لماذا ترجمة «النهايات» لعبد الرحمن منيف ؟
- إيريك غوتيه - كاتب وأكاديمي فرنسي - ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
انصرمت ست عشرة سنة على رحيل الروائي العربي عبد الرحمن منيف، الذي مثلت تجربته استثناء دالا في السياق الثقافي العربي. لا يمكن اختزال التراث الذي خلفه الكاتب الراحل في نصوصه الروائية، لأن ذلك يشكل لا محالة تبخيسا لقيمته بوصفه مثقفا من العيار النادر، احتكم إلى الوعي النقدي العميق، كي يستقرئ الراهن العربي بأعطابه وإخفاقاته ويحدس بالمستقبل وكوارثه وعاهاته.
ولئن كان منيف قد أفلح وباقتدار كبير في استثمار الرواية باعتبارها شكلا تعبيريا كي يعبر عن هذه الرؤية النقدية فإن ذلك لم يحل بينه وبين أن يغني المكتبة العربية بمؤلفات تعكس التزامه، بوصفه مفكرا ومثقفا وصاحب موقف سياسي واضح مما يجري في العالم العربي، ويكفي في هذا الخصوص أن نشير إلى كتبه «الديمقراطية أولا الديمقراطية دائما» و«الكاتب والمنفى وآفاق الرواية العربية» و«عمان سيرة مدينة».
يقترح إريك غوتيي في هذا النص، الذي نقدم ترجمته العربية، قراءة استكشافية للدوافع التي حفزته على ترجمة نص «النهايات» لعبد الرحمن منيف. يتعلق الأمر إذن بدراسة تسلط الضوء على سياقات تعاطي القارئ الغربي من خلال وسيط الترجمة، مع التحققات النصية لثقافتنا العربية. يعمل الكاتب أستاذا للغة والآداب العربية في جامعة السوربون الباريسية. وقد سبق له أن أقام لفترة تربو على السبع عشرة سنة في العاصمة السورية دمشق، علاوة على إشرافه على برامج تدريس اللغة العربية في المعهد الفرنسي للشرق الأوسط، في العاصمة اللبنانية بيروت.
- النص
لم يتم استثمار فضاء الصحراء، الذي يمثل مكونا جوهريا في الأدب العربي القديم، وتحديدا في الشعر الجاهلي والأموي، بشكل مستوف من لدن الروائيين العرب المعاصرين. نستثني في هذا السياق الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، والسوري عبد السلام العجيلي، وبعض الكتاب الذين ينتمون إلى بلدان وإمارات الخليج العربي، وقلة منهم من عيار عبد الرحمن منيف، من خصص جزءا لا يستهان به من مشروعه الأدبي للصحراء، وسرد التحولات والاضطرابات التي حاقت بها خصوصا بعد اكتشاف البترول.
ولد عبد الرحمن منيف عام 1933 في العاصمة الأردنية عمان، لأب سعودي وأم عراقية. وعلى الرغم من كونه واحدا من أبرز وألمع الأسماء الأدبية العربية في القرن العشرين، إلا أن القارئ الفرنسي لم يتعرف إلا على عمله الروائي الموسوم «شرق المتوسط»، الذي صدرت ترجمته الفرنسبة عن دار سندباد عام 1985.
ولئن كانت نصوصه الروائية الأولى من قبيل «الأشجار واغتيال مرزوق» و«شرق المتوسط» قد أفصحت عن التزامه السياسي من أجل الارتقاء بوضعية الذات العربية، فإن عبد الرحمن سوف يتمظهر ويتجلى، ويجدد بقوة في خماسيته الموسومة «مدن الملح». ينبغي في هذا السياق أن نأخذ بعين الاعتبار السيرة الشخصية للكاتب. كان من الواضح أن تجربته بوصفه ابنا لرجل سعودي من منطقة نجد، كان في الآن نفسه خبيرا في الاقتصاد البترولي، قد مارست تأثيرها في بلورة عوالم «مدن الملح» ونصوصه الروائية الأخرى الخاصة بموضوع الصحراء.
تعتبر «مدن الملح» الإصدار الثامن في سيرة منيف الروائية، وهي تمثل تجربة فريدة في الأدب العربي المعاصر، بأجزائها الخمسة، وعدد صفحاتها الذي يربو على 2446 صفحة، علاوة على أهمية الموضوعات التي تطرق لها.
