. وهما معا موجودان أبدا، بشتى الصور.


أتذكر عندما كنا تلاميذ، وحتى طلبة، أن الذين يغشون قليلون جدا في كل قسم، وهم معروفون لدى جميع الطلبة، لكن أن يصبح الغش قاعدة عامة يشترك فيها المجتهد والكسول، فهذا أمر يدعو إلى التساؤل ليس فقط على المستوى التربوي والتعليمي، ولكن على المستوى الاجتماعي أيضا.


ما الفرق بين الغش في المدرسة، وتزوير الانتخابات والوثائق، وفساد البضائع، والرشوة في الإدارة والسياسة والاجتماع؟ وضد من يمكن اتخاذ الإجراءات الصارمة والقاسية؟ بل يمكننا التساؤل هل تتخذ تلك الإجراءات بالكيفية نفسها؟ وهل تطبق في كل الشروط والملابسات؟ أسئلة لا يمكننا إلا طرحها لأن النظر إليها مجتمعة يسلمنا إلى تأكيد أن هذا الغصن من تلك الشجرة.


ومتى كانت الجذور مريضة لا يمكن لكل ما يلوح منها، في الظاهر، سوى أن يظل متأثرا بما يُخبأ في الباطن. وبما أننا لا نلتفت إلى الظواهر إلا عندما تصل أقصى ما يمكنها بلوغه، وتصبح حديث الغادي والرائح، أعتبر ذلك وليد ما أسميه «ثقافة التحجيم».


وهذه الثقافة تعبير عن ذهنية عامة نجد أصولها كامنة في متخيلنا الثقافي، الذي نجد من بين تعبيراته: «دع المقادير تجري في أعنتها»، و»لكل حادث حديث». وما دامت تلك المقادير تجري، فما علينا سوى النوم ملء الجفون، ومتى وقع الحادث، علينا الحديث. وبما ان كل حديث مهما كان الحادث ليس سوى زوبعة في فنجان وبلا طائل، فما علينا سوى الارتهان إلى ثقافة التحجيم.


التحجيم إعطاء حجم ما للشيء لا يعكس حقيقته. فقد يكون بالتكبير أو التصغير، بالتضخيم أو التقزيم. فالتلميذ الغاش يحجّم المادة التي يريد استثمارها في الامتحان، إلى درجة أنها تصبح متناهية الصغر. نسميها «الحرز» أو «الحجاب». والتسمية دالة على البعد الخرافي. والموظف الفاسد يحجّم المبالغ التي يريد تحويلها إلى حسابه بتضخيم الفاتورات، كي لا يظهر الأثر عند المحاسبة. ونعتبر ذلك «نفخا» في المصاريف. ولا فرق بين «الحجب» و»النفخ»، فكلاهما يدخل في باب السحر الذي يراد به تحويل الأشياء لتظهر على غير حقيقتها.


تسري ثقافة التحجيم في مختلف جوانب الحياة. فبائع الخضار والجزار يحجمان البضاعة الجيدة عن طريق الإبراز، والسيئة بالإخفاء. والسياسي والإعلامي والإحصائي يحجم المعلومات، أو الأرقام بالشكل الذي لا يعكس الحقيقة لهوى في نفسه، وقس على ذلك. سريان هذه الثقافة في مجتمعاتنا العربية لا يعني إلا أننا لا نعير «الحقيقة» أية أهمية في الحياة.


فالكل يريد أن يعيش نقيض الواقع، ويعمل المستحيل من أجل تحقيق ذلك. كان التلميذ ينجح باجتهاده وجديته، لأنه كان يتلقى بالعصا تعليما جيدا، ويربى بطريقة صارمة مبنية على المراقبة اليومية والمتابعة الدائمة، ويحرص على الحصول على المعدل بمجهوده الشخصي. أما عندما صار يحجّم بـ»التنجيح»، حتى بدون معدل، بعد بروز مقولة «الهدر» المدرسي، صار يطالب بالنجاح الدائم وفي كل مراحل الحياة.


وكرس التعليم «الخصوصي» ذلك، فنجاح التلميذ رديف مصاريف التدريس. وبات التلميذ هو الذي يحاسب الأستاذ على النقطة، وبات الغش مكسبا ينبغي ألا يناقش. والذي تربى على الغش وهو تلميذ لا يمكن أن يكون إلا موظفا فاسدا.


كما أن الموظف أو البرلماني الذي ينجح في «التزوير»، أو يبدل حزبه الذي رفض تزكيته، وينتقل إلى حزب آخر في اليوم نفسه، وينجح في الانتخابات غدا، لا يمكنه إلا أن يمارس التحجيم بتضخيم ثرواته، ونقلها إلى الخارج، ما دام لا يتابع ولا يحاسب، بل إنه يطالب، وهو الذي تربى على الاستفادة والنجاح في مسيرته، بالترقية إلى موقع أعلى يسمح له بتنويع مصادر ثروته وتضخيمها، إسوة بمن سبقوه إلى الفساد، وكان مآلهم الترقية. وما دام كل حديث عن حادث ينتهي بـ»تحجيم» إعلامي ما، ينحني حتى تمر العاصفة، وتعود حليمة إلى عاداتها القديمة، في غياب أي متابعة أو مراقبة، أو محاسبة أو مواكبة.


لا يمكن أن تسود ثقافة التحجيم إلا في المجتمعات التي يفسد تعليمها. ففساد التعليم يؤدي إلى كل أنواع الفساد التي يمكن أن تسود في المجتمع. ولا يعني فساد التعليم سوى فساد الثقافة التي يتشبع بها الأفراد، وتمارسها الجماعات. وآية فساد التعليم والثقافة غياب العلم الذي ينشد الحقيقة لا التحجيم والتزييف والتزوير والتشويه، لماذا لم تتطور عندنا العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية؟ ولماذا تظل جامعاتنا لا تسهم في تطوير العلوم المختلفة إسوة بالجامعات العالمية؟ هيمنة ثقافة التحجيم وسيادتها عندنا لا تعني سوى هيمنة الغش والفساد في كل شيء.


ما دمنا نترك المقادير تجري وفق أحاديث الأحداث تتربى مجتمعاتنا على الغش في المهد، ويستمر الفساد إلى اللحد. إنه التحجيم.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى