الدراسات الأدبيةنقد

مفهوم “القيمة المُهيمنة” في المنهج الشكلاني

إن المنهج الشكلي لم يكن نظاما ساكنا من “الشكلية”، بل كان دائم التطور والتغير، واتسم بعنصر التجديد والتوسيع المستمر لمجال الدراسة والبحث، لذلك يرى “رومان جاكبسون[1] أنه يمكن التمييز بين ثلاثة مراحل أساسية مر منها البحث الشكلاني الروسي في بداياته الأولى:


المرحلة الأولى هي مرحلة تميزت بتحليل الخصائص والمظاهر الصوتية للأثر أو العمل الأدبي، وكان الهدف من هذه المرحلة إبراز قيمة الأصوات في اللغة الشعرية، وإعلان الثورة على ميراث “بوتيبنيا”[2] ونظريته العامة التي قبلها الرمزيون، والتي كانت ترى في القافية والأصوات، والنظم…، مجرد أشياء ثانوية، لا قيمة لها، ولا تميز الشعر، فتركزت جهود الشكلانيين الروس في هذه المرحلة على رفض هذا التصور ودحضه، في حين،


اهتمت المرحلة الثانية بمشاكل الدلالة والمعنى في إطار نظرية الشعر(الشعرية). أما المرحلة الثالثة فارتكزت على إدماج الصوت والمعنى في رحم الكل غير المنقسم والتام، في محاولة منها لتجاوز جدلية ثنائية الشكل والمضمون، وفي هذه المرحلة بالذات، انتشر مفهوم القيمة المهيمنة، بشكل إجرائي واسع[3].


ويقصد بهذا المفهوم ذلك العنصر البؤري “للأثر الأدبي: إنها تحكم، وتحدد وتغير العناصر الأخرى، كما أنها تتضمن تلاحم البنية.”[4]، ومعنى هذا أن العنصر المسيطر يتحكم في المكونات الأخرى، ويبت فيها، ويغيرها، كما أنه يضطلع بدور ضمان كمال النظام والبنية، فالقيمة المهيمنة هي التي تحدد العمل الأدبي (الجنس الأدبي)  مهما كان شكله وتكسبه خاصية النوعية.


إن العمل الفني يتشكل من مجموعة من العناصر تحكم بناءه لتعطيه ماهيته وخصائصه النوعية، وضمن هذه العناصر هناك عنصر لساني نوعي يسيطر على البنية الكلية للأثر الأدبي؛ إنه يعمل بوصفه مقوما إجباريا وغير قابل للتحويل يتحكم بالعناصر الباقية جميعا ممارِسا بصورة مباشرة تأثيره فيها[5]. وبالتالي يصبح هو الموجه الأول لحركة النص الداخلية والمحدد الأساس لمعالمه.


إن الشعر حسب “رومان جاكبسون” هو مفهوم بالغ التعقيد والتركيب، وهو عبارة عن نظام من القيم، المنتظمة في هرمية خاصة، (من القيمة العليا إلى القيمة الدنيا)، وبين هذه القيم قيمة رئيسية وأساسية، هي المسيطرة، وتكمن أهمية هذه القيمة في أمرين أساسين، الأمر الأول وهو أنه من خلالها نفهم الشعر وندركه، والأمر الثاني أنه على أساسها نصدر الأحكام على الشعر.


ومن الخصائص الأساسية لهذه القيمة المسيطرة أنها لا تتميز بسمة الثبات والسكون، وإنما هي قيمة متبدلة من عصر أدبي لآخر ومن اتجاه ومدرسة فنية لأخرى، وبالتالي تصبح كل سلمية القيم الشعرية متغيرة ومتحولة.

والمقصود بهذا أن الشعر قد يتحدد بالخطاطة المقطعية، أوبالوزن أو الموسيقى، أو القافية،  أو بالصورة، أو بالنبر، أو بالتوازي، أو بالتكرار أو بخاصية أخرى … وتختلف هذه القيمة المهيمنة من حقبة إلى أخرى. و“إنه من الممكن بحث وجود قيمة مهيمنة ليس فقط في الأثر الأدبي لفنان مفرد، ولا في الأصل الشعري أو في مجموع أصول مدرسة شعرية، ولكن، أيضا، في فن حقبة معينة، باعتبارها كلا واحدا.”[6]

وللتدليل على هذا القول يقدم “رومان جاكبسون” العديد من الأمثلة، فيتحدث عن الشعر التشيكي للقرن الرابع عشر، أنه لم تكن العلامة الملازمة له هي الخطاطة المقطعية بل القافية، فكانت الأشعار التي ليست لها قواف غير مقبولة في تلك الحقبة، وعلى عكس ذلك، فالقافية، في الشعر الواقعي التشيكي للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت اختيارية لا إلزامية،

بينما كانت الخطاطة المقطعية مكونا إجباريا. ومثال ذلك أيضا الفنون المرئية، في عصر النهضة، كانت هي المهيمنة. في حين، كانت الموسيقا هي المهيمنة في العصر الرومانسي. أما الفن اللفظي، فقد كان مهيمنا في فترة الجمالية الواقعية[7].