عالج المؤلف موضوع التحول الذي طال الصحراء، التي سكنتها قبائل من البدو الرحل، وفق نظام دولة مركزية في البداية. وسرعان ما تحولت إلى مملكة حديثة في ظاهر الأمر، بعد اكتشاف آبار الذهب الأسود. ويستلزم ذلك بطبيعة الحال الإشارة إلى التحولات التي طالت في آن، الاقتصاد والاجتماع والسياسة، علاوة على الذهنيات.
ومثلما هو الشأن في «مدن الملح» فإن رواية «النهايات» بدورها رواية صحراء. تدور الأحداث في الطيبة البلدة الواقعة في الصحراء. وبفعل وطأة الجفاف أصبح الناس في مسيس الحاجة أكثر إلى القنص وإلى عساف الشخصية الرئيسية، الأقرب ما يكون إلى المهمش، الذي يعتبر قناصا لا يشق له غبار.
كان شخصا وحيدا وغريب الأطوار، وقد صرف حياته وهو يذرع الصحراء صحبة كلبه وينام في الكهوف، ويقتات من القنص. ولأنه عارف جيد بالصحراء فإنه يمثل والحالة هذه مزاج ونفسية البدوي، الذي يتميز باحترام عميق للطبيعة، وإدراك جيد للحدود التي ينبغي عدم تجاوزها أو تخطيها.
وقد ألفى نفسه على الرغم من ذلك حيال مأزق يستعصي الفكاك منه؛ إذ يمحض قريته كل الحب ويرغب في مساعدتها.
حين وصول أربعة قناصين مبتدئين إلى القرية، اضطر ضدا على إرادته إلى أن يقودهم إلى حيث يعثرون على طرائد. وهناك هبت عاصفة رملية رهيبة أحاطت بالجماعة، وحجبت كل شيء. عثر على عساف بعد ذلك ميتا قرب كلبه، الذي بذل قصارى جهده كي يرد عنه هجمات آكلة الجيف قبل أن يموت بدوره من فرط العطش.
يحضر فضاء الصحراء بقوة خصوصا في الجزء الأول من الرواية. يتعلق الأمر بفضاء يتسم بعدائيته، وحيث يستعصي تحاشي الموت، ولكنه يثير في الآن نفسه في دخيلة السارد افتتانا وانبهارا، يجدان أساسهما في قوته العظيمة.
جرى اعتبار موت عساف بمثابة تضحية فرد بحياته في سبيل إنقاذ الجماعة، ومنذ تلك اللحظة طرأ تحول مباغت في مسار الرواية على مستويي السجل السردي والإيقاع. جرى تنظيم عزاء عجيب استغرق الليل بكامله، وشارك فيه كل سكان القرية. وقد رغب الجميع في أن يدلوا بدلوهم، وأن يرووا حكاية.
وكانت المحصلة أن رويت أربع عشرة حكاية، وضمنها اثنتان مقتبستان من كتاب «الحيوان» للجاحظ. سوف يتحول هذا السمر التأبيني والجنازة إلى ما يشبه تطهيرا جماعيا، سوف يؤدي بسكان القرية إلى أن يتحدوا بغاية الحصول على الموافقة بالبدء في أشغال بناء سد، كانت الحكومة قد وعدت به قبل سنوات من ذلك التاريخ.
تشكل رواية «النهايات» بفعل بنيتها الثنائية، وإدراج سلسلة من الحكايات قطيعة مع التقليد السردي، الذي استعمله الكاتب في أعماله الروائية السابقة. ثمة وفرة من السمات التي تميز هذه الرواية؛ إذ علاوة على بنيتها الثنائية التي تسبغ عليها طابعا متعدد الأصوات، ثمة تعدد في الأساليب والإيقاع والتقنيات السردية الموظفة.
فإذا كان استعمال ضمير الغائب في البداية هو في الغالب محصلة سارد موضوعي وراسخ في المعرفة، فإن وجهات النظر تتعدد وتختلف. ثمة وصف يتسم بثرائه ودقته وغنائيته وإثارته الدهشة والانتباه للطبيعة والصحراء، ويتناقض مع السرد الشفاف ونبرة الحياد الرتيبة، التي تميز الصفحات الأولى من الرواية.
ثمة خاصية أخرى للعمل تحتل موقعا محوريا، وتتمثل في الفضاء. يسبغ المؤلف أهمية ضافية على الطبيعة والحيوانات وسكان القرية، التي ما تلبث أن تتحول إلى رمز لكل القرى، التي تناضل من أجل البقاء على قيد الوجود. تشكل المديـــنة البعــــيدة والحديثــــة التي تؤوي المؤسسات التابعة للدولة مصدر تهديد واســـتغلال لهذا الفضــاء، كما أن مشروع الســـد الذي ما يفتأ تأخيره يفصح بدوره عن كل ما يفصل الطيـــبة عن المدينة الكبيرة، التي يجري إدراكها بوصفها كلية عصية على الفهم. يمثل مستقبل هذا الفضاء محور وعصب الرواية، ويتراوح بين الحاضر والماضي والمستقبل والقدامة والحداثة. وهي فكرة سيواصل منيف بلورتها في مشروع «مدن الملح».
يحضر فضاء الصحراء بقوة خصوصا في الجزء الأول من الرواية. يتعلق الأمر بفضاء يتسم بعدائيته، وحيث يستعصي تحاشي الموت، ولكنه يثير في الآن نفسه في دخيلة السارد افتتانا وانبهارا، يجدان أساسهما في قوته العظيمة. تضطلع الحيوانات بدورها داخل هذه الرواية بأدوار مهمة، ويشكل عساف تمثيلا دالا على ذلك.
وعلى امتداد الرواية يجري التعاطي مع الحيوان والإنسان على درجة سواء، وينظر إليهما باعتبارهما حاملين لوعي. تجد هذه العلاقة مع الطبيعة جذورها في الماضي، وهو الماضي الحاضر بقوة من خلال الحكايات الأربع عشرة التي جرت روايتها خلال سهرة التأبين، وهي الحكايات التي تجد جذورها في الأغوار السحيقة لتراثنا الشفهي وذاكرة القرية.
وهي الحكايات التي يجري في سياقها الإفصاح ببداهة عن خصال ومميزات الحيوانات، والعلاقات التي تصلها بالإنسان، علاوة على القرف الناجم والمترتب عن أولئك الذين لا يحترمونهم والذين يسيئون معاملتهم.
ثمة مفارقة تتمثل في أن القنص يتم اعتباره أحيانا بوصفه فعلا إيجابيا. وعلى امتداد السرد يلفي المتلقي ذاته أمام كم من المعلومات والتفاصيل التي لها تعلق بطرائد السهوب والصحراء. ثمة فرصة سانحة أمام هذا المتلقي، كي يحيط علما بأنواع من هذه الطرائد، التي تعمر هذه المناطق، ذات الشساعة الهائلة.
طيور لا تحصى ووعول وأيائل وأرانب وثعالب وذئاب. نتعلم والحالة هذه كيف نتعرف على أماكن سكناهم وطرائق عيشهم، وسبل وتقنيات الصيد داخل الصحراء، خصوصا تلك التي تمارس بسيارات الدفع الرباعي.
تحتل رواية «النهايات» مكانة خاصة في سياق المشروع الروائي لعبد الرحمن منيف؛ إذ أرسى داخلها أسس كونه الروائي، وأماط اللثام عن حدود متخيل، سوف يعثر القارئ عليه لاحقا في خماسية «مدن الملح».
يشكل الفردوس المفقود وإسباغ طابع مثالي على الماضي موضوعين رئيسيين، بمعيّة موضوع التحول. تعتبر الطيبة قرية تحيا، وفق نمط عيش لم يطله التغيير منذ عقود كما أن المجتمع الذي يحكمها مجتمع قبلي تحكمه روابط التضامن والتكافل ويسير وفق قيم وأعراف قديمة يستعصي على شخص غريب أن يفهمها.
ويمثل عساف والطيبة هذا الماضي. وهو عالم من القيم وجيل يوشك على الاندثار ومتخل عنه من لدن المدينة الحديثة والدولة، وتبحث عن الطريق الذي ينبغي لها أن تسلكه، وهي تحلم بوجود أفضل. تعرض الرواية من جهة للصراع الذي يخوضه مجتمع تقليدي محافظ، ضد خطر المجاعة وضياع الهوية، ومن جهة أخرى مواجهة تكون الطبيعة عصبها الرئيس، وتكشف مظاهر الاستغلال المسيء لها من لدن الإنسان.
ومن خلال شخصية عساف الذي يقاتل من أجل الحفاظ على الطبيعة وأسرارها، يضفي عبد الرحمن منيف مظهرا مثاليا على نمط العيش الذي يختاره سكان الطيبة منذ قرون، ويشدد على التعارض بين الماضي والحاضر في الوقت ذاته الذي يجلي فيه الشروط الحافة بالتغيير وسياقاته الإجرائية.