يرى “رومان جاكبسون” أن مساواة العمل الشعري بالوظيفة الجمالية أو الشعرية إن صح القول وجهة نظر خاطئة لا محالة لأن العمل الشعري لا يقتصر على الوظيفة الشعرية وحدها، إن  العمل الشعري لا يمكن حصره في الوظيفة الجمالية الشعرية، بل يتوفر على وظائف أخرى، لأن بنيات العمل الأدبي ترتبط بالفلسفة وبخلق اجتماعي معين، 

كما أن الوظيفة الجمالية ليس مقصورة على العمل الشعري وإنما توجد في مختلف الخطابات (الحديث اليومي، الخطبة، المقالات، الصحف،…)، وفي مقابل هذا يقدم جاكبسون موقف آخر يرى في العمل الشعري عبارة تراكم وتعدد آلي وميكانيكي من الوظائف، وأصحابه يرون في العمل الشعري وثيقة عن التاريخ أو عن المحيط أو حياة الشخص، وذلك لأنه يتوفر على الوظيفة الإحالية(الإشارية).

وهناك وجهة نظر أخرى تتعارض مع الموقفين السابقين، انتبهت إلى تعدد وظائف العمل الشعري، لكنها تحسب حساب تلاحمه وتوحده، بعبارة أخرى: ما يضفي عليه وحدته ووجوده ذاته، وبالتالي فإن العمل الشعري يحدد باعتباره تلك الرسالة اللغوية التي وظيفتها الجمالية هي المسيطر فيها.


إن تحديد الوظيفة الجمالية باعتبارها هي الوظيفة مهيمنة على العمل الشعري يسمح بتحديد سلمية وهرمية  الوظائف مختلفة الأخرى  داخل العمل الشعري.

فإذا كانت الوظيفة الجمالية تؤدي دور المهيمنة في البلاغ كلامي، فإن هذا البلاغ يمكن، بالتأكيد، أن يلجأ إلى عدد كبير من أنساق اللغة التعبيرية، لكن هذه العناصر  تصبح مشدودة إلى الوظيفة الحاسمة للعمل والغالبة فيه، أي يتم صياغتها من طرف المهيمنة. وتجدر الإشارة إلى أنه كما تهيمن الوظيفة الجمالية الشعرية على الشعر، تهيمن  الوظائف الأخرى(الانفعالية، التأثيرية، الإحالية، التعبيرية، المرجعية،…) على الخطابات المتنوعة.


إن الدراسات حول القيمة المسيطرة كانت لها نتائج مهمة في ما يتعلق بالمفهوم الشكلاني للتطور الأدبي ففي تطور شكل شعري، لا يتعلق الأمر كليا بزوال بعض العناصر وانبعاث عناصر أخرى، بقدر ما يتعلق بانزلاق في العلاقات المتبادلة بين مختلف عناصر النظام.

إن العناصر التي كانت  في الأصل ثانوية وعرضية، في إطار مجموع معين من القواعد الشعرية العامة، أو بالأحرى الخاصة في مجموع القواعد الصالحة لنوع إنشائي معين، تغدو، على العكس، أساسية وفي المقام الأول. وخلافا لذلك، فالعناصر التي كانت، في الأصل، مهيمنة لا تعود لها سوى أهمية صغرى؛ فتصبح اختيارية لا أساسية.[8]

وعلى العموم، تبقى القيمة المسيطرة معيارا شكليا جوهريا يمكن الاعتماد عليه للتمييز بين الأجناس والأنواع الأدبية، وبين الأنظمة الشكلية الأدبية، ويستخدم كذلك لتمييز النصوص عن بعضها البعض.


[1] – رومان جاكبسون (1896-1982م) ولد في موسكو  سنة 1896م  من عائلة يهودية  روسية، قام بتحرير مجلة “رأي الطالب” وهو في سن الثانية عشر كانت له اهتمامات بالشعر والفولكلور، وفي سنة 1920 ترك موسكو وانتقل إلى براغ ،  قدم أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه عام 1930 وقد قابل فيها عدة علماء في الألسنية وتاريخ اللغات فاشترك معهم في إنشاء “حلقة براغ الألسنية”  1926م،  وبسبب  الظروف السياسية، انتقل ياكبسون إلى البلاد الإسكندنافية  ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك التقى مشاهير العلماء أمثال “هال” و “نوام تشومسكي” وتعاون معهم فكان لذلك أبلغ أثر في تطوير الدراسات الألسنية بشكل عام توفي ياكبسون عام 1982م، بعد أن مضى حياة مليئة بالعمل والبحث والدراسة.

[2]-ألكسنر بوتبنيا  Aleksander Potebnya 1835-1891م، يرى أن الشعر تفكير بواسطة الصور، وأنه لا يوجد فن وبصفة خاصة شعر دون صورة. ينظر: إبراهيم، عبد الله وآخرون،  معرفة الآخر(مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة)، المركز الثقافي العربي، ط2، 1996م، 9-10.

[3] – رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، نظرية المنهج الشكلي، تـ: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1982م، ص:81.

[4] – رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، نظرية المنهج الشكلي، ص:81.

رومان جاكبسون: (المسيطر)، نظرية الأدب في القرن، تـ.عيسى علي العاكوب، ط1، 1996م، ص24[5]

[6] – رومان جاكبسون:  (القيمة المهيمنة)، نظرية المنهج الشكلي، ص:82.

[7] –  المرجع  نفسه: ص ص 82-83.

[8] – المرجع نفسه: ص ص 84-85.

يونس بومعزة

طالب باحث بمسلك الماستر المتخصص في المناهج اللغوية والأدبية لتدريس اللغة العربية بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس/ المغرب، عضو الرابطة الدولية للباحث العلمي بالإمارات العربية المتحدة، وعضو مشارك باتحاد الجامعات العربية، نشرَ العديد من المقالات منها: "الأصل والفرع في علوم اللغة العربية"، "الصورنة ودورها في بناء النماذج اللسانية"، "قضية الأصوات في المنهج الشكلاني".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى